آراء

العراق: واقع غريب أم اغتراب عن الواقع

إذا ما اعتبرنا أن ما ينشر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي من قبل طيف متنوع من الناس من حيث مستوى ثقافتهم  ودرجة تحصيلهم الدراسي (لا  أقول  العلمي بسبب الانفصام الذي أصاب العلاقة بين المستوى العلمي والشهادة الدراسية) هو، إلى درجة ما،  انعكاس صحيح لما يسود من رؤى وأفكار متداولة في الشارع العراقي فإننا نستطيع أن نرصد ثلاثة اتجاهات أساسية في التفكير والتمني كلها تتطلع إلى الوراء: الأول يحاول، معتمدا على واقع عراقي فات، الترويج للحقبة الملكية إلى درجة يعتبرها عصرا ذهبيا ويظهر ذلك بشكل خاص من غزوة الصور التي تعود لذلك العهد لمواقع التواصل  الاجتماعي. الثاني يروج لما يسميه الدولة المدنية، أما الثالث فيروج لما يسميه العلمانية. ولا شك أن الاتجاهين الأخيرين هي من بناة الفكر الغربي وقد تجازوهما الغرب نفسه منذ زمن بعيد واصبحت سمة العصر هي الفتوحات التكنولوجية.

ويمكن القول أن جميع هذه الاتجاهات في التفكير والتمني ناجمة عن حالة الاغتراب التي يعيشها  جزء كبير من الشعب العراقي عن واقعه السياسي أو بدرجة أدق عن المنظومة السياسية بسبب ما يراه من صراعات وعدم استقرار لم يألفها في حياته  في العقود التي سبقت 2003 حيث كان قد تعود على أن يرى الحزب- الدولة تقرر كل شئ نيابة عنه وما عليه سوى التنفيذ (إذا نطق القائد نطق العراق) ولا فرق هنا بين من كان جزءا من الحزب أم لم يكن ففي نهاية الأمر هناك (نخبة) حزبية تملك رأسا واحدا  يفكر نيابة عنها يقرر باسمها وباسم العراق كل شئ. ويفصل هذه النخبة عن بقية الحزبيين والشعب عامة مسافة كبيرة لا يجرؤ أحد على أن يحاول بل ان يفكر باختصارها.

وبالمثل، ليس من باب المقارنة بين الإثنين بل من باب توصيف الواقع، أن مسافة شاسعة ايضا كانت موجودة بين (النخبة) الحاكمة في العهد الملكي وبقية الشعب الذي كان يسوده الفقر والأمية. أي لم يكن للشعب قول أو رأي ويتكون المنتظم السياسي الحاكم من تحالف يضم القصر وكبار ضباط الجيش وبعض الإقطاعيين وكبار التجار وهي تركيبة للتاج البريطاني فيها اليد الطولى. وهنا أيضا (كما يدلل على ذلك التاريخ السياسي المضطرب لتلك الفترة )  كان هناك حالة من الاغتراب تعيشها القوى والشخصيات الوطنية (بمعنى الرافضة للهيمنة البريطانية وليس بالضرورة الرافضة للعائلة الملكية) عن الوقع السياسي المهيمن. أما بالنسبة لبقية القطاعات الواسعة من الشعب فقد كانت فقيرة ووعيها السياسي متدن ولم تكن تنظر إلى العائلة المالكة بل لبريطانيا كعدو لها من منطلق انتماء العائلة للبيت النبوي (البيت الهاشمي) وأنها تمثل بطريقة ما  امتدادا للخلافة الإسلامية في وقت لم تكن فيه الأفكار القومية ولا اليسارية قد وجدت لها مكانا مؤثرا في نفوس الجماهير واقتصر تاثيرها على النخب المثقفة.

 إن تمنيا كهذا، أي أن يكون النظام السياسي في العراق مشابها لما كان عليه في ذلك العهد، لا يزيد أن يكون ضربا من حلم بورجوازي صغير منقطع عن التطور التاريخي وعن الواقع وهو بذلك لا يختلف عن حلم الإسلامي بحكم يشبه حكم فترة الخلفاء الراشدين. وقد عبرعن هذه الحالة أحد السياسيين التونسيين الذين توفاهم الله بالقول: "كما أن هناك سلفية إسلامية هناك سلفية علمانية"  وأستطيع أن اضيف من جانبي أن هناك "سلفية يسارية" ايضا.  وفي الحالة التي نحن بصددها فإننا نتحدث عن سلفية ليبرالية إذا ما وفقت في وصف العهد الملكي بأنه عهد الليبرالية.

وليس غائبا عن ذهني أن من يذكرون الناس بذلك العهد إنما يفعلون ذلك نبذا أو امتعاضا من واقع الفساد المالي الذي استشرى في صفوف الطبقة السياسية التي اعتلت سدة الحكم بعد 2003 ومن أجل ذلك لا ينفكون يتحدثون عن نزاهة العائلة المالكة مقارنة ب "لصوص" اليوم. ولكن ما يغيب عن ذهنهم إن  النزاهة ( بعبارة عامة أن تمتنع عن أخذ ما ليس لك به حق مشروع) لم تكن حكرا على العائلة المالكة بل كانت الغالبية الساحقة من عامة الشعب العراقي تتصف بهذه الخصلة والدليل على ذلك أن هذه "النزاهة"  قد تواصلت مع  حكم عبد الكريم قاسم الذي مثل نقيضا سياسيا واجتماعيا كاملا للحقبة الملكية لذلك فإن محبي عبد الكريم قاسم سواء كانوا مؤرخي حقبته أم من عايشه يؤكدون على نظافة يده وأنه لم يترك مالا أو ملكا عندما أغتيل. وإذا كانت النخبة الحاكمة في العهد الملكي قد تركت اثرا من مال أو ملك فإن النخبة التي حكمت في عهد قاسم لم تترك أثرا لشئ وكثير منهم كانوا من ضباط الجيش العراقي كما الحال مع العهد الملكي.

وحتى عندما نتحدث عن فترة حكم عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن، وهي فترة اتسمت بضعف الدولة وتحلل مؤسساتها، ليس لدينا ما يدلل على امتلاكهما هم والنخبة الحاكمة معهم على ثروة أو مال يتمتع بها وارثوهم. وهذا بحد ذاته لا يمنع من القول أن فترة حكم الأخوين عارف كانت أيضا حالكة فقد كانا رجلين عسكريين لم يمتلكا الحد الأدنى من المعرفة السياسية أو الاقتصادية التي تؤهلهما للحكم وكان الوضع الاجتماعي والاقتصادي في حالة من الركود والتردي عدا محاولة الاستنهاض الوحيدة التي ظهرت مع تسنم الدكتور عبد الرحمن البزاز رئاسة الوزراء والذي كان على وشك الشروع بحل المشكلة الكردية على اساس ديموقراطي والسماح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها العلني قبل أن تجهض محاولته في ظروف أجهلها رغم أن الشك بمكائد بريطانيا لا يضع المشكك في موضع غير سليم.

وبناء على ذلك يمكن القول إنه بقدر ما يتعلق الأمر بطريقة التصرف بالثروة كان هناك حالة من "العفة" تنطبق على المجتمع وعلى النخبة الحاكمة. ولا يعني ذلك أن النخب في العهود التي ذكرت كانت تتصرف بالثروة بطريقة عقلانية ولم تهدرها  فلو حدث ذلك لكان العراق قد دخل عصر التحديث منذ زمن بعيد.

وإذا اعتبرنا أن عقلانية التصرف بالثروة بما يتناسب وحاجات التطور المتعدد الجوانب هي معيار ليس النزاهة وحسب بل والكفاءة فإننا وكذلك الذين عاشوا في تلك المرحلة لم يكن لديهم علم أو تصور عن حجم الثروة العراقية وكيفية تصرف العائلة المالكة والنخب الساسية بها إذ لم تكن الميزانية السنوية شأنا عاما تتداولها وسائل الإعلام والصحف كما هو الحال الآن: كم  نصدر نفطا وبكم نبيع وكم نحصل مقابل البيع وهي أرقام درجت وزارة النفط على نشرها شهريا منذ 2005 وتوردها محطات التلفزيون العراقية. ولا يوجد شئ مشابه في جميع بلدان النفط الخليجية منها وغير الخليجية.

قال لي أحد المحاججين دفاعا عن ذلك العهد أنه لو استمرت صيغة الحكم كما كانت في العهد الملكي لكنا بلدا متطورا. ومن جانبي أقول أن الفرضيات عمياء إذ نستطيع وضع  التاريخ كله تحت عبئ  سلسلة ثقيلة من الفرضيات دون أن نحصل على اعتراف منه بصحة ما نقول إذ يستطيع مروجو الفترة القاسمية أن يفترضوا أنه لولا انقلاب 8 تشرين 1963 لكنا بحال أفضل ويستطيعوا أن يستندوا إلى أرقام عن تطور الوضع الاقتصادي مقارنة بما كان عليه الحال  في العهد الملكي بل ويمكن لبعض "العقلانيين" الذين يتحدثون بإيجابية عن جزء من فترة حكم البعث أن يتحثدواعن النمو الاقتصادي المضطرد قبل دخول العراق في مرحلة من  الحروب الخارجية والداخلية إذ اعتبرت بعض المصادر الغربية أن ان العراق (قبل 1980 تاريخ بدء الحرب مع إيران) كان من أسرع البلدان نموا في العالم. وهكذا يمكن أن تتواصل الفرضيات دون نهاية فهناك من يعتبر أن بقاء الاحتلال الأمريكي كان أفضل لنا.

ويورد المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي في هامش إحدى صفحات كتابه "وجهة الإسلام" نقلا عن مجلة التجارة الدولية وإسهما Boom

 في عددها الصادر في تشرين الثاني1949 (فترة العهد الملكي) ما يلي:

دولة إسرائيل (لاحظ لم يمض على تأسيسها سوى سنة)

عرض (في السوق الدولية): إسمنت- رخام- أمينات – حقائب

طلب:  حديد للصناعات والبناء – منتجات كيميائية وعلاجية – فلين

الدول العربية (العراق، الأردن، الكويت...إلخ)

عرض: لا شئ

طلب: مجوهرات – ملابس – مساحيق – عطور – حلوى – فواكه محفوظة – حرير طبيعي – اقطان – حرير صناعي ...إلخ.

وكما يلاحظ المرء من الجدول الخاص بالدول العربية أن العراق في تلك الفترة لم يكن يصدر أي سلعة صناعية كما وأن وارداته هي جميعها تقريبا من الكماليات التي تهم الطبقة المترفة.

وفي نهاية القول أود أن أذكر أن فرع العائلة الهاشمية (أبناء عمومة الفرع العراقي) يحكمون الأردن منذ الأربعينات (إذا اعتبرنا تاريخ تأسيس المملكة واستقلالها الشكلي عن بريطانيا وقبل ذلك بكثير إذا تحدثنا عن تاسيس إمارة شرق الأردن) فهل اصبح الأردن تحت حكمهم من الدول التي يمكن مقارنتها بماليزيا أو سنغافورة أو تركيا من حيث التطور الاقتصادي والاجتماعي؟ لا يزال المجتمع الإردني إلى درجة كبيرة قبليا وينتشر فيه السلاح في كل مكان وذات مرة وأنا هناك اشتعلت سماء الأردن باطلاقات الرصاص بسبب فوز فريق القدم الأردني على السوري... إن من يقول "ولكن الأردن لا يمتلك الثروة التي يمتلكها العراق" اقول له أن الثروات السهلة كالنفط هي أكبرمجلبة للفساد ومن يصنع الثروة بعمله لا يفرط بها ونظرة إلى سنغافورة الصغيرة والفقيرة والتي اصبحت عالية التطور في ظرف زمني وجيز يكفي للدلالة إذ كما قال رئيس وزراءها أن تطورها كان نتيجة للاستثمار في العقول.

وبالنسبة لمروجي فكرة ما يسمى ب الدولة المدنية فهم يروجونها ليضعوها في مواجهة ما يعتبروه نقيضا للدولة الدينية معتبرين أن وجود رجال دين أو أحزاب دينية في الحياة السياسية يجعل من العراق دولة دينية وهذا غير صحيح لأن الدولة المدنية تعني شيئا واحدا هو أن العلاقة بين الدولة والمجتمع وكذلك العلاقة بين أفراد المجتمع ينظمه دستور وقوانين وضعية أي من وضع البشر وليس مستقى من عقيدة دينية أو مذهبية أو غيرها. والدستور العراقي هو دستور مدني في روحه ومعظم نصوصه ولا يوجد فيه ما ينص على أن القوانين المرعية هي ما  تنص عليه الشريعة الإسلامية حصرا كما هو معمول فيه بالنظم الدينية. نعم ورد في المادة الأولى، أولا: آ. ما نصه:

 أ ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.

 ولكن فيما يليها مباشرة أي ب نقرأ ما نصه:

ب. لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.

 ولا أعتقد أن واضعي الدستور- والعديد منهم ينتمون لأحزاب دينية - قصدوا وضع (ب) كناسخة ل (أ) بل الأرجح أنهم قصدوا أن قيم الديمقراطية لا تتناقض وقيم الإسلام وأنه بالإمكان التوليف بينهما.

وفي موضوعة القيم الإسلامية فإننا جميعا نعيش وفق هذه القيم لأنها تمثل مكونا أساسيا من الثقافة والشخصية العربية الإسلامية كما أن قيم البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية تمثل جزءا من قيم دول كالصين واليابان والهند وغيرها من دول الشرق ولم تقف هذه القيم المحلية حائلا أمام تطورها وتحديثها ودخولها عصر التكنولوجيا. وليس وجود حزب أوأحزاب تصف نفسها بأنها دينية يعني أن أهدافها تتمثل حصرا في تطبيق الشريعة الإسلامية فقد حكمت بعض دول أوربا ولعقود أحزابا كانت تسمي نفسها مسيحية كالأحزاب الديمقراطية المسيحية في فرنسا وبلجيكا واستراليا وألمانيا حاليا حيث أن حزب أنجيلا ميركل هو "الاتحاد المسيحي الديموقراطي" وكذلك الحال بالنسبة لكثير من بلدان أوربا وأمريكا اللاتينية. وكما هو واضح من إسم الحزب فأن هناك دمجا أو لنقل توليفا بين ما هو ديني (مسيحي) وما هو دنيوى  (ديموقراطي) وهذا يعني أن ليس هناك تناقضا بين الدين والديموقراطية أو أنه يمكن الحديث عن مسيحية بنسخة ديموقراطية او ديموقراطية بنسخة مسيحية. وإذا كانت مفاهيم المدنية والعلمانية الغربية تصلح من وجهة نظر البعض للتطبيق على واقعنا فلماذا لا يصلح التوليف الغربي بين الدين (اي المسيحية) والديموقراطية على الواقع نفسه؟

وأجد من السخرية القول أن الأحزاب الدينية في العراق، من أجل أن تثبت أنها تؤمن بقيم الديموقراطية، عليها أن تضيف كلمة "ديموقراطية" إلى إسمها فيصبح، على سبيل المثال، إسم "الحزب الإسلامي" الذي يتزعمه سليم الجبوري "الحزب الإسلامي الديموقراطي" ويصبح "حزب الدعوة الإسلامية" "حزب الدعوة الإسلامية الديموقراطي" و"المجلس الأعلى الإسلامي الديموقراطي".

