تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: ليلة ليلاء

القسم (5) من ذكريات من رماد

***

قبل أن تفتح محلها التجاري تعودت سلمى أن ترافق سعد في سفرياته تساعده انطلاقا من ثقته في قدراتها التواصلية الفعالة وتدفقها المنطقي والطبيعي اللذين كثيرا ما حققا له رواجا بعائد ماكان ليصله لولاها ثم لا يفوتان فرصا للسياحة والتجوال يغيران بها جو العمل اليومي لسعد..

بعد يوم متعب من زيارات مآثر وحدائق إحدى المدن العتيقة عادا الى الفندق وقد أنهك سلمى التعب فنامت،بينما ظل سعد مشدودا الى رواية عن الشمانية كدين منقرض..

كان يقرأ ثم يسرق نظرات يتملى خلالها وجه سلمى وهي نائمة.. كم يزداد جمالا وفتنة كلما امتدت بها الأيام !!..

وجه طفولي لكنه تحدى وجه أختها بوضاءة تؤنس غربة الروح،يذكره بأختها زوجته المتوفاة قبل حملها، فهي وأختها كانتا كتوأمين متطابقين رغم فارق السن تحملان نفس التقاطيع، ونفس الغمازة على الخد الأيمن، ونفس الرموش الطويلة... كانت أنفاسها الصاعدة النازلة هادئة كهدوء نفسها تزيدها بسمة لا تفارقها إثارة حتى وهي نائمة،وكأنها دعوة لتقبيل تلك الشفاه المنفرجة الصارخة أنوثة؛كان يتملاها وهويقطف من ملامحها أروع ذكريات ماضيه مع أختها..

خمسة عشرة سنة مرت لم تكن سلمى سوى طفلة صغيرة في العاشرة من عمرها، أتت لتعيش في بيت سعد بطلب من أختها ضحى لتساعدها طيلة حملها ؛ قليلة الكلام، تتحرك برزانة وشعلة ذكاء لا يحتاج من يخاطبها الى شروح ليبلغ ما يريد،دقيقة الملاحظة، منتبهة، قوية الذاكرة، يتوهمها الناظر اليها انها غير مبالية بما يجري حولها،لكنها كانت لها قدرة على التقاط كل صغيرة وكبيرة بدقة متناهية.. وهاهي اليوم لسعد زوجة، اقتناعا بحبها له وتفانيها في حب عايدة ابنة أختها،وايمانا بأنها الوحيدة القادرة على أن تعيد له ماض انفرط من حياته كلمح البصر،وقد أصرت أمه على ان يتزوجها للشبه القوي بينها وبين أختها مما قد يخفف عن سعد لوعات الذكرى التي لم يخمدها زمن بنسيان خصوصا وأنها من أسرة عريقة، تحمل شهادة علمية عالية، تحبه وترجو ان تكمل مابدأته أختها، فهي تعرفه وكان لها قدوة ومثلا يحتذى في صباها..

يتنهد بقوة، وهو يستغرق النظر اليها،تتموج صورتها أمامه فتحركه عيونها شهوة تجنح بذكرى تتماوج في صورة أنثى ليبية تعرف عليها قبل أن تعود سلمى من رحلتها الدراسية.بسنتين.

نوران،انثى بعيون واسعة سوداء،جسم سمهري ممشوق، حواجب كثيفة،وقد متناسق..استطاعت أن تشده اليها بقراءاتها المتنوعة عن الديانات القديمة ونقاشاتها الثرية الخارجة عما ألفه،مع أسلوب متين يغرف من ألفاظ القرآن الكريم وصوره النابعة من بنائه المتين..

شرعت نوران تملأ بصره وخاطره ما عمق صلته بها وشجعه على أن يرتبط معها بعلاقة تواصل موصول حقق لهما ثلاث لقاءات احدها في الأردن واثنان بأرض الكنانة من خلال رحلات سياحية متفق عليها، ورغم ماكان يتبدى عليها من ايمان بالخوارق والماورائيات.فقد كان يجاهد النفس على أن يخفف عليها وطء ما كانت تستبطنه كمسلمات تكفنها في أقمطة لاترحم، مفصلا لها وحسب دراساته الغربية ماكان يطبق عليها من ايمان أعمى بكل ماقاله السلف وبالغ فيه حسب المذاهب والطوائف وفترات من التاريخ هيمن فيها الفكر الديني المتشدد والذي يناقض الكثير مما تقتحمه من سلوكات.. واضعا أمامها عشرات الكتب تم تأليفها في أزمنة مختلفة كلها بنفس المضامين لايتغير فيها غير العنوان والبناء المنهجي في حالات قليلة ينقل منها الخلف عن السلف بلا تمحيص ولا تجديد وانما حبا في الظهور واثبات الوجود أو التقرب من الحاكم السخي بفتوى يرتاح اليها، فتبيح له ما منعه الدين..

شوق آسر يشده اليها.. يتمنى لو كانت هي من يتمدد بجانبه.لشرحت له الكثير مما ينبشه في الكتاب الذي بين يديه.فهي مغرمة بالخوارق وماكان يعبده الناس من أوهام..

يفتح هاتفه ويشرع يتملى صورتها.. يتذكر حديثها الذي لا يغيب بحكم تخصصها الدراسي عن الحياة والموت والعوالم الخفية، سرقته التفاتة الى ستارة النافذة التي اهتزت بقوة: " ربما ريح قوية تحركت في الجو "يعود الى صورة هاتفه فتشرع في التلون امام عينيه بألوان غامقة،احمر،اسود، ازرق وأخضر. انقباض يشد صدره،وقد بدا يتنفس بصعوبة، رهبة تغزوه، يقشعر لها بدنه، شعر رأسه يقف... روح ثالثة تحوم في الغرفة..غزت صدره بتأويلات تلاعب عقله بتصديق حينا وتكذيب أخرى...

عرق بارد شرع ينز من جبهته وعنقه،انفاس غير أنفاسه ولا انفاس سلمى النائمة أمامه هي ما يحوم حوله،يسمع لها هدير،طيف نوران يظهر ويغيب، يتماوج أمامه، كذبابة العين التي لا تلبث أن تكبر فتصير كطير يترك خلفه غيمة سوداء، يمد يده لعلبة ورقية ويسحب منها منديلا يمسح به وجهه وعنقه، سلمى تفتح عينيها، تتنفس بقوة وكأنها تكاد تختنق، تركل برجليها كخروف اثر الذبح لم يصف له دم..

الهدير يعلو، وقهقهات تخترق سمعه من عمق الغرفة، تجلس سلمى في مكانها ثم ترتمي عليه فتشد عنقه بقوة، عيونها كلهب يرمي بشرر، تريد أن تخنقه، تشرع تضحك بهستيرية، يناديها بصوت مرتفع علها تنتبه،يمسك بذراعيها ايمانا منه أنها لاتزال نائمة، واقعة تحت كابوس مرعب، تتعالى قهقهاتها، فتشتد قبضتها على عنقه، يتيقن من هلاكه لا محالة، هل حقا ان سلمى الوديعة تصير بقوة أكثر من اعتى الرجال، يصيح بها علها تنتبه:

ـ سلمى انا سعد، سعد سلمى، أفيقي..

يترك ذراعها الايسر. لا تزداد الا تغولا وإصرارا على خنقه:

ـ أنا لست سلمى ياسعد، سلمى انتهت.. وأنا في حياتك الباقية..تتجاهلني وكانك لا تعرفني، انظر الى وجهي جيدا، انا نوران، نوران الليبية من توهمتها ضعيفة، من كنت تضحك على تخصصها وتسميها "حارسة الموتى" أتتك من وراء البحار لتكشف لك عن قوتها وقدراتها، قوة ما تستبطنه من أسماء عليا.. هل عرفتني الآن ؟

كنت أسخر منك وانت تقول عني ساحرة، انا أقوى من ساحرة انا مارد..

حاولت أن استدرجك لتصير لي، فيك وجدت هواي،رغبتي المعرفية، ومتعة جسدي الذي تعود اناملك والتهب بعضاتك..آه من عضاتك التي كانت تنسيني التزاماتي الدينية، ألست من قلت لي يوما أمام رغبة الجسد تغيب الروادع؟..

لست متأسفة على ماضاع مني وهبته لك عن طيب خاطر وتستحقه..

وجدت فيك قلبا ينبض بصفاء هو غير قلوب الرجال في وطني، قلب يعشق المرأة من صباها الى لحدها.. لايميزلها بين الاعمار عمرا..

يتذكر الطيف الذي مر به، والذي كان يترك خلفه غيمة سوداء، يستعيد صوت الهدير الذي اتاه من احدى زوايا الغرفة، يحدق في وجه من تخنقه فيجده اصفر فاقعا، وعيونها لهيب من شرر جهنم، يحاول ان يتذكر آيات قرآنية أو كلمات يتحصن بها.. كل شيء غاب عن ذهنه،تفكيره محصور في كيف يفك قبضة الماسكة به حتى لا تقتله. يحس بانهياره،الهزيمة تتجمع في دواخله وهو يئن بصوت متعب.. أخيرا يتذكرآية الكرسي، يقرأها بعدها يرتل:

"وقدمنا الى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ".. يهتز جسد الماسكة بعنقه تجحظ عيناها ثم به تصيح:

ـ لا لا تقرأ، فقط اعطني صورتي وأتركك، صممت أن أتركك،فالغرق معك قد يبعدني عن ملوكي، وأنا أخشاهم.، بعد أن هددوني بقتل...

بدأ يرى سلمى تستعيد ملامحها لكن عيناها لازالتا جمرة ملتهبة، يرفع راسه ليعب نفسا قويا فيرى طيف والده أمامه،عندها يتذكر تحصينا، يرتله، "ماجئتم به السحر ان الله سيبطله "..

تصيح القابضة بعنقه، ويداها ترتخيان، فتتوارى قليلا وهي تقول:

ـ لا تحرقني اتوسلك، أخذت مني كل ماتريد وأعطيتك بسخاء ما لا كنت أريد.. استفدت منك الكثير،وتعلمت الكثير.. لي قد صممت طريق التصحيح تصميمك لمواقع جسدي حتى احتويتك ولباس وجود قد ارتديتك.. فقط اريد صورتي وسابتعد عنك الى الابد، توهمت اني ساحرة فولاذية فاذا بقوتي تخور أمام ما تقرأ.. أنت اقوى ياسعد، لا لأنك رجل،لكن لانك عشت حرية الاختيار وعشت انحطاط العقول ودرك الثقافة..

رآها تتراجع الى الوراء، تجحظ عيناها وهي ترتمي على ظهرها فوق السرير وكأنها تهوي من عل، بدأت ترتجف، فتبدى وجه سلمى مزيجا من حمرة تخالطها صفرة على خديها، تذرف عيونها مطرا من دموع، تصيح: سعد مابي ؟ ماذا فعلت بي؟أحببتك سعد من كل اعماقي لماذا تحاول قتلي؟

يرتمى عليها، يضمها لصدره، يمسد ظهرها بيده،يقبلها، ترتعب منه بادئ الأمر ثم لا تلبث ان تهدأ..

ينهض ويخرج مهدئا من محفظته الصغيرة، يناولها إياه...

يحس ان تعبها مما عانته مع اثر المهدئ بدأ يسري مفعوله فيجعلها ترتخي ثم تنام، يرمى عليها دثارا..

طرقات على الباب يتجه اليها ليرى من الطارق.. مدير الفندق ومعه أحد الخدم يسالان عن سبب الصياح، يطمئنهما ان الامر لا يتعدى كابوس نوم راته زوجته..

ينامان حتى العصر بعد ليلة ليلاء من رعب كاد ان يضع لحياتهما نهاية...

يطلبان طعاما الى الغرفة، يشربان قهوة ويتمددان على السرير ثم يشرع يحكي لها قصة نوران..

"أنثى غارقة في وحول الطقوس، العادات والتقاليد، تؤمن بالقوى الخفية من جنون وأبالسة ايمانها بمفعول السحر وقدرته على تغيير أحوال الناس، صممت على التعمق في هذا المجال بإعداد ماجيستر حول عوالم السحر والماورائيات بدأته مع بعض شيوخ مصر وأنهته مع طائفة دينية تعمل بالسحر في لندن.."

تحرك راسها باستغراب وهي تقول:

ـ أتساءل كيف تتواصل مع أنثى وبها تتعلق وهي عنك بعيدة، ثم هي بنت سجينة عناكيب،أوهام واساطير؛ أن تسعفها ياسعد فهذا من تكوينك وثقافتك وقيم اسرتك، لكن أن تتعلق بها لما تحمله من سحر فهذه طوباوية اشبه بالوهم , وان تثق بتعلق لا تعيشه حقيقة فهو خيال مريض..أنا عشت رعبا لم أره في حياتي، ورأيت صورا وحشية،من الرعب أمامي لم أقرا عنها حتى في قصص جوزيف لي فانو..

يخرج هاتفه ويظهر لها صور نوران فتقفز من السريركأنها تريد الفراروهي تقول مذعورة:

ـ هي من حاولت قتلي.. سعد يجب محو هذه الصور.. هذه السيدة ليست طبيعية، لا شك أنها تحمل خلفها سرا لم تعرفه ياسعد، أتوسلك انقدني..

يقفز اليها من فوق السرير ويضمها اليه وهو يهدئ من روعها واعدا أياها أن يعيد الصورة لصاحبتها..

تبدي قلقا وهي تقول:

ـ ترد الصورالى صاحبتها ؟ !!.. امحها من هاتفك وكفى..

يتنفس بعمق: "سلمى حبيبتي ما زحف الينا من رعب والينا قد وصل بتهديد لن يكون غير أعماق تلك الأنثى التي تغلي على حالها ومصيرها، يشهد الله أني ما وجدتها غير لفة قطن بيضاء لا اثر للشر في نفسها، هي لفيف قيم وطقوس لكنها كأنثى تحركها بشرية الانسان تتمنى وتريد،ينفعل جسدها برغبة فتنسى القيم والمثل التي تم حشرها في عقلها بتخويف ورهبة واقنعة كثيرا ماتسقط بدليل.. تسعى جاهدة لتغير من حالها وما جرها اليه بعض عديمي الاخلاق من معلمات عوانس بائرات ومن فقهاء السوء ومن يدعون بالدجل البركات، وقد بدأت تتلمس أولى الخطوات بقراءات جديدة..

أكره ان أتواطأ مع الزمان عليها، هي ضحية لتنشئة لا حضارية وتعليم رجعي هو ما يلف أكثر العرب ممن تم تلقينهم دينا مدرسيا سطحيا، بعيدا عن حقيقة الإسلام وفلسفة الدين القويم،ما لقن لهم من دين قد لعبت فيه الخرافة مع الشعوذة والاساطير مع التقاليد، انستهم سماحة خالقهم ورحمته فنسوا أنفسهم، والنتيجة هي ما عشناه في ليلتنا..

سلمى عزيزتي، أعرف أن نوران تتعذب وتعاني، وكان يلزمها طبيب نفساني ليخرج ما ترسخ وتجذر بأعماقها، لكن ما تحياه من ضغوط التقاليد، وما يمطرق راسها يوميا من طقوس ووصايا يحولها الى أنثى سلبية راضخة بلا اعتراض، والا كان عمرها الثمن..

يحس ان التي امامه غير راضية عما يقول وان خوفها عليه اشد من اثر ما بلغها عن المسماة نوران، تقول:

ـ ساتركك لضميرك ـ يا سعد ـ وعليك أن تتصرف بسرعة وارجو ان ما حدث الليلة يبقى بيننا، وثق اني لست مستعدة أن أتركك ولوكان عمري قربانا لانتزعتك مما لا اعرفه عنك..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم