نصوص أدبية

نبيه القاسم: أمّ عوّاد تَصفَعُ الضابط وترميه على الأرض

كما في كلّ بلدة أخرى هكذا في بلدتنا المُعْتَزَّة أنّها كانت ولا تزال بلد العلم والثقافة بنسبة المُتعلّمين العالية، فمدرستها الابتدائية قديمة جدا بناها المسكوب الروس عام 1883 والثانوية أسّسها خمسة رجال من البلدة بعد عام النّكبة بثلاث سنوات. كان الطلاب يأتونها من أكثر من عشرين بلدة، وخرّجت الآلاف من الطالبات والطلاب الذين انتشروا في كلّ مَرافق الحياة وبرزوا بنجاحهم المُتميّز. وأوّل ثلاثة طلاب عرب بعد عام النكبة التحقوا بالجامعة العبرية في القدس كانوا من بلدتنا، حتى النّساء كنّ من عهد الانتداب البريطاني على البلاد تقرأن وتكتبن، والعشرات منهنّ تُدَرِّسْن في كل مدارس البلدات القريبة، وتُشغلن مناصب مختلفة، وعضوات في نواد كثيرة، وكان الناس من مختلف القرى المُحيطة يأتون إلى أسواقها ودكاكينها، فحلّاق القرية يأتيه الناس من مختلف الأماكن، والدكتور شيبان وصلت شهرته لكل البلاد بأنّه يُعيد الحياة لمَن يموت. أمّا عن خوري البلدة ميشيل فحَدِّث ولا حَرَج، مَلاك على شكل إنسان، يشفي من كلّ مرض، ويُعيد الضائع لأهله، وقصّته التي يرويها الناس عنه عندما غرق ابن بلدنا في البحر، وعَجِزَ السبّاحون ورجال البحرية من الشرطة في العثور عليه طلبوا من الخوري أن يُساعدهم، فرافق رجال الشرطة البحرية ووجّه السّفينة إلى المكان الذي حدّده وانتشلوه.

بلدتنا هذه كان فيها مختار لكلّ طائفة، وزعيم لكلّ عائلة يزوره رجالُ الحكومة والضيوف الكبار، ويحلّ من المَشنقة لعلاقته القويّة جدا بالحكومة، ومحبوب من كلّ الخواجات خاصّة من الحاكم العسكري. وما كان يُنغّص على المخاتير والزعماء يوم حضور شخصية حكومية كبيرة زمرة من الشباب الصّايْعين، كما كان يصفهم رئيس البلد، الذين يقومون بالصّراخ والسّباب في وجه الضيف، وإذا ما سأل الضيف باستغراب واستنكار:

- شو اللي بَسْمعو وبَشوفو، عندكم في بلدكم شيوعيّة؟

يُسارع الرئيس للتّبرُّؤ ورفض التّهمة ويردّ وهو يرتجف:

- لأ يا سيدي، هذول شوية شباب صايْعين لا تُشغل بالَك فيهم.

وفي بلدتنا كانت أم عوّاد المرأة القويّة التي تسير في الشارع وحولها أولادها رزق الله وسعد الله وعطا الله ونصر الله وركن الله وعز الله وفتح الله وحَسْب الله، وإذا ما قالت لها امرأة مرّت بها:

- الله يخلليك هالشباب

تُجيبها أم عوّاد بسرعة: خَمْسة في عيون الحَسود، سَمّي قبل ما تِحْكي.. لَتْكوني بِتْصيبي بالعين.

ولا تجد المرأة إلّا الاعتذار لأمّ عوّاد وتدعو لها ولأولادها بالصّحة والعافية والعمر الطويل وإبْعاد عيون الحُسّاد عنهم.

أم عوّاد امرأة محبوبة في البلدة، ضحكتُها لا تُفارق مُحيّاها وتُسْمَع من بعيد، ولكنّها امرأة مَهْيوبة ومَرْهوبة من كلّ نساء البلدة وحتى الرّجال. فإذا ما حضرت تحمل تنكتَها لتملأها بالماء من الحنفيّة وسط الحارة تؤكد للجميع أنّ الحقّ لها الآن لمَلء تنكتها فالدّور دورها واللي مش مْصَدْقة تروح تشكيها للرئيس تَشوف شو بَدْها تحصِّل من حضرته. فتضحك كلّ الموجودات، وتُفسِحْن لها الطريق، وحتى تتبرّع بعضُهنّ لمساعدتها.

أهل البلدة لا ينسَوْن مواقف أم عوّاد البطوليّة يوم معركة الزّيت ضدّ الشرطة والضابط أبو خضر الذي كان يُخيف المنطقة ويسجن ويطرد وينفي ويضرب مَن يريد من الناس ولا أحد يُحاسبه. وكيف كان يصول ويجول وخاصّة أيام جَمْع موسم الزيتون، ويراقب كل فرد من المَلّاكين وأصحاب مَعاصر الزيت حتى لا يقوم أي واحد بإخفاء بعض منتوجه من الزيت والزيتون، ولا يُسَلّمه لموظفي وزارة التّموين الذين يُقرّرون السِّعر للكيلغرام ، ويصادرونه لحساب الحكومة، وكثيرا ما كان يدخل البيوت ويُعيث فيها فسادا بعد وشاية تصله أو رغبة منه ليحافظ على هيبته وعنجهيّته وسطوته ولا يجرؤ واحد على الاعتراض. وأكثر ما كان يغيظه تعمّد بعض الشباب صغار السن الذين يمرّون بقربه ويضحكون بصوت عال أو لا يُعيرونه أيّ اهتمام وكأنّهم لم يروه.

أهل البلدة كلّهم يتذكرون بداية موسم جَمْع الزيتون عام 1952 كيف دخل الضابط أبو خضر إلى البلدة من الحارة الشرقية وحوله وخلفه عدد كبير من أفراد الشرطة يصرخ ويشتم ويُهدّد ويتوعّد كلّ مَن يجد في بيته نقطة زيت أو حبّة زيتون لم يُصرِّح عنها.

لحُسْن حظّ أهل البلدة وسوء حظّ أبو خضر أنّه التقى بالصّدفة بأمّ عوّاد وهي تسير وحولها أولادها والعديد من النساء بعد تأديتهن الصلاة في الكنيسة تتكلّم بصوت عال وتُشير إلى رجال الشرطة قائلة:

- أولاد الحرام صاروا جايّْين!

فسمعها أبو خضر وأراد تأديبَها:

- لوين يا حُرْمة تعي لهون

سألته أم عوّاد: بتحكي معي؟ ليش شو خصّك تَتِسْألني لَوين؟

فصرخ بها: أنت مش عارفة مين أنا؟ تَعي لهون.

نظرت إليه بجرأة وتحدٍّ: بَعرفك بِقولولك أبو خضر، بَسْ لو الخَضر يوخذ روحَك ويْرَيِّحْنا منَّك.

وهاج أبو خضر وتقدّم نحوها رافعا يده ليضربها فما كان منها إلّا أنْ أمسكت بيده وضربته على وجهه، ودفعت به بقوة فسقط في قناة العَكر الذي يخرج من معصرة الزيت.

وهجم رجال الشرطة وسارعت النساء الموجودات والأولاد وبعض الرجال لصَدّهم، ودارت معركة كبيرة انتهت بانسحاب الضابط أبو خضر مع يده المكسورة وثيابه المُبللة والمُلطّخة بالعَكر مع رجاله وهو يتوعَّد ويُهدّد بأنه سيعود لينتقم.

هكذا تحوّلت أم عوّاد لتكون البَطلة المحبوبة في البلدة: الكل يمدحها ويستعيدُ مشهدَ رَمْيها للضابط أبي خضر في القناة وبَصقها عليه، وصعوبة تخليصه من بين يديها على يد أفراد الشرطة، ولكنّ الكلّ خاف عاقبة فعلتها وما يمكن أنْ يكون انتقام الحكومة.

