قضايا وآراء

دروس مع ناتالي ساروت

أحدق في هذه الجملة الافتتاحية "سألتهم إذا كانوا لا يشعرون، مثلي، إذا كانوا لم يشعروا الآن وفيما بعد بشيء غريب؟".

كان السارد مخبراً بوليسيا من نوع ما، عرفت ذلك فيما بعد وعرفت أيضا أن موضوع التحقيق بالنسبة للسارد هو العلاقة بين الأب وابنته، أو في الحقيقة، بحكم قربه من الأب والابنة، كان بإمكان السارد أن يرى بوضوح عادي الدخان الخليع للحقيقة المحكومة بالسرية. الطريقة التي كان يجلس فيها الأب منتظرا مجيء الابنة لتطلب منه المال، كما لو كان محاطا بخيوط رقيقة يمكن أن تلتصق بها، كانت إحدى هذه التجليات.

إن السارد نفسه يشك أحيانا بحقيقة هؤلاء المنسلين بمكر ـ كان يرغب أيضا في أن يكون جزءا من العالم المقبول ـ ولكنه عندما وقف أمام ذلك البورتريه في هولندا، بورتريه الرجل الغريب، كان قد رآها.

"لم استوعبها في الحقيقة " وأدركت كما أن الموت يصارع بهدوء متثاقل الرغبة في الراحة ـ يمكننا أن نستسلم بسهولة، كلنا نستسلم ـ الأمر الذي جعلني بعد ذلك اعتقد: انه وعلى الرغم من أنني لم افهم كلمة واحدة من قصة ( بورتريه الغريب 1947) إلا أني أحببتها على نحو ما، وهذا ما جعلني أعيد قراءتها . في هذه القراءة الثانية، سرت على رؤوس أصابعي خلف السارد، مسترقة السمع على الأب ـ الغليظ بلطافة مخادعة، والخطير، بل الخطير جداً ـ حتى أنني شاهدت الأمواج تضرب خشب الأرضية وأحسست بالتبادلية التي تسمح لانطباعات المرء الخاصة عن العالم ولغة الكاتب بالنمو معا للوصول إلى المعرفة الأدبية .

عندما ذهبت للجامعة، كنت أحيانا أحاول أن اشرح نوعية معينة من الخبرة للآخرين من خلال الإشارة إلى هذه المشاهد ." هناك كاتبة اسمها ناتالي ساروت " ابدأ هكذا" تكتب بطريقة ما، أقصد، كما لو أن شخصا ما دخل إلى غرفة وشعر كل فرد فيها بالبرد؟ أو عندما تجلس على مقعد قبالة رجل له سلطة عليك وتشعر فجأة انك تريد أن تقول انه يشنقك، في حين انه لم يتحرك من مكانة " بهذه الطريقة كنت أحاول التعبير عن الوفاء .

ولدت ناتالي ساروت عام 1900 في ايفانوفا بروسيا، لأب وأم يهوديين . عاشت مع والدتها في سان بطرسبرج وباريس حتى سن الثامنة والنصف، عندما تركتها والدتها، لتنتقل للعيش بصورة دائمة، في شقة حزينة، مع والدها، المثقف اللطيف، وزوجته الروسية، بشجاعتها الفتية ـ حين مزقت بأسنانها لحم ذراعها حول عضة ثعبان ـ التي تحولت في فرنسا إلى سيدة محافظة متمسكة بالتقاليد . كانت دائما ما تجيب على أسئلة ابنه زوجها بعبارة "لأنه لم ينجز" . وحين سألتها الطفلة يوما " هل تكرهيني"؟ أجابت بعد تفكير" كيف يمكن للمرء أن يكره طفلاً"؟ وحتى الآن لقد كونت صورة ثابتة: كانت زوجة أبيها تغلف كتب ساروت المدرسية بورق ازرق غامق، وتركض خلفها ضاحكة، هي تدفع دراجتها في غابة خارج باريس . ساروت نفسها، على أمل أن تحرر الذاكرة من سجنها، إذ أنها كانت قلقة بشدة تجاه جودة الحكاية المغلقة، في (الطفولة 1983) كانت تستنطق كل الذكريات من خلال صوتيها حين كانت تصف الأحداث، في محاولة للوصول إلى حقيقة بعض المواقف، وقد رسمت بعضها في كتابها الأول (انفعالات 1939)، الذي استعارت اسمه من استجابة النباتات والكائنات الحية للمؤثرات الخارجية.

sarotفي بورتريه الغريب، كتاب ساروت الثاني، الذي كتبته، كما أخبرنا كاتب سيرتها الذاتية، هوغيت بوشاردو، عندما كانت لا تزال مختبئة ( انفصلت عن زوجها بالطلاق، مما سمح له بان يستمر في العمل لان جدين فقط من أجداده كانا يهوديين، ثم تزوجا مرة ثانيه بعد الحرب). بدأت الرواية في صيف عام 1940، في بيت في جافري، التي عادت إليها مع بناتها الثلاث، واخفت فيه صموئيل بيكت وزوجته لفترة من صيف عام 1942 . غادر الزوجان بيكت في الوقت الذي قرر فيه الخباز الوشاية بساروت لدى السلطات، لكن صاحب المقهى الذي كانت تكتب فيه حذرها في الوقت المناسب. قضت ساروت بقية الحرب في بارمين، إذ عملت معلمة أطفال من منزلها، كانت معها طفلتاها،التي ادعت أنهما بنات أختها،ساعدتاها في العمل، لقد نجوا جميعا.

 أنهت كتابة بورتريه الغريب في غضون شهور بعد الحرب، قالت فيما بعد "لقد كان جهدا عظيما" . قدم سارتر للكتاب الذي بيع منه 400 نسخة في العام 1947 بمقدمة تدل على إعجابه إلا أنها مثقلة بالوجودية .

وعندما أعيدت طباعته عام 1956، بعد مقالات ساروت وأعمال ألآن روب غرييه، وكلود سيمون وآخرين من الذين مهدوا الطريق لما يسمى بالرواية الجديدة، لقي الكتاب اهتماما خاصاً.

بدأت أعمال ساروت تأخذ مكانا بارزا على رفوف المكتبات الفرنسية وفي فهارس الجامعات الفرنسية وفي نسخة أطلس الثريا التي صدرت عام 1996 قبل عامين من وفاة ساروت والتي أخذت منها معظم ترجماتي .

وعلى الرغم من الترحيب الذي لاقته من قبل سوزان سونتاغ وريتشارد هوارد وغيرهم من الأمريكيين عام 1960، إلا انه من الصعب أن تجد ساروت بالانجليزية .وعندما يشير احدهم إلى رواياتها التي تحمل ضراوة وحشية، في محادثة ما، يشعر المرء كما لو انه أومأ إلى طاولة خرقاء في آخر غرفة مزدحمة، حيث الغبار يعلو الأزهار الوردية في المزهرية الزجاجية والناس اللذين يمرون بلا مبالاة، يهزّون رؤوسهم ويقطبون حواجبهم " أوه، نعم، لقد سمعنا عنها"

قرأت بورتريه الغريب ـوالتي وصفها جان بول سارتر بأنها ضد الرواية ـمرة أخرى بعد ثلاث سنوات، في الربيع، في باريس، في التاسعة عشر من عمري، وعلى الأقل فإنني أتذكر أستاذ الأدب في برنامج الدراسات في الخارج يطرح شرحا فرويدياً للبخل، والذي اعتقد أن له علاقة بشخصية الأب في الرواية، وكجزء من نفس المناقشة، قلد الأستاذ الضخم بوجهه الممتلئ بكل رقة وسحر، كيف انه كان مضطرا للسير على رؤوس أصابعه في شوارع باريس قبل صدور القانون الخاص بتنظيف مخلفات الكلاب في الشوارع، لم أكن حتى ذلك الوقت اعرف جدية ارتباط ساروت بـ(ديستوفسكي)، ولم أكن افهم أيضا أن ديستوفسكي كان يعتبر طبيبا نفسيا في فرنسا في أواخر الأربعينيات على الطريقة الفرويديه التي كانت تعتبر عتيقة ومناقضة لأعمال كافكا . وفي عام 1947، وهي السنة التي نشرت فيها ساروت رواية (بورتريه الغريب) لأول مرة، نشرت أيضا مقالة بعنوان (من ديستوفسكي إلى كافكا)، كتبت عن شخصيات ديستوفسكي واستعارت من كاثرين مانسفيلد هذه العبارة" شخصياته تمتلك تلك الرغبة المرعبة لإنشاء صلات " عموما كانت مهتمة بما يدور بين الشخصيات أكثر من اهتمامها بالشخصيات ذاتها بصفتهم ممثلين معزولين .

كتبت ساروت معبرة عن إعجابها بفرجينا وولف قائلة" مثل بروست، جويس، كافكا، ساهمت وولف في تحويل مادة الرواية في الرواية الحديثة، في زحزحة مركز الجاذبية للرواية التي كانت مرتكزة على الشخصية و الحبكة إلى جوهر الرواية نفسها ".

تطلبت هذه الإزاحة في جزء من شخصيات الرواية عملا كشفيا حساسا، كانوا هم من حاول فهم المادة التي تورطوا فيها. شعرت ساروت أن الحداثيين جميعا تعلموا من ما أطلقت عليه " طرق ديستوفسكي في التحقيق"

ماذا يجد المرء عند كافكا؟ تتساءل ساروت " إذا لم تكن تلك الشهوة والرغبة القلقة لتأسيس رابطة تمتد جيئة وذهابا مثل سلك التوصيل في كل أعمال ديستوفسكي؟ ولكنها تضيف، ولكن في كافكا أصبح الهدف أكثر تواضعا وأكثر بعداً . وتشعر ساروت بان الرغبة في الربط كانت موجودة دائما تحملها وتتلقاها الشخصيات الأخرى عند ديستوفسكي لتلقى انفجارها الوحيد في ملاحظات من القاع، والتي رأتها نقطة انطلاق عند كافكا . في أعمال كافكا كانت هناك مسافات تفصل بين الناس، مسافات لا نهائية كتلك التي بين الكواكب السيارة، فضاء بلا حدود، حيث " لا يعود المرء نفسه يعلم كيف يتواصل حتى في قضاياه الخاصة" واقتبست من (القلعة)" لم يعد المرء يعرف ما إذا قاوم أو استسلم" تتنبأ أعمال كافكا بتجربة" "النجوم من الساتان الأصفر، منثورة بين طرفي قماشة من بطاقة المتلقي التموينية " وعندما وجدت ساروت إنها ستكون مسئولة عن نجمتها، قررت أن لا ترتديه" وعلى هذه الأرضية، التي احتاج كافكا إلى شجاعة الرجل السوبر لاستباقها، شعرت هي " لا يمكن لأحد أن يبقى معه هناك، أو أن يجتازه، هؤلاء اللذين يعيشون على الأرض بقدرات بشرية سيعودون حتما للبحث عن طريق".

كانت تحقيقات ساروت الخاصة، طرية، قلقة، معرفية، ما يعنيها هو ما تعرفه شخصياتها وما يمكن لها أن تعرفه، هم أيضا معنيون ولكنهم مخادعون وغشاشون، يكنزون المال والمعلومات . عندما تجادل الأب مع ابنته حول المال الذي تريده للعلاج ، اتهم كل منهما الآخر بالبخل وكنز المال والتجسس، وفي الواقع فقد كان كلاهما يخفي عن الآخر المال ويحاول الإيقاع به والتجسس عليه، هذا التشارك في التصرف هو ما قربهما من بعضهما البعض، وهما يخشيان أن يؤدي بهما هذا التقارب إلى التصرف تبعا لتقليدية العلاقة، وبينما كانا يتعاركان، كانت الخادمة تتسمع في الغرفة في نهاية الصالة، والبواب يتلصص من ثقب المفتاح.

كل شخص يكذب في تطلعاته، ويتجسس، على كل شخص أخر في مقاطعة انجو"Anjou"حيث وضع بلزاك رائعته "أوجيني جراندي"، الأمر ليس صدفة فقد أرادت ساروت في (بورتريه الغريب) أن توضح الرابط بين اوجيني جراندي وكافكا.

عندما تقرا اوجيني جراندي، واضعا كافكا في فكرك، يدهشك برودة الفضاء بين الشخصيات، حتى في هذه المساحات المملوءة بالبراميل وفدادين الأراضي لم تشعر الشخصيات بالدفء، لقد تنازلت اوجيني جراندي عن كل ما تملك لأجل الحب، تشاركت مع أمها خطر الأمل بالتحول، هاتان السيدتان، مثل الرجل السري جوزيف كي، توجستا من خطر التفاهم المتبادل، الذي رفضوه،" لم يعد لها أب " قال جراندي البخيل عن ابنته"

" لكن يبدو كما لو أنهما نسيتاني تماما، إنهما تمضيان وقتا صاخبا مدويا مرحاً "قال الرجل السري، " يعني ذلك أنني انتمي إلى البلاط" قال الكاهن في نهاية المحاكمة، " إذا لماذا أريد أي شيء منكما" ؟ البلاط لا يريد شيئا منكم. إنه يستقبلك عندما تحضر وينبذك عندما تغيب، هذه "اللاشيء "يتردد صداها بوضوح في المسافة عندماـ في نهاية (بورتريه الغريب) ـ تقترب الحقيقة السطحية مرة أخرى من السارد، الذي لم يعد يدري كيف يقدم نفسه لطرح أسئلته الخاصة: " ولكن لا، انه لاشيء، هذا أيضا لاشيء، حتى ذلك الهواء، الغريب قليلا، كما لو كان متحجراً، حتى هذا الهواء البليد سيختفي بدوره، كل شيء سيرتب نفسه .... ويتحول إلى لاشيء".

في بداية ( الطفولة 1983) تتذكر ناتالي ساروت نفسها جالسة لوحدها في غرفة طعام الأطفال في فندق في زيورخ، ماضغة بعناد طعامها حتى تحول" إلى سائل كالحساء" . كانت أمها دائما ما توصيها، ألا تنسى نصيحة الطبيب الصغيرة عندما كانت بعيدة مع والدها، التذكر والمضغ لم يكونا دليلا على الوفاء فحسب، وإنما طريقة لتميز ذاتها في المنفى، هذه القطعة الطويلة المعقدة، هذه الكتلة من الشكوك والبروز القسري في خد ساروت الصغيرة لم يكونا ـ عندما قرأت (الطفولة) ذلك الربيع في باريس، بهدف كتابة سيرة ذاتية لتلك المرأة الفرنسية ـ على ذات القدر من الأهمية بالنسبة لي كما كانا بالنسبة لساروت نفسها. تعنقدت ملاحظاتي حول المقاطع الموجزة حين كانت تعاند مربيتها ـ " لا لن تفعلي ذلك" تقول المربية وتغرس المقص في ذراع الكرسي المنجد ـ قرب هذه القطعة كتبت عبارة، تحرير الذاكرة،بحروف بارزة، بالنسبة لي، في ذلك الربيع، كانت الحشوة المندلقة بوحشية من قماش الأريكة المطرز دليل مادي على أول عصيان وتمرد هادئ ضد السطوح الفائقة  النعومة، ولم ألاحظ التميز الذي ترسمه ساروت بين التوثيق والمعرفة. كانت عاصفة الأصالة تنتصب فيما اعتقدت انه العالم القاسي، البرودة اللامباشرة الباريسية .

عندما قالت الطفلة ساروت لامها عن عارضة لتسريحة شعر تطل من النافذة،" أنها أجمل منك يا أمي" كانت تطلب من أمها بصراحة أن لا تعول على دليل خلافي ثابت، وان تتحدث من منطق استمرارية المعرفة . كانت تأمل أن تجيبها أمها" ولكن نعم، أيتها الغبية الكبيرة، بالطبع هي أجمل" وان يتابعا السير في هدوء يدا بيد. ولكن أمها مدركة للحاجة العميقة ورافضة لها بكل قسوة، أجابت: " الطفلة التي تحب أمها لا ترى أجمل منها في الكون". منذ هذا الوقت، تعذبت ساروت بسبب الأفكار التي اعتقدت إنها دليل على عدم الوفاء وأطلقت عليها     " أفكاري" .

لم اكتب شيئا على هوامش تلك الفقرات ولكنني وضعت بكل أناقة سطرا تحت عبارة " الاستقلال الكامل النهائي " وقد تخلصت ساروت من الألم النفسي المبرح عندما ذهبت للعيش مع والدها، الذي قالت عنه" دائما، ضد كل المظاهر، رابطة غير مرئية لا يمكن لأحد أن يحطمها هي ما يشدنا أحدنا للأخر " .

كان والد ناتالي شديد الإعجاب بالمدارس الفرنسية، وفي عمر مبكر وجدت متعة في غرف الدراسة" عالم كانت تخومة محكومة بالدقة الفائقة، عالم متماسك، واضح ومرئي، عالم يطابق مقاساتي" لا تتذكر متى فكرت أن تكون كاتبة " ما فكرت فيه هو أن أكون معلمة مدرسة" . ولكنها لم تسجن نفسها طويلا في " عالم متماسك، واضح في كل شيء" .

في طفولتها حولت ساروت غرفة نومها إلى صف دراسي، صنعت من أوراق كراريسها الزرقاء دمى على شكل أطفال وكتبت اسم كل طفل على اللعبة الورقية وأعطت هذه البغايا، اللعوب، الصارمة، الممزقة، الغبية دروسا كل ليلة.

أحيانا كانت المعلمة قاسية، وأحيانا أخر كان التلاميذ قساة في دروسهم، في بعض الأحيان كان مفتشا أصما أبكما يأتي ليعطي الامتحان، ولكن ليس هذا هو مكان " الانفجار الحاسم النهائي".

من الواضح لي الآن انه في عالم الصف الدراسي الورقي الليلي، كان دور ساروت هو دور الروائية وان جزئياً، وانه حتى على الرغم من أن الكتب التي كتبتها وهي بالغة كانت صعبة منعزلة وقاسية، إلا أنها كانت تستبقي ـ بلا وعظ ـ بعض التعليمية في فكرة الرقة، والترتيب والنضوج، بحيث كان من الطبيعي بالنسبة للروايات أن تتضافر مع ذكريات   التعلم .

نبذت ساروت الأفكار التقليدية حول الحبكة، والتسلسل الزمني، والتشخيص، ووجهة نظر السارد . منذ أعمالها الأولى ركزت ساروت على العقل الواعي واللاوعي، في " انفعالات (1939) استعملت سلسلة من الفقرات الموجزة "انفعالات"،التي حسبما قالت، تحكم السلوك وتصبح خيطا رابطا موحداً عبر كل رواياتها، الانفعالات أشياء لا نقولها وحركات تعبر وعينا بسرعة ، أنها الأسس لمعظم حياتنا وعلاقاتنا بالآخرين، كل شيء يحدث لنا، ولا يمكن الحديث عنه بالمونولوج الداخلي، فتبثه مشاعرنا وأحاسيسنا" *

أشارت ساروت إلى أن الكلمات هي الترجمة اللفظية للتواصل اللالفظي . تعرض مسودات رواياتها أشخاص بلا أسماء، اصطادتهم تداخلاتهم واعتمادهم على بعضهم كشبكة العنكبوت.*

في (انفعالات) أشارت ساروت إلى موجات العقل الداخلية اللاإرادية التي تحكم سلوكنا .*

الأرقام المتغيرة باستمرار تقوض مصداقية ملاحظات السارد. أقوال السارد ليست ثابتة، إنها تتغير ككل الأشياء في العالم، ساروت، مثلها مثل منظري الرواية الجديدة، تقبلت قذارة وفوضى العالم الخارجي، هذه النظرة التي هيكلها الآن روب غرييه في كتابه ( نحو رواية جديدة 1963 ) "كيف يمكن لنموذج أن يبقى ثابتاً، عديم الحركة، في حين أن كل شيء حوله في ثورة- ثورة مستمرة - منذ المائة والخمسين عاما الماضية ؟.كتب فلوبير الرواية الجديدة في عام 1860، بروست كتبها في عام 1910 . على الكاتب أن يتقبل بفخر تحمل عصره وحين نعلم انه لا إبداع سيخلد إلى الأبد، فقط أعمال في التاريخ، وأنها تظل باقية إلى الدرجة التي تغادر فيها الماضي وتبشر بالمستقبل"*.

في عام 1953 كتبت ساروت روايتها ( مارتيريو) وهي قصة عن التوتر العائلي الداخلي. مارتيريو صديق العائلة كان رجلا صلبا، هادئا، وظفته ساروت بؤرة للمونولوج الداخلي، وفتتت شخصيته بالتدريج، مع بقية أعضاء العائلة (العم المتحجر القلب، الأم الصامتة، الابنة التي لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها، والشاب الخائف الذي يعيش في منزل عمه) وفي النهاية لم يتبق شيء من شخصية (مارتيريو) سوى خيوط من الاحتمالات.*

في( القبة السماوية 1959)، حذفت ساروت السارد، ويمكن أن نقرأ الرواية بوصفها رمزا للعمل الإبداعي، ونوعا من الكوميديا التهكمية، إذ أن الكاتب الطموح يصبح واحدا من بين عدة أصوات، نذرت ساروت عددا من صفحات الرواية للمقارنة بين راعي الغنم والكراسي الجلدية لإظهار الفروق في القيم الثقافية *.

في(عصر الشك 1956 ) وهي مجموعة مقالات نقدية . حاولت فيها ساروت أن تحلل ما الذي تحاول ـ بوصفها كاتبة ـ أن تنجزه في أعمالها، نبذت ساروت الحاجة للسارد في الرواية المتماسكة، ورحبت بموت الشخصية في القصة، ليحل محلها محتوى بلا اسم كالدم، كالمادة الصخرية المذابة.*

وعلى الرغم من أن أعمالها الأولى كانت بشيرا بالرواية الجديدة، إلا أن بعض النقاد وضعوها في صف تقليدين عظماء كبروست وهنري جيمس بوصفها منظرة للرواية السيكولوجية. كانت مهتمة أيضا بـ(بول فاليري وغوستاف فلوبير)، وقد أعيد نشر مقالاتها عن هذين الكاتبين في كتاب صدر عام 1986. دافعت ساروت في المقالات عن حاجة هذين الروائيين إلى التجريب الرسمي .

توفيت ساروت عام 1999 في باريس، روايتها الأخيرة (هنا 1995) كشفت طبيعة الذاكرة، محاولات الصبر، الأمل، عندما يكون الواقع بلا شكل ومليء بالثقوب*.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1305 الثلاثاء 02/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم