نصوص أدبية

عادل الحامدي: الخندق والشجرة

الشاب الهزيل الذي أرسلوه قبل يومين ليحفر خندقا أمام بيتي، يهوي دون انقطاع على كتل إسمنت الرصيف فيحطمها تحطيما. أزال الطوق الإسمنتي الخانق المحدق بالشجرة عندما بلغها الحفر؛ الشجرة إياها التي حذرني جاري أكثر من مرة  من زرعها قرب الحائط قائلا :

- إياك أن تزرع الشجرة حذو الحائط، فجذورها قوية وسميكة وستهز الأسس وتصدع الجدران..

لكنني زرعتها رغم تحذيراته.. وجعلتها تتوسط مربعا ترابيا صغيرا سيجته بقطع من الآجر ليتيح لماء المطر أن  يتجمع فيه ويتسرب لأعماق الشجرة  مغذيا جذورها.. جذورها التي ستمدها عميقا تحت الأرض، عندما تبلغ درجة من القوة لتهز أسس المنزل وتصدع جدرانه.

 ثم مرت سنوات، وغلبتني حالة من اللامبالاة  حيالها.. كرهت الشجرة وكرهت الظل الثقيل الكئيب الذي تلقيه طوال الوقت على واجهة المنزل وما يحتشد داخلها من ناموس وبعوض، فأزلت المربع الترابي الذي يتوسطه جذعها  بعد أن تحول إلى حوض لتجمع الفضلات ونوم القطط تحت الشمس، وملئت المساحة كلها إسمنتا.. إسمنتا يمسك بخناق الجذع ويحرمه الهواء والماء، باحثا من وراء ذلك كله عن موتة سريعة لها.

 رغم ذلك استمرت الشجرة حية مخضرة أغلب أوقات العام.. بظلها الوارف الذي تلقيه على الفناء الأمامي  للمنزل، لا تبالي هي الأخرى بتدابيري الشريرة حيالها.

مضى الشاب يهوي بمطرقته الحديدية الضخمة على طول الخط المرسوم لمسار الخندق.. والعرق الغزير ينز من جسده، حتى بلغ المربع الترابي الذي بلطته إسمنتا ففتّته كله وأعاده ترابا.. ثم مضى يحفر عميقا  حتى بلغ جذور الشجرة فقطعها ومزقها إربا إربا.. كانت شبكة من السيور والشرائط النحيلة  المتداخلة . لم ينجح في مسعاه لتفادي قطعها بالحفر بجوارها، كانت تعترض طريقه رأسا.. فلم يجد مفرا من قطعها، وما كان بوسعه غير أن يفعل ذلك، والعقوبة كانت تترصده من مشغله الذي بعثه لحفر الخندق  لو حاد شبرا واحدا عن الخط المحدد له ليتفادى قطع الجذور، ولم يعثر بينها على جذر واحد يمضي تحت الأسس أو قريبا منها.. كانت كلها تذهب بعيدا تحت الأرض.. بعيدا نحو الفضاء المفتوح بحثا عن الماء والهواء اللذان حرمها منهما اختناقها بالإسمنت

في لحظة أحياها.. بأن حررها من الطوق الخانق، وفي اللحظة التالية قتلها.. بأن مزق شرايينها..

- سنعيد لها المربع الترابي حيث كان يتوسط الجذع.. لتتغذى مجددا بالماء وتستنشق الهواء.. بعد أن تأكدنا أن لا خطر يأتي منها يهدد الأسس.. قال جاري بعد أن أتم الشاب الهزيل مد الأسلاك وردم الخندق منهيا عمله.

جاري المتوجس من خطر الجذور المتمددة على استقرار الحائط وسلامة الأسس لم ير المجزرة التي ارتكبها فأس الشاب الهزيل بحقها وأنا بدوري أغمضت عينيّ ولم ارد أن أراها..

أزال عنها طوق الإسمنت ولم ير ما فعلت يداه بالشرايين.. وبينما كنا نعيد تهيئة المساحة الترابية المحيطة بالجذع ونرويها بالماء، كانت يد جاري تحرك التربة الطرية التي خالطتها كتل صلبة من حطام الإسمنت المفتت بعود أخضر طري كثير الليونة والتثني

كان واحدا من جذور الشجرة التي قطعتها الفأس؛ الفأس ذاتها التي حررتها من الإختناق..

***

قصة قصيرة

عادل الحامدي - كاتب من تونس

في نصوص اليوم