وجاء العقاب سريعا، فقد هاجمت قوّات من الشرطة برفقة موظفين من وزارة التّموين البلدة وصادروا كلَّ ما وجدوه من زيت وزيتون في الخوابي والبراميل. وتحدِّيا لما فعلته الشرطة كتب شاعر البلدة مسرحيّة باسم "موسم زيتون" تُخلِّد معركة يوم الزيت، وعلى مَدار ثلاث سنوات قام مَسرح تَشكّل من فتيات وشبان البلدة بعرض مسرحية "موسم زيتون" حضرها معظمُ السكان، وكانت تُخْتَتَم بتحيّة أم عوّاد بترديد اسمها ثلاث مرّات رغم غضب أفراد الشرطة الذين كانوا يقفون على بعد أمتار ويتابعون ما يجري.

وفي البلدة عاش أيضا الحَلّاق عيسى المُرجان، شاب خلوق يحلق للشباب شَعْرَهم مقابل قروش قليلة. كان يُعاني من شَلل في رجله اليسرى فيجد صعوبة في المَشي لكنه عوّض ذلك بكلامه الجميل وتقرّبه من كلّ الناس وخدمتهم بحَلق شَعْرهم. اختلف الناس في سبب عَرْجه، البعض يقول منذ ولادته كان مشلولا، والبعض يقول إنّ سبب شلل رجله أنه يوم دخل اليهود البلدة عام النكبة واحتلوها انتبه لطائرة تقترب منه فركض، وكان في مقتبل شبابه، ليحتمي في أقرب دار منه، ولسوء حظّه ألقت الطائرة قنبلة على الدار فهدمتها، سارع عيسى ليهربَ فعلقت رجلُه بقضيب حديد طويل وانكسرت في عدة مواضع، وهكذا قضى حياته مشلولا حتى عُرف عند البعض بعيسى الأعرج.

وكما عيسى المرجان أيضا كان في بلدتنا نايف الفوزي اليتيم الذي عاش حياته مع أمّه في غرفة بائسة، عمل في نَقْل الماء إلى البيوت مقابل أجرة محدّدة. نايف الفوزي كان شابا بسيطا صموتا لا يحبّ الكلام ولا يتصادق مع أحد. طوال اليوم ينقل الماء من العين إلى البيوت ويعود آخر النهار إلى أمّه يُساهرها وينام مبكّرا.

أذكر أنني كنتُ أحبُّ عيسى المرجان فقد كانت محلقتُه قريبة من بيتنا، وكان الذي يَحلق لي شعري بداية كلّ شهر. والأهمّ أنني كنتُ أجد عنده مَخبَئي من غضب والدي عندما كنتُ أقوم بعمل يستحق العقاب.

أمّا نايف الفوزي فلم تكن لي أيّ علاقة به، دائما أراه يسوق حمارَه أمامَه وعلى ظهر الحمار تنكات الماء التي عبَّأها من العين وينقلها إلى البيوت التي طلبتها. يسير ينظر أمامه، لا يُكلّم أحدا ولا يُلقي السلام على أحد، وإذا ما حاول ولدٌ التّعرّضَ له يرفع به ويضعه على ظهر الحمار ويقولُ له سأبيعُك للنَّوَر. فيصرخ الولد ويستنجدُ بالآخرين، البعض يُنجده ويُخلّصه، والبعض يتركه لأنّه تطاول على الذي يكبره بالسّن.

بمرور السنوات بدأت ملامحُ الضّعف والعَجز والتّعب تبدو على وجْهَي عيسى المرجان ونايف الفوزي. وكانت الضربة القاضية التي حلّت بنايف الفوزي أنّ العمل بمشروع إيصال المياه إلى البيوت تمّ، ولم تعد الحاجة له ولغيره بإيصال الماء من العين البعيدة إلى البيوت. فحُرم من مصدر رزقه. صحيح أنّ موت أمّه خفّف عنه المصاريف. ولكنه ظلّ بحاجة للمال ليضمن شراء حاجيّاته الأساسية ممّا اضطره لقبول العمل بأيّ شيء مقابل أنْ يحصل على المال. وبانقطاعه عن الناس وعدم حاجتهم لخدماته لم يجد غير عيسى المرجان ليزوره ويُجالسه ويُبادله الحديث. فهو مثله مقطوع من شجره. لم يتزوج وليس له أولاد. وحتى إذا ماتَ قد لا يجدُ مَنْ يقوم بغَسْله وتكفينه ودَفْنه. فأيام كانت قلوبُ الناس على بعضها انتهت، وقد لا يسأل الواحدُ عن حالة أخيه أو جاره. زمنٌ غدّار. هكذا كان عيسى المرجان يُكرّرُ على مسامع نايف الفوزي الذي يُوافقُه بهزّة رأسه.

وكثرت شكاوى عيسى المرجان لنايف الفوزي على أولاد يقومون بمُضايقته ومُناداته بالأعرج ويرمون ببعض الحجارة على بابه، وشكا بشكل خاص من مُضايقات وتَعدّيات سَعْد الله ابن أمّ عوّاد ومن عدَم مساعدة أحد له في طرد الأولاد.

وصدف أنْ كان نايف الفوزي يجلس عند عيسى المرجان وإذا بصَخَب أولاد يقتربُ وتدخلُ عليه أمّ عوّاد وأولادها مُحيية وسائلة باستنكار:

- صحيح يا عمي عيسى شو قَلْلي صاحبك نايف الفوزي إنّو اولادي بضايقوك وبِرْموا عليك حجارة؟

نَقَّل عيسى المرجان عينيه بين الأولاد فرأى إشارات التّهديد التي تتوعده من كلّ واحد.

فابتسم بخوف وقال وهو يُداعبُ رأس الشقيّ المُشاغب سَعد الله:

- يا أم عوّاد ولادك الله يخليهم مثل كلّ الولاد، وبَعِدّْهُم اولادي وبَفْرح فيهم، بَس بضايقوني شوية، أنا بَحبّهم بَس هذا العكروت قرد الله هو إلْلي مِتْعبني أكثر واحد.

وانتفضت أم عوّاد وصرَخت بأولادها:

- يلّا كلّ واحد يبوس إيد سيدو عيسى ويْقولو سامحني.

وبعد أنْ نفّذ الجميع ما أمَرت به قالت:

- وحتى يكون كل اشي منيح إسّى سيدكو عيسى بحلقلكو شَعركو.

واصطفَّ الأولاد، وأخذ عيسى المرجان يقصّ شَعر الواحد بعد الآخر. وبعد أن انتهى من عمله وقفت أم عواد وقالت:

- يسلموا ايديك يا عمي عيسى، وانشا الله بعد مرة بَسْمع إنُّه واحد منهم ضايقك وخاصة سعد الله سَأقْطعْله لسانه.

وخرجت والأولاد يُسابقونها ونظرات عيسى المرجان تُتابع خطواتها وبسمة حزينة تمتزج بدمعة حاول اخفاءَها بيده.

وانقطعت أخبار نايف الفوزي ولم يعد عيسى المرجان يلتقيه حتى علم من أحد الذين يحلقون عنده أنَّه مريض وحالته صعبه ولا يوجد مَن يمدّ له المساعدة بعد موت قريبة له كانت تعطف عليه وتزوره. وبعد أسابيع سمع أنّ نايف الفوزي تَوَفّاه الله وارتاح من مَصاعب الحياة.

وبعد أقل من ثلاثة أشهر لاحظ بعض جيران عيسى المرجان أنّ بابَ المَحلقة يظلّ مُقْفلا، وعرفوا أنّه مَرضَ وفَقَد القُدرةَ على الحركة، ولعدم وجود مَنْ يعتني به لم يصمد كثيرا ومات.

**

قصة: د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

في نصوص اليوم