نصوص أدبية

نضال البدري: السماء توصد أبوابها

كان عليها تقبّل الواقع الذي فرضته الحياة عليها، والموت الذي قهرها واخذ منها زوجها ورفيق عمرها، تاركا اياها  في ضياع وسط صعوبات لم تكن تعيها  أو تشعر بها، وخصوصا وانه لم يترك لها سقفا تحتمي فيه بعد رحيلة .

بساطته في فهم الحياة جعلته يعيش وفق اخلاقيات زمنه، الذي اصبح قديما بنظر الناس، خصوصا بعد أن خذله ابناؤه ونقضوا كل عهد معه، وجعلوا زوجته وحبيبته تكابد الذل والهوان من بعده. خطأ دفعت ضريبته بسبب حبه لها واسرافه في هدر المال من أجلها .

تجوالها بين اولادها، اجهدها كثيرا  خصوصا بعد أن تمكن  المرض منها وتقدم العمر بها سريعا، أصبحت كعمله نقدية فقدت قيمتها وانتفت الحاجة اليها، فيما أصبحت تعد أيام رحيلها التي تثاقلت، وتعثرت بعد أن فتكت الامراض المزمنة بها، وضعف جسدها الذي أتلفته الادوية والعقاقير، وأبر الانسولين التي اخترقت جلدها الرقيق، بقسوة وافقدته طراوته وكل ملامح الحياة فيه . 

  خاب رجاؤها وهي تستجدي اهتمامهم، وتتوسلهم  للحصول على ثمن الدواء ومكان  تقيم فيه، ولو غرفة صغيرة فوق أسطح أحد منازلهم، لتنزوي بعيدا، لا يشعر بوجوها أحد، وتكف عن التنقل الذي اتعبها وأنهكها بصحبه حقيبتها والتي كانت رفيقها الوحيد في تنقلاتها، وعباءتها السوداء، التي مازالت تضعها فوق راسها متمسكة بزيها البغدادي الجميل .

حقيبتها كانت تعني لها الكثير، فهي عالمها الخاص وصندوق اسرارها، الذي يحوي مقتنياتها، فقد كانت  تحفظ داخلها عطرها الخاص، الذي حرصت أن لا تغيره، لأنه يشعرها بالراحة ويثير فيها عبق ذكريات جميلة، انسابت من بين يديها سريعا، وعلبة سجائرها التي كان لها دور كبير في تلف ما تبقى من رئتيها، لكنها رغم ذلك لم تتوقف عن التدخين الذي  كان متنفسها الوحيد، وفيها ايضا محفظة صغيرة تخبئ بها بعض الاوراق المالية الورقية من الفئة القليلة طويت أكثر من طية، فهي الوحيدة التي تشعرها بالأمان، ووصفات من الدواء اهترئ وتمزق البعض منها دون ان تصرف، وفرشاة اسنان، تنظف بها ثلاث او اربع اسنان، هو اخر ما تبقى في فمها . 

لا صدى يسمع لصوتها، الجميع يتقاذفها من منزل الى منزل ومن مكان الى مكان، وسلوكهم الذي أصبح واضحا بل متبجحا  دون ع خجل منها  او حساب لمكانتها كأم . اصبحت تطيل الجلوس، امام باب الذكريات التي كانت عزائها الوحيد، الذي يخفف عنها وينسيها جحودهم لها ... رغم  ذلك كانت متمسكة  بالحياة قدر الإمكان، وأوهمت نفسها بالقناعة والثقة بالنفس  متسلحة بالصبر، عكس الواقع الذي كانت تتهاوى فيه الى اخر درجات الضعف.

سبع سنوات مرت على رحيل الأب ولم يتغير شيء، كان ابناؤها يشتد عودهم، و يضعف عودها  ويتأكل، أصبحت حياتها مريرة لا تطاق وهي صامته (الصمت يؤلم). اصبحت تجف من الوحدة المرئية والغير مسموعة، بدأت ترفع يدها الى السماء كل يوم وهي تطلب من الله بان يلحقها بزوجها وان يضمها قبر بين القبور الى جانبه، بعد ان كانت متمسكة بالحياة، هذا ما كانت تردده كل يوم، مع السؤال المهم الذي كان يصدح  داخلها كل يوم، أين سأبيت غدا ومن منهم سيستقبلني؟ صارت حين تستفيق صباحا تود ان تعاود غلق اجفانها وتستغرق في النوم تلافيا لمواجه دنياها .

كان الوضع  صعبا والحيرة تلفها من كل مكان. وهي تتصل بهم تباعا قلبها متشوق لهم كأم متأملة أن يرد أحدهم على اتصالها، كان الجميع يتهرب ويتجاهل اتصالاتها، وفي عصر يوم مختلف عن باقي الايام، سكن الضجيج داخلها، وتوقفت عن الكلام، والشكوى وكأنها تنتظر شيئا هي نفسها لا تعرفه. انقطعت شهيتها عن الطعام، اكتفت برشفة ماء  ثم جالت  بنظرها في المكان الذي كانت مستلقية فيه وهوعبارة عن غرفة صغيرة في منزل اصغر أبنائها سنا، والذي كان اقربهم الى قلبها، كان النهار فيه طويلا وعقارب الساعة تسير ببطء والكل منشغل في حياته. لم تكن تعلم بانه كان يوم رحيلها وان مكانها تجهزه الملائكة، وان اكفانها قد نسجت وأن  الله قد نظر اليها ولن يتخلى عنها.

باغتتها رجفة قوية، قلبت سكونها وسرت في جسدها، انتهت بشخوص عينيها نحو افق غيبي مجهول هي فقط من كانت تبصره، واصابع  يدها التي وثبت  فوق مخمل شرشف سريرها الابيض، بقوة  وكأن الروح تأبى أن تفارق الجسد، انتزعت روحها وسكن راسها دون حراك على وسادتها، التي كانت شاهدا على ما عانت من طعنات المرض وجحود اولادها، وبشاعة الحياة التي عاشتها، رحلت مصطحبة معها  كفنها، وما تبقى لها من كرامتها.

صدموا جميعهم خبر رحيلها الغير متوقع، تعالت أصوات بكائهم ونحبهم، وتمنوا او تعود لها الحياة. بعد ان  تراشق الاتهامات بالتقصير وسارعوا الى حمل نعشها، بتشييع مهيب فرض نفسه ورفع من شأنها، وقلل من شانهم وهم يرتدون ثوب الجحود والتقصير، حيث لا نداء سوف يسمع لهم بعد الآن، ولأدعوه ترفع او ترد لهم، لأن  السماء قد اوصدت أبوابها وارتد صدى صوتهم إليهم بلا  مجيب .

***

نضال البدري

في نصوص اليوم