نصوص أدبية

عادل الحامدي: الصحن والكأس البلوريان

يوما إثر يوم، وليلة بعد ليلة، وبتأثير من وضع العوز الذي ما انفك يتفاقم، شرعت تتوضح لربي البيت حقيقة اضطرارهما الأكيد لصب قدر أقل من الاكل في الصحن عند العشاء، وقدرأقل من الحليب عند الفطور، لإبقاء كمية الطعام عند حدود الكفاية لأولادهم الثلاثة، وهكذا أحيلت الى المصفوفة في المطبخ، التي كانت سلفا خاوية من الأواني، حيث سيغطيها الغبار سريعا، الجفنة الكبيرة التي كان ينضد بداخلها الكسكسي، أو تعجن فيها ربة البيت الكسرة، وتبعها الصحن الحديدي متوسط الجحم الذي كان من عادة ربة البيت أن تصب فيه مرق فطور منتصف النهار أو عجين العشاء أو تقطع فيه الخضر، وانزل لمعترك الاستعمال اليومي المستمر بدلا منهما، صحن وكاس بلوريان صغيرا الحجم، بل قل متناهيا الصغر، قابلان للكسر وسريعي التهشم، لا تزيد الكمية التي يتحملان استيعابها من الطعام والحليب  على غير ما بالكاد يدفع عن انسان غائلة الجوع لبعض الوقت فقط، فكانت ربة البيت كل مساء تصب لأولادها ثلث الكمية المعتادة من الطعام كعشاء، وكل صباح ثلث القدر المعتاد من الحليب كفطور، وتترك أولادها يأتون على ما في الصحن والكأس حتى يلحسونه لحسا، وتنخرط في جدال عنيف مع زوجها خارج الغرفة لا يصل شيء منه لأسماعهم، لكنها عندما تعود للأطفال تأمرهم دائما ودون انقطاع أن يحمدوا الله على استمراره مدهم بنعمه، فوراء  السيء الذي صاروا إليه ثمة دائما ما هو أسوأ.

ويحمد الجميع الله، راجين منه مخلصين أن لا يذهب بحالهم من السيء للأسوأ.

2

أغرم أصغر الأطفال بالصحن البلوري الصغير وبالكأس، وشغله جمالهما عن ملاحظة النزر القليل  من الطعام والحليب الذين كانا يحتويانه، فلم يكن يشكو أو يتذمر ويقضي أغلب وقت الاكل ينظر للصحن أوالكأس منبهرا بالشكل الجميل للوعاء الشفّاف الذي أمامه، ويصغي لصوت الرنين الآسر المنبعث منه اذا نقر فوقه بأحد أصابعه، وقد يرى انعكاسا مقعّرا لصورته على صفحة البلورإذا قلب الصحن على رأسه، فتمتلأ نفسه بالدهشة، دون أن يأكل شيئا من الطعام ويترك معظم ما فيهما لشقيقيه اللذين راقت لهما غفلته ووجدا فيها تعويضا مجزيا عن النقص في كمية الطعام الذي يأكلانه، ودون أن يقولا كلمة لأبويهما عن افتتان صغيرهما بالصحن وبالكأس وبصورته المنعكسة عليهما، أو عن الهزال الذي شرع يصيبه ويصيبهما معه، رغم استئثارهما بالحصة الأكبر من الطعام. 

وحده قط المنزل كان لا يكف عن التمسح به والطفلان الكبيران لا يكفان عن نهره وطرده خارجا معتقدان أن تمسحه بشقيقهما ما هو غير محاولة منه لتنبيهه من غفلته و دليل ترغيب له في الاكل.

3

شعر القط بخطورة وضعه اثر التبدلات الأخيرة في نظام الأكل، وما جدّ من تقتير فيه، ونظر بعيد دامعة وقلب منفطر للصحن الصغير وقد أتى الطفلان على ما فيه ولم يبقيا له شيئا، فلم يجد فيه بقية تؤكل، لكنه إذ تذكر حاوية الفضلات القريبة من المنزل فكر أنه قد يجد الحل الذي يقيه الجوع الوشيك

لكنه لم يعرف انها ستكون خاوية خالية ولن يظفر من بربشته فيها بغير جراح تدمي مخالبه.

فغدا مصيره أن يقضي يومه متضورا ملقى في زاوية بمعدة خاوية وجسد هزيل وضلوع ناتئة معفرة

4

نظرت الجفنة الكبيرة من مكانها في المصفوفة، وقد بدا الغبار يعلو ظهرها، بحزن فائق للقط وهو يجول داخل المطبخ المقفر بعد أن اخلد اهل البيت للنوم في الليل، وتذكرت الهوان الذي صارت فيه وتنكرأهل البيت لها وإعراضهم عن خدماتها، فاعتزمت أن تفضي للقط باقتراح رشيد قد يكون فيه عودة أيام العز لها وله. نقرت بأحد حوافيها على جدار المصفوفة فاحدثت صوتا تنبه له القط فالتفت, قالت له هامسة

- لو استطعت القفز فوقي وتمكنت من بلوغ مرقد الكاس والصحن البلوريان وتحركت عبرهما متصنعا الانتباه لوجود فأر، وفي عبورك دفعتهما للاحتكاك فهشم أحدهما الآخر، هذين المغرورين المعجبين بجمال صنعهما ودقة تكوينهما وشفافية منظرهما، الصحن والكاس البلوريان، لارتحنا من سطوتهما على المائدة ومن افتتان صاحبنا الصغير بهما و لعدت الجفنة التي تعرفها تنتصب متربعة وسط المائدة وتفيض حافتها بالكسكسي الذي يبقى لك منه الكثير حتى يصيبك البشم .

أعجب القط بالفكرة ولم يطل به التردد قبل المرور للتنفيذ

5

اصغى الطفل الصغير لصوت ارتطام ووقوع شيء على الأرض وتهشمه ينبعث من المطبخ في آخر الليل فنهض مغالبا خوفه يستطلع الأمر،

غلب على الخوف فيه معرفته لصوت الرنين المألوف للصحن البلوري فأثار فيه الحنين لمداعبته، وعندما بلغ المطبخ شاهد حطاما بلوريا وزجاجا مهشما متناثرا على أرضيته، نظر الى الرف الذي تصطف فيه أواني المطبخ فلم ير لا الصحن ولا الكاس فلم يتريث وسارع بالركوع على الأرض محاولا لملمة الشظايا وإعادة الكاس والصحن لشكلهما القديم ولم يطل به الامر حتى تخضبت يداه بحمرة قانية وارتفع صوته ناضحا ببكاء الألم

اما القط فاختفى سريعا في الظلام ..

6

بينما الأم تضمد الجراح التي امتلأت بها يدي صغيرها من محاولته تضميد جراح الصحن والكأس، كان في مرأى الدم الذي نزف من يديه ما صرفها عن معاقبته، هي التي كانت مقتنعة أنه تسلل للمطبخ ليلا وهشم الصحن والكأس من حيث أراد ملاعبتهما. أصغت لصوت مشاحنة تأتي من جهة الباب, سمعت صوتين غير متكافئين في القوة، أحدهما يزمجر ويهدد، والثاني يستعطف ويتوسل. عرفت أن مالك البيت يريد إخراجهم و لا يرغب في بقاءهم لأكثر من أيام معدودات، ولم يطل الأمر بهم، كان النقاش معه أمرا ميئوسا منه، الرجل يريد داره، وعليهم البحث عن بيت لا يحتوي على أكثر من حجرة واحدة، ليحتوي الأقل منهم، داعين الله أن لا يريهم الأسوأ، مثلما فعلوا مع الكأس والصحن. اللذان احتويا الأقل من الطعام والحليب. من الغد قدمت عربة يجرها بغل كدسوا فوقها امتعتهم وارتحلوا الى حيث لا يعرف الطفل ولا القط .

7

قرب حاوية فضلات خاوية أقعى طفل متسخ، يداه ممتلئتان بالجروح، ونظرته تنضح رغم ذلك بلهفة غير مفهومة، وعلى مقربة منه بقايا من الزجاج المهشم وهو لا ينفك يشكلها ويعيد تشكيلها في محاولة منه لإعادتها لهيئتها الاصلية، متتبعا أثرا لصورة شيء مكتمل في ذهنه ويحاول استعادته، وفي كل مرة يعيد المحاولة تصاب يده بجروج جديدة، وفوق الحاوية الخالية إلا من بقايا العلب البلاستيكية وشظايا البلور، ربض قط مهزول الجسد، وبره ينعقد فتائل فوق ظهره وأسفل عنقه يحمل اثر جرح حديث كأنه تعرض لمحاولة ذبح، يتابع بعينين يثقلهما الماء صنيع الطفل ولا يقدر حتى على إصدار صوت مواء.

ثم ما لبث أن بارح موضعه وحط بقرب الطفل وبلسانه شرع يلعق الدماء التي نضحت من يديه.

***

قصة قصيرة: عادل الحامدي

القيروان - تونس

في نصوص اليوم