نصوص أدبية

ناجي ظاهر: راعية الجبل

بدا له جبل صرطبة رغم سخونة الأجواء حيث وقف وكأنما هو تائق إلى نقطة ماء، ولولا ما ظهر له من مواشي تدبّ في ربوعه لاعتقد أن الحياة تلاشت فيه واختفت.. إلى لا عودة. منذ وطئت قدماه أرض الوطن وهو يبحث عن مساحة طالما تحدّث له عنها والده المُهجّر المرحوم من قريته سيرين. وقد بحث عن تلك المساحة في كلّ مكان.. "فهل سأجدها هنا في هذا المكان المقفر"، هتف لنفسه وهو يتابع صخور الجبل المتناثرة هنا وهناك وكأنما هي مواشي من نوع آخر، نزلت عليها غضبة إلهي ساحقة ماحقة فحولتها إلى ماشية مجمّدة، تسترخي في كلّ مكان، منتظرة عودة الحياة إلى عروقها الظامئة، لتشارك أخواتها الجائلات ببطء لا تكاد تراه العين لقلّة تنقّله وخمول حركته. المنظر أمامه كان حافلًا بالمعاني، وبدا كلّ ما وقعت عيناه عليه كأنما هو يريد أن يتحدّث إليه وأن يخبره بقصة جديدة، تذكره بما خَبِرّه، عاشه وشهده من أحداث وأقاصيص هناك في بلاد الفايكنج.. تلك البلاد التي شهدت طفولته ويفاعته، شبابه ورجولته المتدفقة توقًا ورغبةً في الوطن الاب والحياة... استغرقته حالة من المقارنة بين هنا حيث وقف وهناك حيث عاش، فحاول أن يقرأ ما يراه إلا أنه تراجع ليقرأ بسهولة ويُسر ما اختزنه من مشاهد، وتحرّكات موّارة بالحياة هناك حيث كان.

"عليّ أن اقترب من تلك المواشي.."، قال لنفسه وهو يصعد الجيل بقدمين من إرادة وتصميم، وتابع:" مَن يعلم قد أعثر هناك على ما أبحث عنه، أحلم به وأريده". في البداية شاهد نقطة صغيرة ما لبثت أن أخذت في الكبر. شعور طاغ استحوذ عليه بأنه إنما يقف أمام سرّ طالما تصوّره، حلم به وتاق إلى حلّ رموزه وتفكيك شفراته. النقطة الصغيرة جذبته إليها كما تجذب المشاعر قلوب العشاق. فغذّ السير غير عابئ بما سال على وجهه من قطرات العرق. مسح بيده جبينه وتابع السير. رفع رأسه عاليًا ها هو يتأكد مما سبق وتصوّره قبل قليل، إنه يرى صبية غضّة الاهاب تتكئ على عصا قوية مستقيمة غير منحنية كما يُفترض في الواقع. "يغلب على ظني أنها راعية المواشي". قال لنفسه. وعندما رآها ترفع رأسها على وقع قدميه وخرخشة الحشائش الجافة تحتها، بدا أن كلبها تنبّه لاقترابه منها، فراح ينبح عليه، ويهاجمه بقوة وشراسة. تراجع خطوات إلى الخلف، فانتهرت كلبها رافعة عصاها القوية المستقيمة وطالبة منه أن يعود إلى هدوئه. خفت عواء الكلب رويدًا رويدًا، فتجرأ الزائر الغريب على الاقتراب مِن الراعية الشابّة، نظر إليها.. كانت تبدو شابة تصغره أو تكبره بقليل، وقبل أن ينطق بأية كلمة عن الحرّ اللاهب. أخذت هي نفسها المبادرة واقتربت منه. أرسلت نظرة مستطلعة إليه، كأنما هي تريد أن تستطلع أمره وسبب زيارته المفاجئة تلك. قرأ هو ما لاح في وجهها من علامات تساؤل وتعجّب وبادرها قائلًا:

- لفتت مواشيك نظري فأردت أن أراها عن قرب.

أرسلت نحوه نظرة حافلة بالشك:

- مَن أنت. سألته، فردّ عليها: أنا من قرية مُهجّرة تدعى سيرين. أهلي غادروها مُكرهين عام النكبة، ليقيموا في بلاد بعيدة. هناك ولدت. طالما حدّثني أبي رحمه الله عنها وعمّا حفلت به من خيرات..

اختفى ما ظهر على وجهها من علامات حفلت بالتساؤلات، ورحّبت به وهي تقدّم له مطرة الماء:

- الحرّ اللاهب يكاد يحرق الأخضر واليابس في هذا الجبل. خذ اشرب الماء البارد.

تناول الزائر الغريب المطرة من يدها وشرب منها:

- ماء رائع.. هو بالضبط كما تحدّث أبي عنه. قال وواصل: لم أتعرّف عليك بعد.. أنت مِن هُنا؟.. فردّت عليه بالإيجاب، وأخبرته أنها في الاصل من قرية قريبة من قريته التي تعرفها من خلال أحاديثها الدافئة مع والدها المرحوم. وذكرت له أنها من قرية الشجرة، وأن ذويها هاجروا في ذلك العام اللعين مُكرهين من قريتهم ليتشرّدوا في عدد من البلدات.. لتولد هي هنا في الناصرة القريبة من جبل صرطبة وأحراشها المتواصلة حينًا.. المتباعدة آخر. وشكت له معاملة صاحب المواشي الفظّ الغليظ معها. فسالها عن سبب تحمّلها له، فردّت بأسى واضح إنها تريد أن تعيش.

شارف الوقت على المغيب وهما يتحدّثان، وعندما شعر أنه يُفترض أن ينصرف إلى شأنه وأن يتركها تعود بمواشيها إلى عزبة صاحبها الخواجا، سألها عمّا إذا كان بإمكانه أن يعود في اليوم التالي، منوّهًا إلى أسفه لأنه تعرّف عليها متأخرًا.. وقبل انتهاء وقت زيارته بأيام قلائل. أرسلت إليه بدورها ابتسامة مطمئنة. وقبل أن يفترقا استحوذت على كلّ منهما رغبة في البقاء إلا أنهما افترقا، ليفكّر هو بها طول الليل ولتتخيله هي في الوقت الموازي...

هكذا افترقا ولدى كلّ منهما رغبة في أن يتواصل اللقاء.. هل كان ذلك لأنهما من بلدين مُهجّرين متجاورين وأن ألم التهجير نال من كلٍّ منهما ولو.. عن طريق الاهل؟ هل كان ذلك بسبب أنها هي رافقت الخواجات وعملت عندهم.. بل هل كان ذلك لأنه هو ذاته ولد.. عاش وترعرع في الشتات الفايكنجي.. أسئلة فرضت نفسها على كلّ منهما، غير أنها جمعت بينهما أكثر مما فرّقت. لذا ما إن حان الوقت اليومي الموازي لذلك اللقاء الجبلي الفريد بين المُهجّرَين التائهين. هي في بلادها وهو في الشتات. حتى سعى إليها طائرًا على جناح من الرغبة والشوق. وما أن اقتعد كلّ منهما حجرًا عاليًا في قمة الجبل حتى تدفّقت الاحاديث بينهما تدفّق امواه بلادهما العذبة القُراح. عزّز ذلك اللقاء المشاعر بين الاثنين، ما أشعرهما، كلٌّ بطريقته، أنه لا غنى له عن الآخر. وأن ما جمعه الله لا يمكن أن يفرّقه بشر.. لا خواجا ولا بلوط. وهكذا توطّدت العلاقة لقاء بعد لقاء ولحظة إثر لحظة، وبات الوقت بين الاثنين يقاس بلحظات اللقاء بينهما. أما لحظات الفراق والبعاد، فلم يعد بالإمكان احتسابها من العمر.

بقيت الأمور بين الاثنين تجري بين وردّ وودّ، إلى أن حانت لحظات الفراق، في تلك اللحظة، أطلعها على مشاعره الجيّاشة تجاهها، ولم يفاجأ عندما أطلعته هي على مشاعر لا تقل حرارة عن مشاعره تجاهها. وكان مِن الطبيعي أن يتّفقا على الارتباط. وعندما تمّ الاتفاق التام، نبقت من أعماق الغيب مُشكلة عويصة معقّدة. ظهرت تلك المشكلة عقبة كأداء فإما تُعمّر وإما تُدمّر. حدث هذا عندما أخبرها أنه سيصطحبها إلى بلاد إقامته الرائعة الجميلة، وأنهما ، هي وهو، سينعمان بالحياة الهانئة السعيدة. بل إنه بالغ في تطميعها بالموافقة ذاكرًا لها أن اصطحابها له سيعفيها من فظاظة خواجيها... عند هذا الحدّ من تطميناته فوجئ بها تستوقفه بإشارة حادة من يدها مؤكدة له أنها لا يمكن أن تترك بلادها، وأنها لا تستبدلها بجنان النعيم وليس بأية من بلاد الله الرائعة. هكذا تعقّدت الأمور بين الاثنين المُغرَمين المُتيّمين. كلٌّ يشدّ إلى ناحيته، هو يريدها إن توافق على اصطحابه لها إلى بلاد إقامته في الشتات، وهي تؤكّد له أنها لا يمكن أن تغادر بلادها حتى لو كانت مغادرتها تلك إلى جنان النعيم. عندما تعقّد الامر بين الاثنين.. كلّ يشدّ إلى ناحيته. أخبرها أنه يريد أن يفكّر في الأمر. وولّى ظهره ماضيًا في طريقه وسط نظراتها الآسية الحزينة.. وكان كلّما خطا خطوة إلى الامام.. شدّته خطاه إلى الخلف .. إلي حيث هي.. محبوبته.. راعية الجبل.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم