قضايا وآراء

نهضة المجتمع في تفكير الشهيد الصدر

 ولى زمن التسطح وزمن الضجيج والزعيق .. وحل مكانه – كما يقول المؤرخ العراقي على الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري: حل مكانه زمن التروي والبحث والتدقيق.

 فأشخاص توهموا انهم يمتلكون الحقيقة، اجتهدوا يحاربون كل ما خالف ذوقهم وتصوراتهم. وهو قصور مقرف في فهمهم للحقيقة. غير ان الواقع افرزهم متناقضات حتى في برامج تزمتهم الديني القاصر عن فهم الواقع ومواجهة مشكلات العصر، وكذلك تبنيهم الفكري الحاسر الذي لم يك ليواكب التطور الحضاري المشهود وايجاد الحلول الناجمة عن تراكم الكم الحضاري والتقدم العلمي في شتى ميادينه ومجالاته. فمثلا تصديهم للفكر الفلسفي وان كان على مستوى النظرية التي تتطلب معالجتها طرقا استدلالية صحيحة بناءً على ما لدى العقل من مسلمات وجدناهم يكفـّرون من قال بالفلسفة وعلم الكلام وان كان من نوع شريحتهم، فصدر الدين الشيرازي فيلسوف عصره كفره هراطقة من المسلمين وطبقة من مرجعياتهم وقتذاك لانه قال بالفلسفة وتبنى امورا وقواعد عقلية سرعان ما اذعنت الفلسفة الاسلامية المعاصرة بالفضل اليه فوسمته بصدر المتألهين.! وانطلق من هذا العملاق عباقرة اسلاميون كالشهيد مرتضى المطهري وردوده على الالحاد واشكالات العصر وعلى فلاسفة الغرب اكثر من ان تورد هنا. بل صاحب اشهر رؤية اصابت الهدف في تشخيصها وملائمتها لتفسير القضاء والقدر في مؤلف عظيم اسماه العدل الالهي.

هكذا حينما نبحث في رؤى المفكرين الواقعيين نجدهم يثنون ركبتهم لايجاد ما يمس الواقع من نص او تحليل وهو غاية انطلاق الفكر التحرري البعيد عن الطوباوية والمثالية والاحتباس داخل دهليز الجمجمة فقط.

 

 ومنه وصولا الى آليات التحرك الاسلامي ومنهجية العمل الرسالي، فبعد ان كفر رجال العمل الحزبي وادرجوه مدارج الضلال الوارد على الاسلام فرفضوا التشكيل السياسي بمفهومه المتعارف والذي يبتعد عن المفهوم الخاص للقاعدة القرآنية (الا ان حزب الله هم الغالبون). وجدنا الكثير منهم في تشكيلات حزبية سياسية تدعي صحة قوامها دون مناقشة. وكتاب (طريقة حزب الله) للشيخ الكوراني خير من بين الحزب والحزبية على المفهومين الديني والـ " وضعي".

 ولو تتبعنا أدوات ومنهجية كل الاحزاب الدينية دون فرق سنجدها تتبنى ذات النفس وقواسم مصادر التفكير الذي خلقته احزاب علمانية ومنها إلحادية كتشكيل الخلايا والانجذاب للقطب الحزبي الواحد لتنتهي جلها الى تأليه ذلك القطب.

 لهذا وذاك استنهضت افكار السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس الله سره مسألة وعي الامة والدفع بها نحو التقدم الحضاري وبناء ذاتها ومن ثم الدفاع عن هويتها وجوهر وجودها بين الحضارات القادمة من الغرب. وذلك من خلال نقده للذات ونقد المتوارث وغربلته بما يتلائم وتطورات الزمن المفروض على بني الانسان وبما استنطق به مصادر التشريع الاسلامي.

 باشر المفكر الصدر في استكشاف هموم الامة واسباب تراجعها بين الامم وخذلانها فيما نراه. فانطلق ينتقد دون ترديد لمن سبقه بل اجرى دراسات فكرية مبتناة على اصول واقعية حاكى بها الواقع المرير، فاجتهد يوضح وبكل جرأة مجريات الواقع وتقهقر الامة امام هذا الواقع وتقدمه عليها بالاف الخطوات التي خلفتنا في التردي الذي هربت عقول وعقول عن الاعتراف به او مواجته وايجاد الحلول اللازمة ودواعي الارتفاع بنا من جديد لنواكب تطورات الزمن وحضارات الامم.

 الزمن يتقدم وينطلق دون ان يرحم من لا يؤمن بتقدمه. وهو ينضج فكريا وحضاريا دون ان يتألم على تخلفنا عن مواكبته ومجاراته بادوات التحديث المستمر وبقراءة متانية متتابعة لمنجزات حضارات العالم.

 

  لو تأملنا بروية حالات العجز الغالب على تلك العقليات لوجدنا السبب الرئيس يعود الى التسطح الفكري والثقافي اضافة الى الخلفية الاجتماعية التي جعلتنا بهذه العقلية الضيقة. ولاكتشفنا ايضا ميول البعض الى اساليب ممجوجة لسد ذلك النقص وذلك العجز. وهذا الكلام لن اخرجه من جيبي انما من خلال تجارب كثيرة مع اطياف واصناف متنوعة من تلك النفوس. والى هذا ايضا ذهبت نظريات اجتماعية ادركت عدوانية هذه الحالة.

 كن من شئت لكن اسمعني وناقشني لتسدد ايجابيتي او لترشد ضعفي نحو المستوى اللائق بنا كبشر نحترم العقل. ففي اختلاف وجهات النظر قوة كامنة تحرك الامة نحو تقدمها. دعني اكتشف حسناتك كي ابادر الى مثليها وسأدعك من خلال التدقيق تعثر على سيئاتي لتعالجها وثوقا بما عندك من امكانية وتفاعل. وبذا نكون رسل العقل الى المجتمع.

 نحن حينما ندرس ظاهرة اجتماعية ما، ففي الواقع انما نبحث عن مديات تمدد تلك الظاهرة او نلحظ زمانية تقلصها وانكماشها ومن ثم طريقة القضاء عليها في حال كانت سلبية. وهو ما اداه الصدر العملاق في فترة زمنية قياسية ولو منحه الدهر وقتا اطول لربما تغيرت امور لا ندرك مدياتها الان.

 الى هذا ايضا لا يمكن لانسان اليوم ان يدعي العصمة ولا حتى ان يتمكن من عصمة النفس والتفكير بصورته الموجودة لدى الكمل من البشر كالانبياء واوصيائهم. او كحال الملاك الذي لا يعدو ان يكون عقلا مجردا كاملا مطيعا الله تعالى. وحتى صاحب النظرية الصحيحة او الفكرة السديدة لا يمكنه ان يعلن صحتها ويتبناها بصورة 100% الا اذا كانت قابلة للتطبيق. فالمعيار في تطبيق هذه النظرية على ارض الواقع او معالجتها لواقع فاسد يراد اصلاحه وابداله بالاحسن. ومن هنا جاءت مؤلفات السيد الصدر تحاكي الواقع وتنطلق لتأسيس قيمة واقعية للمسلم وانسانيته حتى على المستوى الحياتي فجاء مؤلف " البنك اللاربوي في الاسلام: وجاء كتاب " اقتصادنا" و"الاسس المنطقية للاستقراء" وغيرها. وكلها امكانيات تحرك عقولنا لمعايشة الواقع وتطبيق رؤيتنا الاسلامية في هذا الواقع.

 

 اذن ليس بالضرورة ان اكون كاملا تماما كي انفع المجتمع او اعالج ظاهرة منحرفة. انما بالضرورة ان اكون موجدا لامكانية تطبيق الفكرة الصالحة وان كنت لا اخلو من عيب ونقص. فليس اللازم صحتي التامة الكاملة بل اللازم مناسبة الفكرة ومدى انطباقها عليّ اولا كوجود ثم التالي ثم المجتمع.

كمثال اجتماعي انطبقت عليه فكرة الاصلاح تماما لتعالج اسلوب متهافت تعويضي لشعور النقص، يروى ان احد الائمة عليهم السلام واظنه الامام موسى الكاظم عليه السلام كان في صحبته شخص يطلب علوم الامام واخلاقياته في المجتمع. مرّا أمام قصر كبير لاحد وجهاء بغداد الاثرياء وكان يلهو بمجونه طربا وغناءً وتتطاير رائحة الخمرة من فناء القصر الى افاق بغداد. فرج الباب فخرجت منه جارية (خادمة) ترمي فضلات  في قمامة .

 طبيعي ان يثير مسمع الغناء والضجيج ورائحة الخمور كل مصلح فطلب الامام من صاحبه ان يسأل الخادمة ان كان سيدها صاحب القصر حراً أم عبدا.

وحينما سألها ابدت دهشتها وهتفت: طبعا انه حر لانه وجيه البلدة وثريها وهو يمتلك هذا القصر الكبير!

قال لها الامام: صدقت، فلو كان عبدا ما فعل هذه الفواحش.

تبسمت لهما واندلست الى القصر. وحين سألها سيدها عن سبب تأخيرها، اخبرته القصة فخر عن اريكة السمر وهرع الى الباب تاركا ندماءه ووكؤوسهم وطلب القائل. وقف امامه منفعلا مرتبك الكلمات. توسل اليه ان يعيد جملته التي نقلتها الخادمة.

 قال له الامام عليه السلام: يا بشر (بكسر الباء وسكون الشين).. لو كنت عبدا لله ما عصيته!

ومنذ تلك اللحظة عرف بشر بالحافي لانه ترك الدنيا وملاذها يطلب غفران الله تعالى ويبحث عما يصلح حاله وحال المجتمع. فهي لحظة حاسمة وتوقيت دقيق من الامام بمنطق نبيل عرف اين يضعه. فهي بجملة تعني معرفة امكان التطبيق.

 ومن اساسيات انطلاق رؤية السيد الصدر ارتكازها على ما جاء به الانبياء وادوات رفضهم للجمود الفكري ومن ثم احداث زلزلة في سكون تلك الحياة لتتحرك. وكثيرة هي النصوص والنظريات السماوية التي رشدت العقل الانساني ودفعته نحو قيمته الحقيقية في هذا الكون. والا ما معنى دعوة النبي نوح للانسانية انذاك لمدة قاربت ألف عام؟ هي دعوة لتحريك العقل ودفعه الى التقدم ورفض التحجر والركون الى ما هو راكد وساكن كالاوثان. اراد لهم الانعتاق من هذا التقليد الذي يهلك حياتهم في الدنيا قبل عذاباتهم في الاخرة. اراد لهم الانطلاق لايجاد الحلول الصحيحة لمعالجة مشاكلهم كمجتمع بشري وتقدمهم لما يسعدهم ويؤمن لهم حياة فاضلة. ولان العقل العام كان راكدا يأبى التقدم افنوا عن بكرة ابيهم لتحل محلهم فئة التحرر والانطلاق نحو القيمة الواقعية واستعمار الارض بما يصلح حال الانسان.

 وحتى نظرية النبي يوسف لزراعة اكبر مساحة ممكنة من الارض واعمارها ومن ثم اختزان الحبوب لسبع سنين انما بدافع الحركة لدرأ ما اصاب الانسان يومذاك من قحط وما اضمرته له ايام المستقبل العصيب من خطوب الفقر وتقلبات الحياة التي لم يفلح العقل البشري باعداد لوازم التقدم والحركة فيها.

والى مثل هذا توالت رؤى الصدر عملاق العراق الفكري الاصلاحية تدفع نحو الرقي واعمال العقل بفعاليات مختلفة في افاق الكون. وقد تصدى لعمليات التحجير والتسطح الفكري التي تحارب العلم ونظريات المعرفة، لكن بطريقة هادئة متكئة على الادلة والبراهين والتجارب. وكان يستقبل تلك المناقشات وان كانت برؤية المصلح خاطئة، وجدناه يتعامل معها بكل ما تستدعي كلمة المعرفة والاخلاق من تجاذبات ومحاورات نستطيع ان نعبر عنها اليوم لقاءات فكرية او ثقافية تنتج في النهاية تسديد الراجح لبناء المجتمع. وهذه الرؤية استورثها الصدر من عظماء الاسلام فكثيرا ما قرانا ودرسنا محاججات علمية ومناظرات فلسفية واخرى فكرية فيما بين الانبياء ومخالفيهم وكذا بين صلحاء الانسانية مع خصومهم ممن تسطحت اراؤه فتمخضت اللقاءات عن اثبات ما ينفع الانسان وتغليب الدليل على نقيضه. وما اكثر هذه البيانات والمناظرات في الحياة الاسلامية لدى طلائع الاسلام وكمّل الامة. ومن هنا جاء كتاب "فلسفتنا" ليرد على مزاعم الالحاديين.

 بجملة واحدة فان كل مؤلف صدر عن الشهيد الصدر يعد عنصرا خطيرا في ترشيد المجتمع وبنائه والدفع به نحو التطور.

خريف ملبورن 2010

في الذكرى الثلاثين لليلة اعدام المفكر الصدر

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1368 الخميس 08/04/2010)

 

في المثقف اليوم