نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: وجدتها!!...

كل شيء بدأ بحلم، حلم بعد الظهيرة.. تناولت غذائي واتكأت على غير عادتي متوسدا مخدة صغيرة ريثما يحين وقت المدرسة..

لم يكن عمري يتجاوز الثامنة، طفل في السنة الثالثة ابتدائي..

غفوت، ربما من تعب بعد حصة في التربية البدنية في المدرسة.. وفي غفوتي حلمت أني أخترق متاهة من عدة طرق،في كل طريق رف أورفين من خشب وعلى كل رف أكياس من رمل..

كلما حاولت مد يدي الى رف تطاير عجاج من أتربة وخنقت الرطوبة أنفاسي

فأتراجع.. ضاق بي المكان،وأنا أفكر في الخروج سقط علي كيس من أعلى..

صداع في رأسي وقليل من دم قد نزف من جبهتي..

كان التراب يصدر ومضات خاصة شغلتني عن المي ودمي السائل على جانب من خدي..

رفعت الكيس من الأرض ففاجأتني بين ثناياه قطع نقدية ذهبية، وضعت الكيس على كتفي كما يصنع الحمالون وشرعت ابحث عن مصدر خروج من المتاهة، عليه دلتني فتاة كانت تفر من جرذ يطاردها..

صحوت على صوت أمي:

ـ قم لتغسل وجهك ألا تنوي الذهاب الى المدرسة؟

افقت وأنا أتحسس جبهتي لكن تحت إبطي كان ألم يسري فيصل الى أصابع يدي.

سيطر الحلم على تفكيري حتى أني لفت بشرودي انتباه معلمي الذي نبهني :

ـ مابك اليوم؟ ماذا يشغلك؟

حركت رأسي سلبا وما أمام عيني غير ومضات القطع الذهبية في الكيس..

مساء انزويت عن رفاق المدرسة وسرت في طريق غير التي كنت أسلكها في العودة الى بيتي.. كنت موجها بالحلم الذي استغرقني..فالحلم بالذهب خير يستحق العزلة عن الناس..

مذياع عبره عبد الحليم حافظ كان يغني:

كيف الوصول الى حماك

وليس لي في الامر حيلة ؟

ضحكت من نفسي..

قريبا من باب منزلنا فاجأني زحام، هرج ومرج،أصوات تتعالى في صخب وعراك أخافني، تستعمل ُ فيه الأسلحة الحية والبيضاء من سكاكين وسيوف وعصي..

نسيت الكيس والقطع الذهبية وشرعت افكر كيف أَنفذُ بين المتخاصمين للدخول الى منزلنا..

الحي الهادئ الساكن صار حلبة يشتد فيها صراع المتخاصمين في عنف دموي لم يشهد الحي مثله ابدا، لم ألتقط سببه الا بعد مدة من همسات أبي لأمي

ـ "أصحاب الحشيش غضب الله عليهم"

كان باب منزلنا يقع بين ضريحين وسبالة ماء،به درب طويل تصطف على جانبيه دور سكنية صغيرة تقليدية،وكان الدرب هو ملعبنا ومقر اجتماع أطفال الحي مساء..

الأمهات في النوافذ والسطوح يحذرن بأصوات مرتفعة كل طفل يقترب من مكان الشجار والنزاع بان يبتعد أو يدخل الى أي بيت في الدرب ريثما تنتهي المعركة الكبرى.. فدور الحي كانت كلها لنا بيوت نحن الأطفال.. استطعت أن أتسلل الى بيتنا حيث كانت بابه مفتوحة، ما أن دخلت وأغلقت الباب خلفي حتى أثارتني محفظة كبيرة شبيهة بمحافظ الحواسب القديمة، قريبة من غرفة كانت بمثابة حمام تقليدي كان يمتاز به بيتنا العتيق لم يعد مستعملا،يتموقع عند مدخل البيت وقد خصصته أمي لتخزين الحبوب والدقيق وخوابي زيت الزيتون والعسل والخليع والسمن البلدي وكل ما يقتنيه أبي من تموين سنوي..

دفعني الفضول لأطل من جانب المحفظة..كل ما فيها كان يلمع.. اهتز صدري وتذكرت حلم الظهيرة.. فتحت باب الحمام وأخفيت المحفظة بين أكياس القمح..

انفض العراك بعد قدوم الشرطة والقوات المساعدة، واستعاد الحي هدوءه، لكن عراك الحي الى نفسي قد انتقل.. تلبسني قلق وخوف،ورغم مقاوماتي فقد فقدت القدرة على النوم وعلى متابعة دراستي في سكينة وهدوء نفس،فالسر قد ظل في صدري يلعلع كما كان يلعلع الرصاص بين المتخاصمين ظل مكتوما في صدري لم أطلع عليه غير نفسي..

بعد أسبوع سمعت والدي يخبرأمي أن مقدم الحي قد زاره في متجره وسأله عن محفظة سوداء تم وضعها بباب منزلنا وحيث أن ابي ثقة ومعروف بين الناس بثقته وأمانته فقد أقسم لمقدم الحي ألا علم له بالمحفظة وحين سألتني أمي قلت لها:

ـ رأيت محفظة كبيرة كالتي تحدث عنها أبي في يد رجل كان يقف بباب بيتنا..

كم تحملت ألا يغلبني خوفي،قلقي، اضطرابي امام كذبة كان بالإمكان أن أتخلص منها بقول الحقيقة، قد أنسى وأنكشف، فلماذا ارهقت نفسي بكذبة تلازمني بخوف وحرص واضطراب؟

كيف فقدت جرأتي وخرجت عن الصراحة التي عهدها والديَّ في ابنهم؟

كان أكبر القلق الذي استولي علي هو ربط كيس الحلم بالمحفظة..

"ألا يكون رزق سخرالله المتخاصمين حمله الى باب منزلنا ؟ "

"خيالات الطفولة وأحلام العصافير"

ربما قد حققت مصلحة لكن سخرت الكذب المحظور في تحقيقها..

كم هممت أن أدخل الحمام لاتفقد المحفظة غيرأني كنت في كل مرة أتراجع..

"علي ألا أكون متسرعا فينفضح أمري..قد أكون مراقبا من ابي أو أمي.. "

 بعد أزيد من شهر خرجت صباحا الى المدرسة اشيع باب الحمام كعادتي كل ما حاولت الخروج من البيت أو العودة اليه كمزار صار بالتحية قمين، لكن ما أن عدت اليوم زوالا حتى هجمت على الحمام لاطمئن على كنزي المخفي..فقد حرضني بتفكير وقلق..

لم تكن هناك محفظة !!..تبخرت.. أطللت وراء أكياس القمح..لا اثر لها..

أحسست كأن ماء مثلجا قد صب على ذاتي، أزحزح الأكياس كيسا بعد كيس رغم ثقلها، وأنا أخشى أن تسقط الأكياس عن مكانها ولن استطيع ارجاعها.. لاشيء، رعب تملكني حتي ماعادت ساقاي قادرتين على حملي..

فقدت شهيتي ورغبتي في الأكل ورأسي يهتز : أين المحفظة ؟

يقيني أن أبي قد وجدها ثم سلمها الى مقدم الحي.. أو ربما أمي وهي تستخرج زيتونا أو خليعا قد وقعت عليها فسلمتها لوالدي.. أدخل بعض السكينة الى نفسي، وحمدت الله أني لم انطق ولم انبس ببنت شفة..

بدأت ارخي السمع لأحاديث أمي وأبي عساني ألتقط ما يهدئ من حرقتي على ضياع كنز وهبه الله لي.. وبين حين وآخر صرت اتسلل الى الحمام لأعيد البحث.. لاشيء..

مرحلني الزمن كما مرحل أكثر من حدث في حياتي، نلت شواهدي، توظفت

وانغمست في مهنتي لكن ظل الحلم كثيرا ما يراودني بصور ومواقف مختلفة فأتذكر المحفظة بغصة.. أشد ما كان يصيبني حين كنت أصادف كل من يحمل حاسوبا في محفظة مثل التي قد ضاعت مني فأتابعه بنظر وفي وجهه أحدق بإمعان فقد يكون أحد المتعاركين..

كنت أستعد لزفافي حين أخبرتني أمي أن الحمام قد ظهر فيه الفئران وصاروا يصعدون متسللين الى بيتنا.. وأن زوجتي قد صادفها فأر على الادراج وهي في زيارتنا..

 تكلفت بدل أبي الذي شاخ وما عاد يستطيع حركة،فجلبت معلما بناء واتفقت معه على أن يخرج ما في الحمام، يرمم كل ما يحتاج الى ترميم، بما في ذلك تجديد بلاط الأرض في انتظار استدعاء نجار يضع رفوفا على الجدران ثم يعيد كل المحتويات الى مكانها بترتيب..

تركت المعلم  مع عماله وصعدت لأجالس أبي،فلحظات معه وهو يحكي عن هجوم القبائل على المدينة العتيقة أيام الاستعمار هي لحظات متعة وتاريخ يجب ألا ينسى..

بين حين وآخر كنت انزل لاتفقد العمل..فاجأني المعلم البناء  بالمحفظة وقد وجدها وراء مقاعد خشبية طويلة ومرتفعة عن الأرض كان قد جلبها أبي وعليها يتم وضع أكياس الدقيق حتى لا تلحقها رطوبة الأرض..

اهتز قلبي وكطفل صغير صرخت من دهشة.. انتبه لها المعلم البناء..

حياة تدب في أوصالي.. حملت المحفظة وصعدت راكضا الى أمي وأنا أصيح:

وجدتها !!..وجدتها !!..

لم يفضحني النسيان كما توهمت لكن الحقيقة وحدها أخرجت سري الذي أخفيته أكثر من عشرين سنة، فأر تافه ظهر، ومعلم أراد إصلاح ما افسده الزمن والفأر، مواقف خارج كل تحكمات الذات قد اسقطت قناعي الذي تحملته بخوف واحتراس..

في المحفظة لم يكن غير مسدسات، رشاش مفكك و عشر قطع ذهبية من صنف اللويزات الكبيرة، خمس منها كانت من نصيب زوجتي تعويضا عن فزع الفأر..

والباقي زينت به أمي عقدها اللؤلؤي، حين تضعه في جيدها،تبدو كأمازيغية قحة زانها التألق و البهاء،لاينقصها غير كحل يكتسح عينيها ووشم تزين به الجبهة والدقن، يتطلع اليها أبي وهو يقضم شفته السفلى حسرة على شباب ضاع وقوة امتصها الزمان بلا رحمة.

***

محمد الدرقاوي - المغرب

في نصوص اليوم