قضايا وآراء

انتاج النفط ليس إنتاجاً (2) إفراط "الإنتاج" لإغراق الإنسان بثروته / صائب خليل

 إلى تحويلها إلى وبال على تلك البلاد. وقلنا بأن اعتبار استخراج النفط وبيعه، "إنتاجاً للنفط" يشبه اعتبار إخراج الجبن من الثلاجة وبيعه على أنه "إنتاج للجبن"، وأن الإسراف في هذا العمل يشبه عملياً وأخلاقياً، إفراغ الثلاجة من الطعام وأكله كله حتى التخمة قبل أن يعود الأبناء من المدرسة ليجدوا والديهم قد أكلا كل الطعام الذي كان في الثلاجة!

وأشرنا أيضاً من خلال اقتباسات من خبراء نفط، بأن مصلحة البلاد النفطية تتطلب وجود خطة إقتصادية عامة وأن الهدف لايجب أن يكون الحصول على أعظم مردود مالي من النفط بل أعظم نفع إقتصادي ضمن الخطة الشاملة. وحذر فؤاد الأمير من أن التصدير المفرط للنفط لن يؤدي إلى مصلحة البلد، بل في أحسن الأحوال إلى أكثر من تضخم نقدي معرض للمصادرة، وفي أسوأ الأحوال فأنه يستدعي المصائب والحروب. سأستخدم منذ الآن عبارة "إفراغ النفط" بدل "إنتاج النفط" لأنها الكلمة الأنسب في تقديري، وادعوكم لأستعمالها مستقبلاً.

 

قبل الحديث عن مخاطر "الإفراغ" المفرط للنفط، للنظر أولاً كيف يمكن أن تستخدم هذه الثروة كـ "ثروة" وليس كوسيلة للخنق والضغط والقتل.

 

يكتب الأستاذ فؤاد الأمير: "من الواضح الآن لكل المعنيين السياسيين والاقتصاديين والمختصين ان خزين النفط العالمي في طريقه الى النفاد، ....وذلك في اواسط هذا القرن. .... لايتوقع ان يتم اكتشاف اكثر من 20 % من الاحتياطي الحالي."...

"لهذا فان النفط سيكون مادة ثمينة، واذا استطاعت اوبك الصمود والتنسيق مع المصدرين المهمين الآخرين مثل روسيا، فإن الاسعار سترتفع و يتلاشى خطر انخفاضها، وذلك وفق سياسة تفنين الانتاج وتحديد حصص التصدير لدول اوبك."

 

وإضافة إلى تنبيه الدكتور كامل العضاض الذي أشرنا إليه في الحلقة الأولى (1) عن ضرورة التخطيط من أجل تعظيم الفائدة الإقتصادية من النفط لإستغلال الموارد الأخرى، نورد هنا رأياً للسيد احمد ابريهي علي، والذي يقول بضرورة تحديد ما يحتاجه البلد من العملة الأجنبية لتحديد كمية النفط الذي يجب أن يهدف البلد إلى تصديره، من أجل ضمان حسن التصرف في المورد النفطي: " اذ تبين هذه الموازنة كم هو المخصص من هذا المورد لإستيرادات الحكومة ومدفوعاتها الخارجية وماذا تستورد للأنتاج والأستثمار والاستهلاك وماذا تدفع للديون ,'السابقة والجديدة ,وكم ينفق منتسبوها بالعملة الاجنبية للايفادات بمختلف مهامها .بل وأيضاً تظهر مايخصص من ذلك المورد للأحتياطات الرسمية بالعملة الاجنبية. .... ,الا تريد الحكومة ان تعرف ماهو الحد الادنى من الاحتياطيات الذي لايمكن النزول دونه ومجلس النواب ايضا ,وماهو الحد الاقصى الذي لاداعي لتجاوزه بأقتطاع المزيد من موارد النفط واضافتها اليه." (2)

 

لكن تحديد كمية النفط بما يناسب البلد قد يختلف عن ما يناسب الدول الأخرى، لذا ويحذر الأمير: "المهم عدم الرضوخ الى الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة لزيادة الكميات المطروحة في السوق العالمي، كما كانت تفعل السعودية في السابق . لاتستطيع السعودية الآن ان تفعل ذلك لعدم وجود امكانية لديها لاغراق السوق فانتاجها قد بلغ ذروته ضمن المنشآت الحالية. والدولة الوحيدة التي تستطيع ذلك حقا هي العراق، واذا قامت بهذا العمل فانها ستغرق نفسها كذلك، اذ ستؤثر سلبًا على الاسعار بتخفيضها، وسوف لا تحصل على عوائد عالية رغم زيادة الانتاج."

أن خير من يحافظ على حدود الإنتاج هو منظمة أوبك، لذلك سعى البعض أحياناً لتحطيمها، وبالفعل تتردد في الأخبار العراقية حالياً أقوال تنم عن العداء لهذه المنظمة:

فؤاد الأمير: "لقد عارض عدد كبير من "الخبراء" العراقيين تحطيم اوبك، واكدوا لضمان حقوق العراق - على الابقاء على هذه المنظمة لدعم/تقوية الاسعار، لهذا تركت السياسة الاميركية المحاولة العلنية لتحطيم اوبك، ولكنها تريد الآن التسلل من الشباك بتشجيع العراق على الانتاج العالي وقد يستطيع مع السعودية او لوحده اغراق السوق".

والسوق حساس لأية زيادة في الإنتاج فـ "لايزال السوق النفطي حساسًا تجاه مبدأ العرض والطلب، اذ ان قيام اوبك  بزيادة او نقصان في الامدادات بحدود ( 0.5 – 1.5 مليون برميل/اليوم ) من شأنها ان  تؤدي غرضها في تثبيت الاسعار." أما زيادة الإفراغ بشكل أكبر فتؤدي بالضرورة إلى الإنهيار، كما كان الأمر في أواخر الثمانيانات وأوائل التسعينات من القرن الماضي حيث انخفض سعر البرميل إلى ما دون 10 دولار!

لذلك فمن الضروري أن تستعد الدولة النفطية لمثل هذه الإحتمالات، وأن تكون قادرة، فردياً، ومع الآخرين، بالإمتناع عن ضخ النفط إن هو انخفض إلى ما دون حد معين. ولعل خير طريقة لتحقيق ذلك، دون المخاطرة بالإحتفاظ بكم كبير من الإحتياطي النقدير الأجنبي، هو أن تخطط الدولة خزينتها بحساب "إفراغ" للنفط يقل عن حصتها قليلاً.

 إنه المقابل الذي يجب أن تستعمله الدول النفطية، لما تفعله الدول المستوردة للنفط حين تخزن كميات من النفط المستورد في مخازن ضخمة تجعلها أكثر قدرة على مواجهة قرارت الدول المصدرة، واضطرابات الأسعار. وبالفعل وصلت مخزونات الخام الامريكي عند نقطة التسليم ارتفاعا قياسيا مما زاد من الضغوط على سعر النفط. (3)

وحسب توقعات «أوبك» لعام 2010، فأن مستوى الطلب سيقل عن 2009 بمعدل 100 ألف برميل يومياً تقريباً، وهو ما يعني ضرورة الالتزام بالسقف الإنتاجي المقرر في سبيل دعم الأسعار في السوق. (4)

 

وأسوأ من دفع استخراج النفط إلى الأعلى بلا تخطيط، التحجج بـ "ضرورة زيادة الإنتاج بسرعة"، من أجل فتح الصناعة العراقية للإستثمار في إفراغ النفط، وفي هذه الحالة فأننا نضيف إلى ضرر انهيار الأسعار، ضرر انتشار الفساد بأكثر مما هو الآن، كما تخبرنا "تجربة روسيا التي فتحت طريق الاستثمار في الانتاج النفطي في زمن يلتسين، فانتشر الفساد وسيطرت المافيات على قرارات الحكومة وادت الى افقار الشعب الروسي، وحاولت حكومة بوتين تعديل هذه الامور وارجاع "تأميم" عمليات انتاج النفط، مما اضطر بوتين الى القول :"اننا سنسمح بالاستثمار الاجنبي عدا قطاع انتاج النفط او استخراج الذهب"!!. .. حسب تعبير فؤاد الأمير.

 

إنها الضغوط التي تتعرض لها أية دولة نفطية في العالم، فكيف بمن يجلس فوق ثالث احتياطي نفطي في العالم؟ وإضافة إلى ذلك فأن لدينا لاعب كبير وخطير للغاية: الإحتلال.

 

أميركا: النفط هراوة

هذا الإحتلال بالذات دون غيره، استخدم في الماضي، الثروات النفطية للشعوب، ليس فقط كسرقة كغيرها من السرقات، بل كهراوة لضرب شعب دولة النفط نفسها، بل وأيضاً لضرب شعوب أخرى! فسيطرته العسكرية أو من خلال العملاء أتاحت له أن يتصرف بأهم ثروة أرضية اكتشفها البشر، لأذى البشر. فكل ثروة مفيدة إن استعملت بالحدود المناسبة، إلا أنها يمكن أن تخنق الناس، إن منعت عنهم، أو بإغراقهم فيها إن فتحت عليهم بأكثر مما يستوعبها عالمهم! 

 

كثرما استخدمت الدول الكبرى النفط كهراوة سياسية لضرب خصوم واعداء الدول العظمى. وقد وجد خبراء هذه الدول وسائل مختلفة متنوعة لأستخدام هذه الهراوة.

 

فإذا كانت الدولة التي يستهدفونها لا تمتلك النفط، حاصروها لتختنق في حاجتها إلى النفط. ولا يتقصر هذا الأسلوب في تأثيره على الدول الصغيرة المشاكسة التي تريد الولايات المتحدة تأديبها، بل يشمل دولاً عظمى مثل اليابان. فمن المعروف لدى المتابعين أن الولايات المتحدة حين بدأت سيطرتها على نفط الخليج العربي، لم تكن بحاجة إلى ذلك النفط من أجل استهلاكها، وحتى الآن فأن حاجتها إليه ليست حاسمة، فلدى الولايات المتحدة مصادرها الداخلية والخارجية الأخرى. إنما كان نفط الشرق الأوسط والخليج يمثل بالنسبة لها، إضافة إلى الأرباح الهائلة التي تهدف إليها من تلك السيطرة، فهو تلك الهراوة الكبيرة التي يمكنها أن تهدد بها دولاً مثل اليابان والصين إن هي خرجت كثيراً عن الإطار الذي ترسمه الولايات المتحدة لها.

 

أما إن كانت الدولة الضحية المستهدفة من الدول النفطية، فستسعى الولايات المتحدة إلى خنقها بمنعها من تصدير نفطها، كما تسعى الآن إلى فرضه على إيران تدريجياً، وكما حددت التصدير العراقي، ووضعته ضمن شروط خانقة، حين وضعت الفخ المنصوب بعناية لصديقها في ذلك الوقت صدام حسين في التسعينات، وكان قد انتهى لتوه من تنفيذ مخططها للحرب بين العراق وإيران، نتيجة لفخ آخر، أدركه متأخراً، كما سيدرك فخ الكويت متاخراً ايضاً.

 

وحين لا يكون هناك إمكانية سياسية أو عسكرية لمنع تلك الدولة من تصدير نفطها، كأن تكون تلك الدولة قوية بشكل خطير أو تمتلك الفيتو في مجلس الأمن، كما كان حال الإتحاد السوفيتي، أو حين لا يكون هناك حجة لمثل ذلك الحصار والمنع، كما حدث لصدام حسين قبل اختلافه مع الأمريكان، في الفترة التي سبقت احتلاله للكويت، فأن للأمريكان طريقة فعالة في خنق تلك الدولة، متمثلة بدفع دولها العميلة لزيادة تصدير النفط بشكل كبير حتى يحدث إنهيار في أسعار النفط، فلا تحصل تلك الدولة المستهدفة على عائد يكفي من ثروتها النفطية.

 

وحول هذا الموضوع، نذكر قول كورباتشوف بأن السعودية التي زادت تصدير النفط بشكل كبير، كانت سبباً رئيساً في انهيار اقتصاد الإتحاد السوفيتي وسهل انهياره السياسي. ويعرف جميع المتابعين أن الولايات المتحدة حاصرت بهذه الطريقة صدام حسين حتى في الوقت الذي كان مايزال "صديقها" ولكن بعد أن أتم لها مهمة تدمير كل من العراق وإيران في حرب لا معنى لها. وكان هدف الحصار، دفع صدام الذي كان يمتلك جيشاً هائلاً واقتصاداً مثقل بالديون الهائلة، إلى اجتياح الكويت بعد أن لا يجد طريقاً للخروج من أزمته المالية. فدفعت بالكويت نفسها، إضافة للإمارات والسعودية، إلى زيادة تصديرها للنفط بشكل حطم اسعار النفط إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل الواحد! وبعد ذلك، وحين سقط صدام في الفخ، أكملت عليه اللعبة بتصريحات كلاسبي والبيت الأبيض المطمئنة التي اعطته الضوء الأخضر لدخول الفخ!

 

وحين لا يكون منع الدولة الضحية المستهدفة من تصدير نفطها بالقوة العسكرية أو من خلال مجلس الأمن، تحاول الولايات المتحدة أن تقطع خطوطه بإثارة الإضطرابات في مناطق امتدادها، كأن تجد دولة عميلة تمر فيها أنابيب النفط لتقطعه بين مصدره ومكان استهلاكه.

فقبل سنة ونصف كان هناك أزمة مفتعلة بين روسيا وأوكرانيا، حين قامت حكومة الأخيرة، وهي الحكومة الفاسدة التي جاءت بها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا بواسطة الثورة البرتقالية، بقطع خطوط الغاز الروسية المارة بها إلى اوروبا، وتسببت في أزمة كبيرة للدول الأوروبية ولروسيا ولأوكرانيا طبعاً. وكان الهدف الأمريكي من هذه الحركة هو دفع أوروبا للبحث عن مصدر بديل أكثر استقراراً للغاز من الغاز الروسي المعرض للقطع في أي وقت من مثل تلك الدول.

لكن هذه السياسة ارتدت على صانعها فأسقط الشعب الأوكراني الحكومة التي تستلم أوامرها من الولايات المتحدة في الإنتخابات التي جرت قبل شهور، مستعيداً حكومة قريبة من روسيا، قامت بتوقيع اتفاقيات للطاقة والجيش مع روسيا، ومنع الحلم الأمريكي بضم أوكرانيا إلى حلف الناتو.

لكن الأمريكان لا ييأسون بسرعة، فقبل اقل من أسبوعين كانت هناك مشاكل مماثلة أثارتها روسيا البيضاء في خطوط الغاز التي تصل خلال تلك الدولة إلى أوروبا. (5)

 

وفي كل تلك الحالات فأنه مما لا شك فيه أن الدولة التي تستخدم الولايات المتحدة نفطها، او أنابيبها كهراوة لضرب ضحاياها، تتضرر كثيراً، لكن تلك الدول في العادة ليس لها أن تقول "لا" للولايات المتحدة.

ليس هناك ما يدعو إلى الإطمئنان أن الولايات المتحدة لا تنوي استعمال النفط العراقي كهراوة لضرب خصومها، ويبدو أن سيناريو الضغط على إيران عامل محفز لمثل هذا الإحتمال، وهو ما قد يفسر هذا الضغط "الدولي" بتشجيع العراق على زيادة "إنتاجه" من النفط، حتى قبل أن يخطط ما الذي يمكنه ان يستخدم أموال ذلك النفط، وقبل التأكد من قدرته على استيعاب مردوداته في مشاريع اقتصادية، فالمشاريع الإقتصادية ليست نقوداً فقط.

 

إن الإحتمالات الممكنة في هذا السيناريو لا تستبعد تكرار المأساة التي اغرقت أميركا العراق فيها في الحروب، فتحاصر إيران من خلال إغراق السوق بنفط العراق الذي يحتوي على إمكانيات كبيرة للتوسع بالإستخراج، على العكس من المملكة العربية السعودية المشبعة، لتصل أسعار النفط إلى حد قد يدفع بإيران إلى ضرب العراق عسكرياً كما فعل العراق مع الكويت عام 90 تماماً، ثم لتتخذ من ذلك حجة ربما لتنفيذ ضربتها لإيران أو تترك البلدين يحرقان نفسيهما من جديد، كما فعلت في الثمانينات، خاصة وأن لدينا مرشح لرئاسة الحكومة هو اقرب البشر إلى صدام وحماقاته، وهو "بالصدفة"، المرشح المفضل لأميركا لحكم العراق، او استلام مؤسساته العسكرية والأمنية!

 

في الحلقة القادمة الأخيرة سنتحدث عن السلطة المخيفة لشركات النفط في تسيير العالم، بما فيه بلدانها.

 

(1) انتاج النفط ليس إنتاجاً (1) النفط بين التخطيط والإعلام

انتاج النفط ليس إنتاجاً (1) النفط بين التخطيط والإعلام / صائب خليل

(2) http://www.almowatennews.com/

news_view_5158.htm

(3) http://www.oil.iraqiamedia.com/index.php?option=com_content&view=article&id=833

(4) http://www.oil.iraqiamedia.com/index.php?option=com_content&view=article&id=642

(5) http://www.presstv.ir/detail.aspx?id=131529&sectionid=351020606

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1461 الاحد 18/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم