نصوص أدبية

ناجي ظاهر: عيسى العظيم

ربطت بيننا، عيسى الناعوري وأنا عادل الجبوري، علاقة محبّة ومودة قديمة موغلة في القدم، أكادُ من شدّة قدمها لا أتذكر كيف وأين بدأت، هل بدأت يوم التقت نظراتنا خلال لعبنا في جنينة البلدية؟ أم أثناء غذّنا الخطى متسابقَين، عن قصد أو غير قصد، لزيارة مكتبة مجلس عمّال الناصرة على اسم فرانك سيناترا، هل بدأت يوم جلس كلٌ منّا يحمل كتابَه بيمينه ويُقلع في عوالم خياله إلى آفاق تنطلق من جنينة البلدية تحتويها وتطير مُحلّقة إلى بعيد.. بعيد؟ ليرفع بالتالي عن قصد أو غير قصد، نظره عن كتابه مرسلًا إياه نحو هدف واحد محدّد تمثّل في اثنين، هو وأنا، يحمل كلّ منّا كتابه بروحه وقلبه. ما إن التقت عيوننا في تلك اللحظة، حتى استغللتُ الفُرصةَ.. نهضت من مقعدي الحجري وتوجّهت إليه حيث جلس على مقعده الحجريّ المحاذي، دنوت منه، متوقّعًا أن يقف لاستقبالي إلا أنه لم يفعل. سألته مرفقًا سؤالي بابتسامة خفيفة:

-ماذا تقرأ اليوم؟

فردّ:

-وأنت ماذا تقرأ؟

تجاهلت سؤاله فتجاهل تجاهلي، وغمز لي بشفته العليا:

-هل ستبقى واقفًا.

وراح يفسح لي مساحة ضيّقة بالقرب منه على مقعده الحجري. اتخذت مجلسي لصقه. بعدها لم نكن نفترق إلا لنلتقي.. مع هذا الكتاب أو ذاك. كانت كتبنا تتغيّر وتتبدّل مثل كلّ شيء فينا نحن الفتيين الغضين المتطلّعين إلى دنيا السعادة والامل، باستمرار إلا شيء واحد لم يتبدلّ هو ذلك المقعد الحجري الذي جمع بيننا والّف بين قلبينا النابضين بالكتب والحياة. وتمضي الايام حاضنة إيانا، هو الناعوري وأنا الجبوري، وحاملة أيانا من مكان إلى مكان ومن حلم إلى حلم، إلى أن جاء يوم دنا في أصيله منّي وفي عينه دمعة، سألني:

-ماذا ستفعل إذا غبت عنك فترة مديدة من الزمن؟

فأجبته مِن فوري:

-سألحق بك ولن أدعك تغيب.

عندها لاح على وجهه ظلّ ابتسامة غامضة، وسألني مجددًا:

-هل ستلحق بي إلى أي مكان حتى لو كان المستشفى؟

فهززت رأسي كأنما أنا أريد أن أسأله وهل عندك شكّ؟.. أرسل صديقي الناعوري عندها ابتسامة واضحة، ودنا منّي مستنفرًا كلّ ما بيننا مِن محبّة لكتبنا ومقعدنا الحجري الموحّد، فتعانقنا كأنما نحن نلتقي هذه المرة لنوقّع الميثاق الأول لصداقتنا الثابتة، الحقيقيّة والخالدة. بعد عناقنا هذا اتضح لي سبب حزنه.. فقد عرفت أن مرضًا عضالًا ألمّ بأمه وأنها تمكث حاليًا في المستشفى ولا أمل في شفائها. عندها شعرت بحنوّ لا حدود له تجاه صديقي الناعوري وقرّرت أن أقف معه وإلى جانبه وأن اسانده في محنته تلك. فكان إذا ما توجّه إلى المستشفى اتوجّه معه، وإذا ما توقّف متأملًا ما يمكنه أن يفعل توقّفت إلى جانبه وشاركته همومه. تلك المحنة قرّبت بيننا وعمّقت صداقتنا العميقة أصلًا أكثر فاكثر وأكدّت لكلينا أن جسدينا باتا جسدًا واحدًا إذا شكا عضو منه تداعت لشكواه بقية الاعضاء. بقينا نحن الاثنين عائشين تلك الحالة، حزنًا وفرحًا، إلى أن رحلت أمه مُلبيةً نداء ربّها. يومها شمّرت عن ذراعي.. تركت كتبي لأول مرّة في الحياة .. انصرفت عن قراءتها، وتبعت صديق العمر واقفًا إلى جانبه ومقدّمًا مستحقات صداقتنا عن محبّة وطيب خاطر.. فجلست إلى جانبه في قاعة العزاء الكنسية لتقبّل المواساة بأمه، وعندما شعرت أنني يمكن أن أسكب القهوة السادة في فناجين العزاء قمت بسكبها وقدّمتها إلى المعزّين فكان كلٌ منهم يشرب فنجانه ويعيده إليّ مرفقًا إياه بنظرة غاضبة وكلمة يرحمها الله. ويبدو أن وقفتي هذه استفزت بعضًا من أصدقاء صديقي فبادروا، واحدًا تلو الآخر، يونون في أذنه ملمّحين إلى ذلك الغريب الذي هو أنا.. هامسين فيها دعك منه. وقد سرت تلك الهمسات في شوارع مدينتنا.. زقاقاتها.. منحنياتها وساحاتها الضيّقة، لتصل مسامع أناس عرفتهم وآخرين لم أعرفهم سابقا، فراح هؤلاء يحرّضونني هاتفين في أذني: دعك منه.

هكذا خرجنا مِن مأتم صغير، هو رحيل والدة صديقي، إلى مأتم كبير هو الخلافات بين أصدقاء صديقي وبين أصدقائي، واشتعلت نار الفتنة بين الطرفين وسط ذهولنا، صديقي وأنا، رويدًا رويدًا ويومًا بعد يوم بل اسبوعًا فشهرًا فسنة.. إلى أن بات مِنَ الصعب إخمادُها. وتمضي السنون واحدة تلو الأخرى كأنما هي موجة تجري وراء الموجة، لنجد نفسينا أنا ومَن جمع بيني وبينه الكتاب والحجر.. عيسى الناعوري، أمام الامتحان الأكبر في الحياة.

كان ذلك عندما نجحت جماعته، متوسّلة بألف طريقة وطريقة، في تأليبه ضدي وأفلحت جماعتي بطرائق مماثلة، في تحريضي ضده، فتحوّلنا بين ليلة وضحاها إلى خصمين لدودين يتربّص كلّ منهما بالآخر ليقضي عليه، ويبدو أن أوار الحقد قد تصاعد حتى بات لاسعًا كاويًا درجة الاستحالة، فاقترح خبيث مِن جماعته أن تُعقد منازلة جماهيرية بيننا، نحن الصديقين، يتولّى الفائز فيها مقاليد الامور في البلدة، وبما أنني أنتمي إلى الاكثرية فقد تقبّلت جماعتي التحدي ولم يعد بعدها سوى تحديد موعد المُنازلة.

في اليوم المحدّد توقّفت جماعتُه في أحد طرفي الساحة البلدية، فيما توقّفت جماعتي في الطرف المحاذي، وشرع كلّ منّا في السير نحو الآخر وسط ترقّب الوجوه وتحفّز العيون، من كلا الطرفين المتوتّرين،.. وضعت مِن ناحيتي خطوتي الاولى الثابتة على أرض التحدّي، فيما وضع هو، صديق الامس وخصم اليوم، خطوته المُقابلة على الارض ذاتها، وكنت كلّما وضعت خطوة أخرى على ساحة الوغى أشعر بقلبي يدقّ أكثر، فكيف سأوجّه اللكمة تلو اللكمة إلى الوجه الذي أحببته، وإذا تمكنت مِن القضاء عليه، كيف سيكون وضعي وماذا سأفعل في ذكرياتنا المشتركة مع الكتب والمقاعد الحجرية الحنون.. أين أذهب بها.. وتصوّرت بداية الخلاف في قاعة الكنيسة وأطلّ عليّ وجه والدته الراحلة يهتف بي مِن سمائه العالية قائلًا هل ستقتل صديقك؟ فصرخت لا لن أقتله. عندها انطلقت صرخة مماثلة مِن فم صديقي عيسى الناعوري: لا لن أقتله. عندما وصل كلّ منّا، عيسى وأنا عادل، كان واضحًا أنه لا مناص أمامنا مِن مواصلةِ عناقٍ ابتدأناه مع كتاب بيد كلّ منّا. فتعانقنا وبكينا واحتضن كلّ منّا الآخر كأنما هو يحتضنه احتضانته الابدية.. المثير في الأمر أننا عندما استفقنا من عناقنا فوجئنا بأن الساحة خلت.. إلا منّا.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم