نصوص أدبية

عزيز القاديلي: الكتاب الذي أنقذني

لم أكن أتوقع وأنا أستمتع بالاستجمام ذات صيف جميل على شاطئ بحر طماريس بنواحي مدينة الدارالبيضاء، لم أكن أتوقع أنني سأقع أنا أيضا وبشكل درامي ضحية الغرق. وأنا أستعيد إلى حدود الآن تلك اللحظات العصيبة وعلى الرغم من مرور سنوات طويلة على ذلك الحدث المخيف ما تزال الذاكرة ترتج، فحدث الموت مفزع ولا يمكن تقبله. كنت بالكاد قد أنهيت السنة الدراسية بتميز حاصلا على شهادتي الجامعية وكلي توقد لمواصلة مسيرة حياة متميزة ومتفردة. وكي أتخفف من عناء السنة ومشاقها قررت الاصطياف بشاطئ البحر رفقة العائلة وفي غياب الأم المتوفاة. كنا قد اعتدنا على قضاء بضعة أيام من العطل الصيفية بفضاء شاطئ طماريس الجميل، إذ ما أجمل صحبة الرمال الذهبية والهواء البحري الصافي الصحي، وأكثر ما كان يغويني هو أن تعيش بجوار البحر. كنت مفتونا وأنا تستيقظ صباحا مع شروق الشمس وبصري يمتد بعيدا نحو أفق ضبابي ولا محدود، ويصلني صخب الأمواج وهي تداوم على حركيتها العبثية ليل نهار. كان من عادتي وأنا أقضي هذا الاستجمام المدهش أن أكتفي بالاستلقاء على الرمال مستلذا سخونتها حاملا بين يداي كتابا، وكان الكتاب الذي حملته معي " الإنسان المتمرد" لألبير كامو. لم أكن أستوعب ما يعرضه من أفكار وتصورات فلسفية بقدر بساطتها الظاهرية إلا أنها تتضمن صعوبات مفاهيمية غاية في العمق وإشكالات فلسفية غير معهودة.

و لن تفارقني ذكرى ذلك اليوم الذي قررت فيه السباحة وسط أمواج خادعة، إذ كانت في البداية هادئة ومغرية وجذابة، تستميلني بلطافتها وأنا أرتمي في أحضانها، كان ذهني يجتر بقايا أفكار بدت لي عصية على الهضم والفهم، كانت أمواج البحر تتلاعب بي كذلك أفكار الكتاب، كنت ربما ذاهلا أو غائبا وأنا أشق صفحة الماء، وأتهادى وسط البحر الفسيح، اندفعت متعمقا سائحا بلا بوصلة منتشيا بالتمثلات التي كانت تتصارع بداخلي  وتتراقص لها خلايا الذهن باستمتاع. بدأت الأمواج تصخب فما عدت أفرق بينها وبين ما يتموج بداخل الذهن، وحينما استدرت ورائي بدا لي الشاطئ بعيدا فقررت العودة، إلا أن ما حصل أفزعني إذ بقدر ما كنت أتحرك نحو الشاطئ كان تيار مائي يجرني نحو الأعماق، فبدأ الخوف يراودني واستيقظ المتمرد منتفضا، وسرت رعشة عميقة في أكل أوصالي تمدني بكل الجهد كي أصارع التيار الذي يسحبني إلى داخل البحر. وعيت أنني في ورطة من أمري وبدأت أطياف الفكر تحوم من حولي وأنني غارق لا محالة. وحينما أحسست أن نهايتي قد حانت، بدأ ذهني يتساءل: أ هذه نهايتي؟ والكتب التي نويت أن أقرأها هذه السنة؟ والكتب التي اشتريتها مؤخرا، لماذا اشتريتها وأنا الآن على عتبة الغرق والزوال؟ والكتب الأخرى التي على رفوف مكتبتي الصغيرة والتي تنتظر أن ألامسها وأتمتع بقرها؟  أ هذه هي النهاية؟ لا يمكن أن يحصل ذلك بهذه السهولة، لا يمكن.. كانت الأسئلة تتهاطل علي مثل شلال وأنا في غاية الإنهاك من كثرة ما بذلته من مجهود لمصارعة التيار، فكان الحل أن ألفت المصطافين القلائل الموجودين بالقرب من الشاطئ إلى مصيبتي. كنت أرفع يدي بصعوبة باذلا ما تبقى لي من طاقة في الصراخ والنداء طلبا للمساعدة. سأعرف فيما بعد أن رجال الإنقاذ كانوا قد غادروا الشاطئ لتناول وجبة الغداء، ومن حسن حظي أن أحد المصطافين انتبه إلى استغاثاتي، فسارع للبحث عن رجال الإنقاذ. لم تمر إلا بضع لحظات كانت طويلة بالنسبة لي وصعبة حتى رأيتهم يسبحون باتجاهي، وحينما اقتربوا طلبوا مني الاسترخاء على ظهري حتى أساعدهم في سحبي نحو الشاطئ. لم تكن المهمة سهلة إذ تطلب ذلك الالتفاف على التيار المائي للخروج إلى بر الأمان. كنت أشعر بالدوار والتعب وأنا أقف على رجلاي، كنت على أهبة أن أشكر الذين أنقذوني إلا أن التعامل الفض  والقاسي الذي واجهني به رئيسهم أيقظ بداخلي المتمرد الذي سكنني فكد أفقد صوابي  وأتشاجر مع من أنقذني، لكن لحسن الحظ التف حولي أحد المصطافين وجرني بعيدا عن الجميع وهو يزرع الطمأنينة بداخلي ويهنئني على سلامتي ونجاتي.

***

للكاتب الدكتور عزيز القاديلي

 

في نصوص اليوم