قضايا وآراء

الطائفية تتقدم – والكرامة تنتفض ضد الجوار فقط / صائب خليل

كذلك تكشف المشاعر الطائفية أيضاً، ما لا يكتب من كلمات ضدها عندما يتوجب الكتابة، فالصمت أكثر تعبيرا عن الدواخل من الكلام أحياناً.

 

ما أدراني أن الطائفية تتقدم؟ هناك الكثير من الدلائل سأكتفي منها بما يلي:

 قريب لي (سني) يرسل لي دائماً مقالات من موقع كتابات، خاصة لشخص أو جهة توقع باسم "عبد الله الفقير" فأجيبه عليها برأيي الرافض لها غالباً، لكنه كان مصراً على إعجابه به ومتابعته وإرسال مقالاته. وفي مرة كتبت له: "ربما كان "عبد الله الفقير" هذا محقاً في اعتراضه هنا، لكنه يبقى بالنسبة لي شخص أو جهة تحوم حولها الشبهات، وإلا فهل لك أن تخبرني لماذا لم يجد "عبد الله الفقير" شيئاً يكتب عنه سوى أخطاء الشيعة خلال كل سنوات كتابته؟ لماذا لم يثر أي إشكال آخر من إشكالات ومصائب العراق الوافرة، حرصه ووطنيته المزعومة غير "اخطاء الشيعة" ليراجعها ويمحصها منذ التاريخ حتى الآن؟ ألا يوجد في العراق موضوع آخر يقلقه؟". منذ مدة لم يصلني من هذا القريب شيء من "عبد الله الفقير".

 

صديق (سني) اضطررت للتوقف عن إرسال مقالاتي له لأنها تثير أعصابه، لأنني "لا أرى الواقع" حسب رأيه ولا أرى أن الشيعة يتكتلون وأن كل سني يستبعد من كل منصب، وأنه مطلع على ما يجري في ديالى وغيرها (ولدي كل الثقة أن كل ما قاله كان بصدق تام، وأنه صحيح أحياناً) وكان يتابع إرسال الأخبار بالإيميل أو عندما نتحدث بالتلفون عن الجرائم التي ترتكبها ميليشيات الحكومة الشيعية التي تدعمها إيران ضد السنة، فأسأله، وما أدراك أنهم شيعة؟ وكيف عرفت أن إيران تدعمهم؟ فيقول بأن الجميع يعلم بذلك. صديقي هذا كان يثور أكثر كلما كانت الجرائم أفضع ويعود ليسألني إن كنت مصراً على موقفي من الموضوع، فأجيبه أن فضاعة الجرائم لا تثبت شيئاً عن الفاعل، وأنا أختلف معك على وجود دليل على الفاعل وليس على فضاعة الجريمة.

كان صديقي هذا يرسل لي المقالات والأخبار بالإيميل، وكنت أشير له دائماً إلى اعتراضي على منطق تلك المقالة أو الثغرات في الخبر المنشور، وكان يوافق صامتاً، وفي آخر مرة أجبته كالعادة وبينت الخلل الشديد في الخبر والفارق بين العنوان والمحتوى وأن هذا الفارق دليل قاطع على أن كاتب الخبر يتعمد الكذب لإثارة النعرات، ثم كتبت له : "ما يقلقني يا .... لماذا لا أحتاج إلا إلى ثوان لأعرف خلل مثل هذا الخبر، وتفشل أنت برