نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: البيت ذو الرقم 2

هبطتْ من الحافلة قبلي، وقد ارتسمت على وجهها حيرة. ما. أعرفها تعاني بعض النسيان، لكنّها لاتنسى كلّ معالم المحلة فضلا عن أنها تتذكّر كثيرا من الوقائع والأحداث. سألتها أنا جارك.. بيتي يقابل بيتك هل يمكن أن أرافقك. ويبدو أنها ارتاحت لي.

كانت بيننا مجاملات الطريق أو رفقة الحافلة لكني عرفت عنها الشئ الكثير خلال الستة الأشهر الأخيرة التي بدأت تعاني فيها من التشتت والنسيان.

في اللقاء الأول عرفت أنها قدمت إلى بريطانيا في ستينيات القرن الماضي.. تزوجت هنا في هذه المحلة واشتغلت في معمل للأزرار. كان مظهرها أنيقا.. قد تغير فساتينها بل يظلّ كل فستان يزهو بصف أزرار متناسق طويل.. وفي اللقاء الثاني راحت تتذمر من حفيدها ابن ابنتها. تقول إنه سرقها فأخبرت البوليس. مهما يكن المال عزيز. لو طلب منّي مالا لما منعته عنه.. أمّا ابنها الأكبر فيأتي مثل الضيف.. زوجته الإنكليزية ألطف منه.. بعض الأحيان تساعدها والطامة الكبرى هي ابنتها الوسطى التي تنتظر موتها لتأخذ حصّتها من البيت وترحل مع عائلتها إلى استراليا..

أووه استراليا.. سأكون قاسية معهم.. سأكتب في وصيتي أن ابنتي الكبرى هي وريثتي الوحيدة.. على الرغم من مشاغلها تأتي كل أسبوع تنظف البيت وتدخلني الحمام..

كنت أرى بالمصادفة وقت الصباح والمساء نساء يأتين إليها بعضهن يرتدين ملابس العمل، نعم رأيت بعض السمراوات فأدركت أنهن بناتها .. يأتين يأكلن ويشربن.. يشاهدن التلفاز. ويجعلن صغارهن يعبثن بالبيت فيصبح مليئا بالأزبال.. مع ذلك لم تنطبع بذهني الوجوه مثلما لم تنطبع بذهني الأسماء التي ذكرتها السيدة جارتي التي تسكن البيت ذا الرقم2

- ها نحن وصلنا

- أشكرك جدا وآمل أن تقبل أن تصبح شاهدا في الوصية سيكون معك السيد جون من البلدية والمحامي سأفجئ هؤلاء الطماعين ليعرفوا البيت لابنتي الكبرى.

لامانع عندي.

ودعتها، وقد أملت أن تتصل بي بعد أن ترتب لقاء مع المحامي وعضو البلدية، كان كل شئ واضحا وغامضا لي، سيدة عانت الكثير في تربية أبنائها فهجروها واحدا بعد الآخر.. ثمّ بقيت تعيش على الذكريات بعد وفاة زوجها.. أنا نفسي سكنت المحلة تلك قبل عشر سنين رأيت بعض من رحل وسكانا جددا قدموا ولم أدرك سرّ جارتي الجامايكية إلا قبل بضعة أيام..

وقد مرّ أكثر من أسبوع على لقائي الأخير بالسيدة الجارة.. لم أر العاملات من مكتب الرعاية يطرقن بابها. ولم أبصر أيّا من بناتها أو ابنها وزوجته الإنكايزية.. تيقنت أن ابنتها الكبرى أو إحدى بناتها دعتها إلى بيتها أو أن أبناءها وأحفادها صحبوها معهم في سفرة إلى الكاريبي

هناك احتمال أن يتغير الناس

الحياة لاتجري على نسق واحد كما نظنها

كنت أهيؤ نفسي للخروج حين رن جرس الباب، فطالعني وجه السيد جون عضو البلدية، وهو يسلمني بطاقة نعي السيدة شيرينا جارتي الساكنة البيت رقم 2

سألته مستغربا:

هل فاتحتك بموضوع الوصية مثلي وكونك شاهدا معي في أن ابتها الكبرى هي وريثتها.

أووه ليتقدس الرب السيدة شيرينا ليس لها أبناء..

كنت أتطلع في بطاقة النعي والدعوة، وأردد عبارة السيد جون: لتتقدس روحها هي الآن مع المسيح في السماء فقد حررني موتها السريع من أن أصبح شاهدا على حرمان أناس غير موجودين في الواقع.

***

د. قصي الشيخ عسكر

في نصوص اليوم