نصوص أدبية

لمى ابوالنجا: براشيم

سُئلت في مرة عن مصدر إلهامي في الكتابة أربكني السؤال فأجبت وبصورة عفوية: لا أدري!

و أنا فعلاً لا أدري ولا أستطيع تحديد مصدر أو مصادر معينة فما أن أبدأ الكتابة تتدفق الأفكار في رأسي بشكل تلقائي دون إختيار مني وبمحفزات لانهائية.

لسبب ما أجدني في كثير من الأحيان سجينة مرحلة معينة من حياتي وتكاد تستحوذ على جزء كبير من ذاكرتي ولا أعلم لماذا رغم أني أعتقد أن مرحلة النضوج هي المرحلة الأكثر سعادة أو على الاقل إستقراراً ولعل هنا تكمن الإجابة، أن إستقراري رتيب مقارنة بمرحلة الطفولة والمراهقة.

أو ربما هي ذكرى ما أو مشاعر ما عالقة في قلبي ولا سبيل لتحررها بعد. وكأني الآن وبعد أن هدأت عواصفي أعيد كتابة الماضي بسعادته وقسوته.

المرحلة الإبتدائية تعد نقطة فاصلة كنت دائماً إبنة أخت المديرة المدللة المجتهدة ذات الشخصية القوية والحضور الطاغي التي تقول ماتريد دون خوف من العقاب أو الضرب لكن على كل المزايا التي حظيت بها إلا أن لكل نعمة عواقب كان الجميع بشكك بتواطؤ المعلمات وعدم إنصافهن في منحي الدرجات الكاملة في جميع المواد الدراسية ولم ينسب لي أحد الجهد الذي أبذله في الدراسة..

بحكم صلة الدم بيني وبين المديرة عوملت بشكل خاص وبتمييز طبقي ومنحت حصانة مطلقة وبالطبع أسأت إستخدامها.

لا أذكر أني تناولت الفطور أو الغداء مع الطالبات كنت أتناول فطوري في الإدارة وعلى كرسي المديرة وأطلب عصير البرتقال أو الشاي بالحليب من المربية لم أقف في طابور مقصف المدرسة لأشتري لوح شوكولاتة أو تسالي بل كانت هناك قائمة مشتروات معدة مسبقاً وأصناف رفعت على رفٍ بعيد عن متناول البنات خصصت لي، كذلك لم أحمل في جيبي مصروف كنت أدخل المقصف من الباب الخلفي أنا  بكبرياء طفلة مدللة حد الإزعاج تطلب من المحاسبة وضع المبلغ على الحساب لتدفعه والدتي أو خالتي لاحقاً،  أنظر بإستعلاء لتلك الحرب الطاحنة وأعمال الشغب بين البنات خلف القضبان الحديدية للنافذة  يتدافعن بكل ما أوتين من قوة للوصول  يمددن نقوداً مهترئة لشراء فطائر جبن أو حلوى أو أي شيء يسكت جوعهن قبل انتهاء الربع ساعة..

لم أتخيل مطلقاً أن يكون لي من في يوم من الأيام من تلك المعاناة البروليتارية نصيب..

ثم حصل مالم أتوقع، انتقلت خالتي إلى مدينة جدة وبقيت أنا وحدي أقاسي خطط الإنتقام مع سبق الإصرار والترصد من المعلمات والطالبات على حدٍ سواء لم أقوى إحتمال إختلاف المعاملة وفقدان الإمتيازات فانتقلت بدوري إلى مدرسة الإسكان العسكري وهناك شعرت ولأول مرة أني مثلي مثل أي طالبة أخرى بلا إمتيازات بلا حماية تفاجأت أن ذلك الشعور أراحني ومنحني حرية كبيرة ربما كانت الإستقلالية أو المسؤولية لا أدري..

صار علي أن أنسى فتاة المدينة المدللة وأعتاد على القسوة والجفاف والإنسجام مع بنات المدرسة في السكن اللاواتي كن عبارة عن جنود تخرجوا للتو من دورة الصاعقة الحربية أكثر من كونهن فتيات في مدرسة إبتدائية كان كل شيئاً عنيفاً  حتى ألعابهن غريبة إحدى تلك الألعاب في الساحة في فترة الفسحة أن ننقسم إلى ثلاث مجموعات لكل مجموعة قائدة أسميناها "ضابط" وعلى الضابط أن تربط أقدام فريقها ببعض ليبدأ سباق بالقفز ومن تقع وتتسبب بوقوع فريقها تربط معصوبة العينين على إحدى الأعمدة حتى نهاية فترة الفسحة سبق أن تم ربطي في عمود ونسوني حتى مرور ساعه بعد فترة الفسحة تحت الشمس عندما سألت المعلمة عني أخبرتها صديقتي نسيناها مربوطة على العمود في الساحة، حررتني المعلمة وأنا مصابة بالإعياء من ضربة الشمس وعوقبنا بشدة يومها

وبالطبع خجلت من إخبارهن عن إمتيازاتي القديمة كتاريخ مشين تمنيت طمسه لأنه بالنسبة إليهن ترف معيب ولا لزوم له.. لم يكن لديهن إعتراف بالفسحة للأكل نأكل أي شيء بشكل سريع ليعطينا طاقة للعب فقط بل أن من تأكل كثيراً تعد فتاة سمينة كسولة منبوذة مما أثر على علاقتي بالأكل لفترة طويلة بسبب هذه القناعات السيئة.

