آراء

تشانغ شيان .. ومفتاح الحياة

عبد السلام فاروق(تشانغ شيان) هو بطل صينى قديم يُنسَب إليه الفضل فى اكتشاف "طريق الحرير" القديم منذ نحو ألفى عامٍ مضت . أما "تشانغ شيان" الجديد، فهُم رؤساء الصين الثلاثة : (دنغ شياو بينغ) و(جيانغ زيمن)، و(شين جين بينغ) .. هؤلاء أبطال طريق التجارة الجديد الذى سيفتح للعالم آفاقاً رحبة من التعاون المشترك .

ومصر فى استقبالها للصين جعلت من مفتاح الحياة شعاراً اقتصادياً لها، ما يعنى أنها تدعو الصين وبلدان العالم لتحقيق التآلف والتقارب نُشداناً لحياة الأمم ورخاء الشعوب .

مصر والصين كلتاهما تتمتعان بمواصفات جيوسوسيولوجية فريدة، فالصين لها جيرة من 14 دولة، وبها حوالى 56 مجموعة عرقية أكبرها مجموعة (هان) التى تمثل 92% من مجموع السكان . ولها 23 مقاطعة مع ضم تايوان، بالإضافة لخمس مناطق حكم ذاتى وأربع بلديات، هذا عن بر الصين الرئيسي الذى تضاف إليه مناطق الإدارة الخاصة : (هونغ كونغ، وماكاو) . مصر كذلك تتمتع بموقع جغرافى متميز يجعلها تتوسط ثلاث قارات، وتطل على بحرين، وتعتبر مفتاحاً للقارتين الأفريقية والأوروبية  بالنسبة لدول آسيا .

ترجع العلاقات المعاصرة بين الصين ومصر إلى أكثر من 80 عاماً، منذ عهد الملك فؤاد الذى أمر باستقبال بعثات الطلاب الصينيين للدراسة بالأزهر الشريف، وأهدى 400 نسخة من المخطوطات القيمة إلى مدرسة "تشنجدا" الإسلامية بالصين . وفى عهد الرئيس جمال عبد الناصر أيدت مصر حق الصين فى استعادة مقعدها الدائم فى الأمم المتحدة بعد تغير اسمها إلى "جمهورية الصين الشعبية" . وفى 30 مايو 1956 استقبل الرئيس المصري رئيس الوزراء الصينى "شو إن لى" وأصدرا معاً بياناً مشتركاً لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والذى كان بمثابة المنعطف التاريخى الأهم على صعيد العلاقات بين البلدين .

منذ ذلك الحين تصاعدت وتيرة العلاقات على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية . حيث حمل الأزهر الشريف على عاتقه هَمَّ توطيد العلاقات الثقافية، خاصة مع بعثات الطلاب الصينيين الذين أتوا لتعلُّم العربية من مسلمى الصين، ومؤخراً تم الاتفاق على حصول مصرعلى منحة سنوية توفرها الصين لعدد من الطلاب المصريين للدراسة هناك . وفى التسعينيات تم الاحتفال بإنشاء جمعية الصداقة الصينية المصرية فى بكين . كما قام وزير الإذاعة والسينما والتلفزيون الصينى بزيارة مصر لتعزيز التعاون الإعلامى بين البلدين . وخلال مطلع الألفية الجديدة تم توقيع برنامج تنفيذى للتعاون الثقافى المشترك بين مصر والصين خاصة فى مجال الآثار وتبادل الخبرات فى مجال ترميم الحفريات والمبانى الأثرية . هذا ما أدى إلى انتعاش سياحى بين البلدين، ففى عام 2002م تم الاتفاق على إدراج مصر كأفضل المقاصد السياحية للصينيين، ناهيك عن المهرجانات الثقافية والسينمائية فى بكين والقاهرة والتى يتبادلان فيها الدعوة بطبيعة الحال .

ورغم كل ما تم من تعاون دولى فى مجالات الثقافة والتعليم والسياحة والفنون والإعلام، يبقَى هناك الكثير مما لم يتم تحقيقه بعد . خاصة فى مجال التبادل الثقافى بين الشعوب . الأمر الذى يتطلب تعميقاً للعلاقات بشكل أكبر من وضعها الحالى الذى يمتاز بالتحفظ . فمن غير المعقول أن يكون هذا فقط هو حجم التبادل الثقافى بين أقدم حضارتين فى التاريخ . هناك الكثير مما لم يتم تحقيقه بعد، خاصةً فى مجال الاقتصاد الثقافى، أى تبادل السلع الثقافية كاللوحات التشكيلية والانتاج السينمائى والإعلامى، ما يتطلب محو العوائق وتذليل الصعاب من أجل هذا الهدف العظيم .

إن تطوُّر العلاقات بين مصر والصين شهد عمقاً أكبر فيما يخص المجال الاقتصادى . بدأ هذا مبكراً منذ عام 1953م حيث فاقت صادرات مصر، التى بلغت حوالى 11 مليون دولار، وارداتها التى لم تزد على 600 ألف دولار ! بينما انعكس الأمر فى العقود الأخيرة بالطبع مع ازدياد النشاط الصناعى للصين، ففى آخر تقرير عن الجمارك الصينية أفادت البيانات وصول حجم صادرات الصين لمصر حوالى 5.3 مليار دولار، بينما بلغت واردات الصين من مصر حوالى 760 مليون دولار، كان هذا فى عام 2017 الماضى . هذا وقد تنوعت صادرات مصر للصين بين الرخام والجرانيت والرمل الحديدى والمواد البترولية والجلود . بينما تمثلت الواردات فى المنتجات الجاهزة كالملابس والآلات والإليكترونيات إلى جانب قطع الغيار والمركبات بأنواعها .

ملفات كثيرة ومشروعات عظيمة تم إنجازها على أرض الواقع، وأخرى فى طريقها للتحقُّق، ومن أهم تلك المشروعات الاستثمارات البترولية للصين فى الصحراء الغربية لصالح شركة "سينوبك" الصينية، إلى جانب استثمارات الصين فى العاصمة الإدارية الجديدة والتى من بينها تنفيذ القطار الكهربائى . بخلاف المنطقة الصناعية الصينية "تيدا" فى منطقة خليج السويس .

مؤخراً صدرت عدة مؤلفات بحثية ومطبوعات حكومية وخاصة تتناول مستقبل العلاقات بين البلدين وتؤكد أن هناك مبشرات عظيمة وآفاق رحبة وآمال عريضة وطموحات هائلة تشى بأن القادم أفضل، من هذه المؤلفات كتاب السفير الدكتور محمد نعمان : "العلاقات المصرية الصينية"، والذى يشير فيه لأهمية تعميق العلاقات بين البلدين، وأن بإمكان مصر تعظيم استفادتها للفرصة المتاحة المتمثلة فى حماس الصين تجاه أفريقيا عموماً ومصر خاصة، وأن تعميق التعاون من شأنه تمكين مصر من الاقتراب من تجربة الصين فى الانفتاح الاقتصادى وفهم أبعادها وجوانبها، ما قد يؤدى إلى رفع طاقة مصر الصناعية والتكنولوجية بما يستوعب عدداً كبيراً من العمالة ويساهم فى حل مشكلة البطالة .

هذا يقودنا إلى أهم مشروع دعت إليه الصين أثناء مؤتمر الطريق والحزام 2017 فى بكين واستضافت له مصر وعدد من الدول الأخرى . فرغم أن مصر تنظر إلى المشروع باهتمام أقل من الصين، على اعتبار أنها دولة واحدة بين عشرات الدول التى يمر بها طريق الحرير . إلا أنه يمثل الركيزة الأهم لتعميق الصلات والروابط بين البلدين .

نحن فى حاجة إلى (تشانغ شيان) مصرى يعيد استكشاف الطريق الآسيوى الأفريقي من أجل تعظيم الاستفادة من هذا المشروع التجارى والاستثمارى العملاق . ويفتح لمصر بمفتاح الحياة الفرعونى آفاق جديدة تنعش حياة المصريين  الاقتصادية . هذا قد يحدث لو أدركت مصر دورها التاريخى والحضارى العريق، وكيف أنها تستطيع أن تلعب أدواراً أعظم كبوَّابة كبرى للتجارة الأفريقية والعالمية . ودورها كوسيط تجارى بين الصين من جهة وبين أفريقيا والعالم من جهة أخرى قد يتنامى ويتضخم بفضل طريق الحرير مئات المرات . وقد يتضاعف المردود الاقتصادى نتيجة لهذا عشرات الأضعاف، من خلال تنشيط السياحة والتجارة الخارجية وعمولات الوساطة التجارية إلى جانب فرص العلاقات الدبلوماسية بين مصر ودول العمق والجوار الأفريقي التى ستزداد حتماً مع أى علاقة تجارية محتملة بفضل ما يمثله طريق الحرير من فرص اقتصادية هائلة .

إن العالم اليوم يمر بعدة متغيرات جيوسياسية واقتصادية تقتضى من مصر الانتباه إليها ومواكبتها . ومن أهم تلك المتغيرات تصاعد الدور السياسي والاقتصادى للصين صاحبة أعلى نمو اقتصادى فى العالم، وصاحبة أكبر ميزانية تسليح فى العالم بعد أمريكا وروسيا، هذا إلى جانب ثقلها السياسى كونها عضو دائم فى مجلس الأمن والمشهورة بدورها التاريخى الداعم لموقف الدول النامية فى المجلس . وهى عضو فى منظمة التجارة العالمية، وعضو مؤسِّس لمنظمة شانغهاى ومنظمة الآسيان ومنظمة التعاون للمحيط الهادى "إيبك" . ما يعنى أن تعميق العلاقات بين مصر والصين يعود على مصر بفوائد عدة على كافة الأصعدة الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية . ما يدعونى إلى إعادة الدعوة لاكتشاف آفاق جديدة للتعاون بين التنين الصينى وبين الفرعون المصرى حامل مفتاح الحياة .

 

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم