آراء

مشهدان متضادان في فلسطين المحتلة

قوى شر متعددة داخلية وخارجية تعمل على تحطيم المجتمع الفلسطيني من داخله وتشويه قيمه وثقافته ورموزه الوطنية، تقابلها إرادة صمود وقوة إيمان عند الشعب بعدالة قضيته ورفضه للاستسلام . وإن كانت قوى الشر نجحت نسبيا في رسم معالم مشهد سلبي ، إلا أنه من المؤكد أن نجاحها مؤقت، لأن الشعب الفلسطيني عودنا دوما على النهوض والتمرد والثورة على كل من يهينه ويحتقره أو يعتقد أنه يستطيع مساومته على حريته وكرامته بالمال أو يرهبه بالسلاح .

لذا نشاهد في مناطق السلطة/السلطتين مشهدين متضادين :

 

المشهد الأول:

يعكس ويعبر عن روح الصمود والبطولة والتحدي في مواجهة الاحتلال، حيث حوالي ستة ملايين فلسطيني صامدين على أرضهم وفي وطنهم التاريخي، في داخل الخط الأخضر، وفي الضفة والقدس، وفي قطاع غزة، وكل تجمع من التجمعات الثلاثة يواجه الاحتلال بما هو متاح له وحسب خصوصية الحالة التي يعيشها، ولم تستطع كل ممارسات الاحتلال من اقتلاعهم من أرضهم أو دفعهم للتنازل عن حقوقهم الوطنية . وفي خارج فلسطين ستة ملايين أخرى ما زالوا متمسكين بحق العودة ويرفعون راية الوطنية الفلسطينية ويناضلون حيث يتواجدون لكسب مزيد من الأصدقاء لجانب عدالة القضية ويحاصرون ويفضحون الأنشطة والدعاية الصهيونية .

لذا ليس من باب الشماتة ولا من باب تضخيم الذات والتقليل من خطورة وصعوبة الوضع الفلسطيني، إن قلنا إن حال الشعب الفلسطيني حتى في ظل خضوعه للاحتلال أفضل من حال كثير من الشعوب العربية وأن لدينا الكثير مما نفتخر به . فلو عملنا مقارنة بين واقع الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال والحصار، وما تشهده دول عربية من صرعات وحروب أهلية تؤدي لسقوط مئات الآلاف من الشعب وتدمير مدن بكاملها، وهجرة الملايين من الشعب، وعودة الجيوش الأجنبية لاحتلال بعض أجزائها وإقامة قواعد عسكرية فيها الخ، سنلاحظ أن الشعب الفلسطيني استطاع أن يحافظ على وحدته وتماسكه، وعلى اتجاه البوصلة النضالية موجهة نحو إسرائيل بالدرجة الأولى، بالرغم من حالة الانقسام والخلاف بين فتح وحماس، وبالرغم من محاولات أصحاب الأجندة الخارجية جر الشعب الفلسطيني لمستنقع الخلافات والصراعات الدينية والمذهبية .

صحيح يوجد انقسام واتهامات متبادلة واعتقالات متبادلة في إطار الخلاف بين فتح وحماس، وبين المشروع الوطني ومشروع إسلام سياسي، إلا أن كل ذلك لم يدفع الشعب ليخوض حربا أهلية أو اقتتالا داخليا إلا في أضيق الحدود كما جرى في الأيام الأولى للانقلاب الأسود 14 يونيو 2007 . وهذا يدلل على رقي الحس الوطني عند الفلسطينيين ومعرفتهم بأن أية مواجهات مسلحة سواء في الضفة في مواجهة السلطة وحركة فتح، أو في غزة في مواجهة حركة حماس وأجهزتها الأمنية، لن يخدم إلا العدو الإسرائيلي .

لأن كثيرون لا يعرفون أصالة الشعب الفلسطيني فإنهم يسألون ويتعجبون لماذا وفي ظل الحالة المتردية في قطاع غزة وفي الضفة الغربية لا يثور سكان غزة ضد حركة حماس ويثور سكان الضفة ضد السلطة ؟ الجواب ليس لأنهم خائفون من بطش السلطتين بل لأن حسهم الوطني يمنعهم من ذلك ولأنهم يدركون أن أي مواجهة داخلية أو حرب أهلية ستخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، ولأن الشعب الفلسطيني بات يدرك أن إسرائيل هي التي صنعت الانقسام وتسعى لتكريسه، سواء من خلال صناعة دولة غزة أو من خلال إعادة روابط القرى في كنتونات منعزلة في الضفة على حساب السلطة الوطنية والمشروع الوطني، وبالتالي فإن الاقتتال الداخلي سيساعد إسرائيل على الوصول لهذه النتيجة .

هذا المشهد قوة استراتيجية للفلسطينيين، تربك العدو وتجعل مشروعه الصهيوني في حالة تهديد مستمر، بل ومشكوك في قدرته على الاستمرار طويلا، خصوصا مع توالي اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية ورفضها للممارسات الإسرائيلية . هذا المشهد الرائع والمشرف لا يتصدر المشهد العام وقلة من يتحدثون ويكتبون عنه، حيث مشاكل الانقسام والصراع على سلطة وهمية ومشاكل غزة وحصارها ومشاكل إعمارها الخ، تتصدر المشهد العام وتشكل مادة شيقة لوسائل الإعلام الوحلية والعالمية .

 

المشهد الثاني :

مقابل المشهد الأول وردا عليها، تشتغل إسرائيل ومعها أطراف فلسطينية وعربية متواطئة أو جاهلة على تحطيم وتشويه هذا المشهد الوطني الراقي، وخلق مشهد مغاير، سياسي وثقافي واجتماعي، وقد نجحت نسبيا في ذلك بحيث بتنا أمام مشهد تراجيدي، مع أنه مؤقت وليس معمما إلا أنه خطير ويجب سرعة التصدي له ووقف مفاعيله التدميرية . أهم تمظهرات هذا المشهد : -

احتلال يتوغل استيطانا وتهويدا للأرض والمقدسات، انقسام بات المدافعون عنه والمستفيدون واليائسون من الانفكاك منه يتزايدون يوما بعد يوم ويصبحون أكثر قوة وحضورا، رُهاب فقدان الراتب ولقمة العيش أو الخوف عليهما، ورهاب الاعتقال والتصفية الجسدية أو السياسية والأخلاقية، تسطيح الفكر وتغييب العقل، هيمنة الديماغوجيا الإعلامية والأيديولوجيات الحزبية، تغييب العاطفة للعقل، هيمنة الأحكام المسبقة على حقائق الواقع، بروز الهويات والنزعات الضيقة : اللاجئ والمواطن، أبن المدينة وأبن القرية، الغزيون والضفويون الخ ، وتدميرها لوحدة المجتمع، تحويل السياسات الارتجالية والمتخبطة سواء كانت عسكرية أو دبلوماسية إلى انتصارات ! وتقديس وفرعنة القادة، وما أكثر قادتنا! وكل من دخل دارهم آمن، الجاهل والفاسد والمنافق مُقدَم ومُرَحَب به قبل الوطني والمخلص ! .

في مناطق السلطة /السلطتين، تعمل قوى الشر المعادية لشعبنا والمستَفَزة من قوة تماسكه ورفضه التخلي عن هويته وحقوقه، تعمل على تشويه القيم الوطنية وضرب وحدة المجتمع ليصبح النضال من أجل السلطة له الأولوية على النضال من أجل فلسطين وحريتها واستقلالها، وقتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد، وسجون أبناء جلدتنا وتعذيبهم تثير الخوف والهلع أكثر من سجون الاحتلال وأساليبه في التعذيب، ولتصبح حقوقنا الوطنية التاريخية معروضة في سوق المساومات السياسية عربيا ودوليا ... .

في مناطق السلطتين الفلسطينية تجري محاولات حثيثة من أعداء الشعب لقهره بميكانزمات (استراتيجية الإلهاء) ليصبح السعي للخلاص الفردي مُسبَّقا على تخليص الوطن من الاحتلال، والأمن الشخصي بأية طريقة له السبق على أمن الوطن .

في حالة نجاح قوى الشر في مسعاها، ستفقد الكلمات معناها، فلا يعد الوطن هو الوطن، ولا الشعب هو الشعب، ولا الأخ أخا، ولا الصديق صديقا، ولا المستقبل مبشر بغد أفضل . آنذاك لا يصبح أمام أبناء الشعب المقهور من طريق للخلاص إلا أن يرفعوا أيديهم، المتوضئة وغير المتوضئة، إلى السماء طالبين الرحمة والخلاص، قبل أن تستبق طائرات وقذائف إسرائيل أو سيوف داعش السماء لتخلصهم بطريقتها الخاصة .

الجديد في المشهد السياسي الفلسطيني بصورته السلبية هو تراجع دور وفاعلية المؤسسات والمرجعيات التاريخية والوطنية والشرعية، لصالح نخبة جديدة أو جماعات مصالح توجه الأمور نحو الالتفاف على ما أنجزه الشعب بصموده وصبره وحسه الوطني الراقي، لخدمة أجندة غير وطنية . وهذا ما سنتناوله في المقال القادم .  

 

 

في المثقف اليوم