أذكر في مرة دخلت سحلية في حديقة المدرسة وركضت خلفها مالا يقل عن عشرين طالبة أخرجوها من كل جحر حاولت الإختباء فيه تحاول بيأس الهروب كان يبدو عليها الخوف الشديد وأدركت أن الغريزة الطبيعية للبقاء والدفاعات الحسية لاتجدي نفعاً، كنا نركض وتركض المديرة خلفنا وهي تصرخ  "اتركوها بحالها يا جن  "حينها علمت أن النحس لايصيب البشر فقط وأن حظ تلك السحلية الغلبانه أوقعها بيننا.

أما باص المدرسة فقد كان حكاية أخرى نفرغ فيه ماتبقى من طاقة شيطانية حتى نصل لبيوتنا ،بحكم أننا كنا في سكن عسكري فسائقي الباصات كانوا من الجنود في القوات المسلحة كذلك وسائق باص منطقتنا كان الأتعس حظاً بعد السحلية كان نحيف البنية ناعس العينين شاحب اللون على الدوام بملامح طبيعية توحي بنعمة البلادة تجاه كل مصيبة يراها أذقناه ألوان العذاب ، تمد إحدانا يدها لتدغدغه في خصره وترش الأخرى الماء على رقبه،عند كل مطب نقف جميعنا ونصيح "النطة النطة النطة" ثم نلقي بأجسادنا على المقاعد بقوة ، نفك الأحزمة ونربط خصرنا ونرقص والفرقة العازفة معروفات بآداء عملهن على أكمل وجه في كل رحلة نضع جميع الحقائب في مقدمة الرف العلوي كي تقع على رأسه مع كل "فرامل" ولايعطي أي ردة فعل على الإطلاق أعتقد أنه كان "قناص" في الجيش من المستحيل لشخص عادي أن يمتلك تلك الدرجة من الصبر ولأنه لم يكن يصرخ أو يوبخ أو يغضب أو يقول أي شيء أسميناه "دايخ"، كان مسؤولاً عن سلامتنا فطلب من المديرة رفع خطاب لإحضار مساعد له يراقبنا فقط وعذبناه هو الآخر وأسميناه "سرحان" المحزن أني لازلت للآن لا أعلم أسمائهم الحقيقية!!!!

 في حصة التربية الفنية درسنا صناعة أواني فخارية بعجينة السيراميك وفي الصرفة جلست على أرضية الباص جمعت العجين الخاص بي وبصديقاتي وفردته بالفرّادة الخشبية لمد العجين وما أن عبرنا إحدى البوابات أخرجت نفسي من النافذة وألقيت العجينة على وجه الجندي المناوب على البوابة أوقف الباص وأحضر عصا وراح يصرخ بنا من شدة الرعب إختبئنا تحت الكراسي ثم جرني "سرحان" من تحت الكرسي وأوشى بي وقال أنه سيرسل خطاب لوالدي بالعمل لكن مسألة إرسال الخطاب أخذت وقت لعدم إستطاعتهم التعرف على هويتي الحقيقية كون أن إسمي الحركي في الباص هو "فاطمة خميّس" ولاتناديني أي طالبة بإسمي الحقيقي لهذا إعتقد دايخ وسرحان أني فاطمة ولست لمى..

ثم انتقمت من سرحان قبل نزولي لحارتنا جررت القبعة العسكرية التي يرتديها وألقيتها في الباحة الترابية لينزل خلفي يركض حتى دخلت البيت وأغلقت الباب وتسترت علي جدتي رحمها الله ومن جديد لم يتوصل إلى والد فاطمة خميس ..

لم آخذ فترة طويلة حتى تأقلمت بشكل أكثر من المطلوب وكونت شلة ترأست زعماتها لسبعة سنوات، من أعضاء الشلة صديقتي المقربة اسمها روان التي إستغرب الجميع صداقتنا القوية والعميقة رغم الإختلاف الصارخ في الشخصيات هي هادئة مؤدبة طالبة مثالية على جميع الأصعدة جميلة جداً تشبه الشخصيات الكرتونية طويلة رشيقة بيضاء تملك شعر طويل ناعم كثيف حالك السواد وعينين سوداوين بسواد لايخترقه ضوء وكأن تلك الطفلة لم تخلق من رحم وأنزلت مباشرة من السماء في ليلة معتمة إمتصت من الفضاء سواده وسحره..

على الرغم من تفوقي وإجتهادي إلا أني كنت أعد بعض البراشيم قبل الإمتحانات لمساعدة صديقاتي وتفننت في إخفاؤها وفي إمتحان الجغرافيا برشمت خريطة قارة آسيا وفي وسط الإمتحان مررت البرشام لصديقتي روان 

و لأنها لم تنتبه للمشرفة قبضت عليها متلبسة بالبرشام بيدها  وسحبتها على الإدارة في جلسات لانهائية من التحقيق يردن منها الإعتراف أن البرشام كان لي وأنا من مررته لها بالرغم من الضرب والتهديد وإنذار الفصل وإستدعاء والدتها رفضت الإعتراف حتى عندما ترجيتها أن تقول الحقيقة كانت تتمتع بقوة نفسية وعاطفية جبارة مشابهه لقوة عميل مخابرات وجاسوس عالي المستوى لايستسلم تحت التعذيب مما زاد تعلقي بها وبالرغبة من تسخير كل سيطرتي وقوتي لحمايتها من كل شيء بعد ذلك والإنتقام لاحقاً من تلك المشرفة ومساعدة المديرة على العذاب الذي عاشته بسببهما.

***

لمى ابوالنجا – كاتبة سعودية

في نصوص اليوم