ولا أجد ما يضيرأو يخيف أن تحاول بعض الأحزاب الإسلامية أن تطور نظريات أو رؤى في عالم السياسة والاقتصاد تعتبرها مبنية على رؤية إسلامية فهذا حق لها كما هو حق لليساري وللقومي ولغيرهم من اصحاب الإيديولوجيات أو النظريات طالما كان المحك هو قبول الجماهير بها أو رفضها في نظام سياسي يقوم على الاختيار الحر للناخب بل استطيع القول أن الإسلامي يتقدم على اليساري عندما يحاول أن يطور نظرية إسلامية في حقل من حقول الحياة بينما نجد اليساري وتلاوينه الجديدة على سبيل المثال يعمد إلى استيراد مفاهيم غربية جاهزة يحاول فرضها على الواقع المحلي. ألم يكن الشيوعيون العراقيون يتبنون إطروحات نظرية طورها مفكرو الأحزاب اليسارية الأوربية دون أن يكون لها سند في الواقع العراقي؟ وفي حقيقة الأمر أن جميع الأحزاب السياسية إسلامية كانت أم غير إسلامية تعيش أزمة ومخاضا فكريا يتعلق بالسبل الواجب اتباعها لجعل بلدانها قادرة على، لا أقول اللحاق بركب الحضارة بل،  ردم الهوة المتسعة بين ما هي عليه بلدانها من تطور دان وبين ما وصلت إليه أمم أخرى في ركب الحضارة  كالتجربة الصينية المثيرة للإعجاب في قدرتها على اختصار زمن التطور ودخولها عصر التكنولوجيا وكذلك الهند المتسارعة النمو والتي هي أيضا دخلت عصر التكنولوجيا.

أما إذا كان دعاة مفهوم المدنية يريدون القول أن الفساد سببه عدم وجود دولة مدنية فيكفي أن نشير إليهم بوضع إحصائية بالفاسدين وسوف يجدون أن من كبار المتهمين بالفسادهم من المدنيين وليس من المتدينين. وماذا بشأن الفساد الهائل الذي ظهر في التصرف بثروات كردستان والأموال التي أخذتها حكومة الإقليم من المركز ألم يكن الذين يتصرفون بها هم من المدنيين والعلمانيين وفق التوصيفات السائدة لدى من يروجون لها؟ وإذا ذهبنا خارج العراق فإن الثورات العربية قد اندلعت ضد أنظمة كانت جميعها مدنية وعلمانية فهي لم تكن أنظمة غير دينية وحسب بل كانت تحارب التيارات الدينية دون هوادة وتبين أن ثروات وطنية كبيرة كانت مودعة باسم زعمائها في البنوك الأوربية.

وبالانتقال أخيرا إلى فكرة العلمانية ومروجيها لنسأل أولا: ماذا تعني العلمانية؟ رغم أن هذا السؤال أجيب عليه منذ زمن بعيد ولكن لا باس من أن ندع مفكرين عرب كبار يجيبون على هذا السؤال. يقول محمد عابد الجابري ويؤيده بذلك حسن حنفي أن العلمانية كمفهوم أوربي تعني (فصل الكنيسة عن الدولة) بينما يثلب المفكر جورج طرابيشي عليهم (في كتابه هرطقات في ...) هذا التعريف ويقول أن الصحيح هو القول أن العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة. لست في مستوى هؤلاء المفكرين بشئ ولكني لا أجد فرقا بين الإثنين طالما كنا نتحدث عن مفهوم أوربي حصرا مبني على تجربة أوربية بحتة فالدين في أوربا عشية تطوير هذا المفهوم هو المسيحية كمؤسسة ممثلة بالكنيسة في مواجهة الدولة فقد كانت الكنيسة لا تهيمن على عقول الناس وحسب بل وتفرض نفسها على النظام السياسي القائم. بكلمة أخرى فإن الدين في أوربا = المسحية=الكنيسة. وإذا كان هناك من يقول أن المسيحية لم تكن حكرا على الكنيسة بل هي دين لعامة الناس فإنها في هذه الحالة تصبح شأنا عاما لا حاجة فيه للفصل والفصل في حقيقة الأمر يتعلق بسلطة الكنيسة في مواجهة سلطة الدولة.

والدين في العراق وفي العالم العربي والإسلامي بشكل عام،عدا ربما الأزهر في مصر، هو شأن عام  لا يخص طبقة معينة من رجال الدين تفرض نفسها على الواقع الاجتماعي خارج الأطر التي تضعها الدولة وبذلك كما يقول الجابري وحنفي (حوار المشرق والمغرب): بما أنه ليس في الإسلام كنيسة (أي مؤسسة دينية مستقلة ونافذة) فلا حاجة لنا بهذا المفهوم. وهذا يعني في نظري أن الفصل في عالمنا العربي هو في حقيقة الأمر قائم إذ طالما خضع رجال الدين، ومنذ قيام الدولة الأموية، للسلطة السياسية أي لما يطلبه منهم الخلفاء والسلاطين ولم يكونوا سلطة مستقلة خارج سلطة الدولة. وبالطبع تعتبر الخلافة الراشدية استثناء إذ كانت السلطة الدينية والسياسية مندمجة ببعضها البعض فالخليفة هو القائد السياسي وهو الأب الروحي للأمة.

وقد يفسر البعض أن ما قلته يستبطن دفاعا عن سلطة فاسدة وهذا خطأ في الفهم فأنا أفصل بين النظام السياسي القائم ووجود فساد فيه، فالفساد صفة بشرية وليست صفة للنظام لأنه نظام برلماني قائم على الفصل بين السلطات كما لدى الغرب الذي يتخذه مروجو الأفكار التي ذكرتها نبراسا لهم. فهو، أي النظام، أداة حضارية بأيدي أناس لم يبلغوا سن الرشد الحضاري لأنهم ينتمون لمجتمع لا تزال تسود فيه العلاقات الأبوية العشائرية  ولا يزال أمامه شوط بعيد ليدخل عصر العلوم والتصنيع. هل يعني ذلك أن نرمي النظام البرلماني في سلة المهملات ونبحث في ماضينا المأساوي عن نظام أكثر ملائمة لتخلفنا؟

ما أريد قوله هو أن لدينا شكلا متطورا للنظام السياسي (مشابه لما لدى الغرب) بمحتوى متخلف (الفاعلون في هذا النظام) فهل الحل هو بالتخلي عن الشكل المتطور والبحث عن شكل آخر يتناسب وتخلف المحتوى؟

بالتأكيد "لا" والحل يكمن في العمل على إكساب هذا الشكل محتوى أكثر تقدما وهذه عملية تدريجية متصاعدة تتطلب زمنا غير قليل تتطور خلالها بشكل مضطرد تجربة الجماهير السياسية ووعيها والذي سوف ينعكس بدوره على تحسن قدرتها على اختيار من هو افضل. وبالطبع فإن هذا القول غير مرض بالنسبة للجماهير التي تتطلع إلى حل سريع يخلصها من ظاهرة الفساد وضعف الكفاءة لدى الكثير من النواب. هنا يتعين علينا التذكير أن القادة السياسيين في جميع النظم الانتخابية هم من اختيار الناس ولكن هذا الاختيار محدود أو محصور بمن يتم اصطفاءه من قبل الأحزاب المهيمنة وهذا لا مناص منه. وبالنسبة للدول المتقدمة فإن قيام حزب ما باختيار مرشحين غير كفوءين أو غير نزيهين أمر بعيد وعندما يحصل على قلته فإن الرقابة الجماهيرية (ناخبي منطقته) والرقابة الإعلامية زائدا قوة القضاء سريعة في حسم الأمر وإسقاط المرشح. وقد حدث أن أسقط مرشحون لمناصب عليا بعد أن قام الإعلام بفضح عيوب في تاريخهم. ماذا لدينا نحن من ذلك؟ الرقابة الجماهيرية غير منظمة والرقابة الإعلامية يعتريها الخلل وفي كثير من الأحيان الانحراف (اللجوء إلى التشهير) بسبب ارتباط الكثير منها بجهات حزبية أو أجنبية والنظام القضائي لا يزال لا يعمل بكفاءة كاملة. في الغرب يوجد شئ إسمه "صحافة الاستقصاء" اي البحث ومتابعة تاريخ وسلوك السياسيين وفضح عيوبهم وهذا أمر بعيد المنال لدينا لأنه سوف يتسبب بإراقة الدماء إذ لا الصحافي ولا المؤسسة الصحفية تمتلك الأهلية والمهنية اللازمة للقيام بأمر كهذا ولا السياسي الذي يوضع موضع الاتهام سوف يذعن للأمر فيعتذر ويستقيل من منصبه بل الأرجح إننا سوف ندخل في قاموس  "التشهير" و"التسقيط" و"رد الاعتبار" و"التهديد" و"اللجوء إلى العشيرة" وغيرها من "الحلول" الملائمة لحالنا.

 لذلك وبكلمة بسيطة لا يملك العراقيون حلولا جاهزة أو سهلة والذي يملكونه فقط هو الاعتماد على الآليات المتوفرة والتي هي أجهزة الرقابة والمحاسبة مثل هيئة النزاهة (لا اثق بلجنة النزاهه البرلمانية) والمفتشين العموميين والقضاء والعمل على تقويتها وتحصينها من التدخل في شؤونها والتأثير الحزبي عليها.

 هذا فيما يتعلق بالفساد وسوء التصرف بالأموال العامة  أما فيما يتعلق بكفاءة ونزاهة من يرشح من قبل الأحزاب لعضوية مجلس النواب فأرى وجوب ابتداع آليات جديدة وأقترح، على سبيل المثال،  تشكيل "لجنة الرقابة على المرشحين" يتم اختيار أعضاءها  من أوساط النخبة الثقافية والفكرية والمهنية ( من صفوف الأطباء والمحاميين والاقتصاديين المعروفين) تمنح صلاحيات التدقيق في تاريخ وسجل من تشاء من مرشحي الأحزاب واستنطاقه إن ارتأت ذلك لمعرفة إمكاناته الثقافية والفكرية وسلامته العقلية وتملك صلاحية إقصاء من لا تقتنع به من المترشحين. والأمر المهم في ذلك هو أن لا يكون للأحزاب أو لمجلس النواب دور في اختيار أعضاء لجنة الرقابة المذكورة بل يقوم المثقفون واصحاب الفكر والكفاءات المهنية كل حسب تصنيفه باختيار من يرشحوه لهذه اللجنة وفق آلية يبتدعونها هم تحت إشراف قضائي حصرا لإكساب عملهم شرعية قانونية تحميهم من التشكيك من اي طرف.

وهنا تبقى مسألة مصيرية واحدة عالقة وهي: من الذي يقرر تشكيل مثل هذه اللجنة، هل مجلس النواب أم مجلس الوزراء أم رئيس الجمهورية أم..؟ أم هل سوف ندخل في جدل حول دستورية مثل هذا الإجراء؟ وجوابي هو إن ما يتطلبه الأمر هو شجاعة وجرأة تأتي إما من طرف تنفيذي سام أو قضائي سام  وإلا من طرف النخب الثقافية والفكرية والمهنية نفسها وبطريقة تلف الجماهير حولها وتجعل من المشروع امرا واقعا على "رؤوس" الجميع.

 

 ثامر حميد

 

 

في المثقف اليوم