نصوص أدبية

علي فضيل العربي: عرس الدم

الإهداء: إلى أبطال ثورة نوفمبر الخالدة، الذين استرجعوا حريّة الجزائر واستقلالها في 5 جويلية 1962 م، رحم الله الشهداء وجزى المجاهدين.

***

فجأة وجد عبد العال نفسه محاصرا وسط زحمة من رجال الشرطة المدججين بالسلاح والكلاب، وراحوا يطبقون عليه وعيونهم تقذف من أغوارها حمم الحقد بشراهة لا مثيل لها.

انتصب عبد العال، كأن رجليه انغرستا في الأرض أو انفلتتا منه، ارتعدت فرائصه وطوقه الرعب، اشتعلت أعماقه قشعريرة نضح لها جسده عرقا مثلجا.

انقضوا عليه مثلما تنقض الصقور على صيد ثمين، انهالوا عليه ضربا على كامل أقاليم جسده دون تمييز ثم دفعوه بفوهات بنادقهم وأنياب كلابهم نحو الحائط.

قال عبد العال وقد صدمه الحائط:

- لماذا توقفونني؟

- لماذا تعاملونني هكذا؟

و لم يجبه أحد هذه المرة كذلك، فراح يجتر سؤاله وحزنه، بينما الأيدي الظالمة تفتشه من أعلاه إلى أسفله.

وبعد برهة زمنية صرخ بأعلى صوته:

- هذا ظلم، ها، ذا.

قمع شرطي صرخته بضربة على رقبته وردد بنبرة فظة:

- اصمت ولا تثير الشغب، يا مخرّب، يا قذر..

وبعد لحظات قذفوا به في سيارة عسكرية وانطلقت بسرعة جنونية نحو مركز التحقيق.

في اليوم الأول قال له أحد المحققين:

- هل تعرف حانة السيد برجي؟

- أعرفها..

- وكنت ترتادها باستمرار..

- أبدا لم يحصل هذا. ديننا حرّم علينا شرب الخمور.

- ولماذا كنت تمر عليها صباح مساء؟

- هو طريقي منذ ولدت..

- بل كان بمقدورك أن تسلك طريقا غيرها.

- لم أفكر لحظة في تغيير طريق أبي وجدي.

- إذن كنت تترصدها , ولهذا السبب أدمنت المرور بجانبها كل يوم حسب تقاريرنا السرية.

ولم يجب هذه النوبة نكاية فيه.

- ثم قمت بتفجيرها. أليس كذلك؟؟

- ردد عبد العال في نفسه مبتهجا:

- الحمد لله، نجحت العملية. آه إنها البداية، لا تتعجل يا جلادي، سنقتلكم مثلما تُقتل الكلابُ المسعورة..

ثم أردف بصوت جهوري:

- لست أنا.

- كل الشهود يقولون ويصرون على أنك واضعها.

- لأنهم أعدائي.

- اعترف. لا تحاول الإنكار.

- لست أنا.

- يظهر لي أنك لا تحب الحياة.

- أجل لا أحبّها إذا لم كان فيها ذل وهوان.

- والمال؟

- فداء للوطن.

- إذن اعترف.

- اعترف أنت أولا بأنك سرقت من شعبي حريته وماله ودنست أرضه.

- أنت إرهابي خارج عن القانون.

- وأنت القاتل المغتصب، القادم من وراء البحر.

أمطروه ضربا حتى تورم جسده وهو غير عابئ بهم بتاتا بل راح يبتسم بسخرية لا مثيل لها مما ألهب حقدهم وغضبهم. أغرقوا رأسه في ماء نتن حتى اختنق وفقد وعيه.كرروا العملية عدة مرات علهم يشفون غليلهم.لكن عبد العال اعتصم بالصبر ولم تلن قناته قط. ولما يئسوا سحبوه مقيّد القدمين، مغلول اليدين إلى زنزانة يسكنها الغثيان والظلمة.

و في اليوم الثاني رموه في قاعة التحقيق المجهزة بوسائل التعذيب بكل عناية. جاءه محقق آخر.

- مازلت شابا يا عبد العال. المستقبل أمامك.

-..............

الاعتراف فضيلة وشهامة.

".............."

- لقد أزهقت القنبلة أرواحا بريئة..

- هذا ما كنت ارمي إليه أيها الغازي.

كذلك ردد في دخيلته وقد غمرته نشوة طفولية عارمة.

- قتل الآخرين جريمة يعاقب عليها الرب.

- هه، صار المجرم قديسا.

كذلك ردد في أعماقه بامتعاض وتعجب.

- دينكم يحرم عليكم قتل الآخرين. أليس كذلك يا عبد العال؟

ردد بصمت وهو يحملق في عينيه:

- بل يأمرنا بقتل المعتدي , الغاصب.

- لماذا تنظر إلي هكذا؟.

-.............

- لماذا لا تجيب؟

-...................

- لا تثر أعصابي أيها الوغد.

- بل انفجر أو اغرز أسنانك في شفتيك.

كذلك قال في دخيلته بتلذذ واستهزاء

- لماذا لا تجيب عن أسئلتي؟

و بصمت رهيب ردد عبد العال في أغوار نفسه:

- لأنني أكرهك أيها الجلاد. سلبت حرية شعبي باسم تعاليم الإفك والزيف والجبروت.

و انتفض المحقق , كأن صاعقة وقعت على رأسه على حين غفلة. هزه من كتفيه بقوة وقسوة وراح يصرخ فيه حتى كاد أن يزلزل القاعة.

- تكلم، أجب عن أسئلتي، لا تصمت، قل أي شيء. هل تسمعني؟.... آه، ستدفع ثمن صمتك هذا أيها الجرذ.

وأمسك به ثلاثة جلادين، علقوه من رجليه كشاة يهم صاحبها بسلخها، ثم بدأوا يسيمونه ألوان العذاب كأنهم أصيبوا بجنون جارف.

أوصلوا سلكا كهربائيا بلسانه، ثم راحوا ينزعون أظافره وهو يصرخ ويتأوه.

في اليوم الثالث أخرجوه كعادتهم إلى قاعة التعذيب. تحلقوا حوله كالذئاب المسعورة. عيونهم تنهشه، يودون لو يقطعوه فتاتا أو يغيبون أسنانهم وأظافرهم في أعماق جسده المسكون بعشق الوطن المطوق بالأغلال. تذكر عبد العال صيحة جده وهو يسحب من رجليه نحو احد الجلادين:

- لا حياة لمن لا أرض له يا بني.

قال له الجلاد وهو يتوعده:

- هذه فرصتك الأخيرة يا عبد العال.

فرد عبد العال مختالا:

- لتكن آخر ثانية من عمري.

- أنت تدفع نفسك للهلاك دون مقابل.

- لتحيا الجزائر.

- المقصلة في انتظارك.

- الوطن في حاجة إلى دماء كي يطهر من دنسكم وافترائكم.

- وأولادك من يرعاهم؟

- يرعاهم الذي خلقهم وخلقني وخلقك.

- سنقتلهم جميعا ونحرقهم

- لتحيا الجزائر.

- أنت مجنون.

-  بحب الجزائر.

و التهب غضب الجلاد، كاد يخرج من جلده، صرخ وهو يزبد و يدور كالمجنون:

- هيا، اجعلوه عبرة لقطاع الطرق.

- سنقطع دابركم أيها المجرمون.

كذلك ردد عبد العال في دخيلته.

هجموا عليه كالذباب الأزرق. ورموه في زنزانة منفردة، مظلمة.

في اليوم الرابع ساقوه إلى المقصلة. كانت الشهادة القادمة تؤجج فرحه. صليل أغلاله موسيقي تملأ الجدران الخرساء فتوقظ الروح. كان يمشي الهوينى، ازداد تألقا كأنه البدر، طفت ابتسامة على شفتيه فأصابت عيون جلاديه، توهج جنونهم. قال لهم:

- فكّوا أغلالي، دعوني ارتقي سريعا إلى المقصلة دون قيود.

اقترب نحو المقصلة باختيال كعريس في ليلة زفافه.

قرأ بهمس:

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)

حملق في عيون جلاديه، توعّدهم، ابتسم بسخرية. فانفجر جنونهم وانطلق صوت المقصلة زغرودة سكنت الفضاء العميق.

{تمــــــت}

***

قصّة قصيرة بقلم:

علي فضيل العربي - روائي وناقد / الجزائر

في نصوص اليوم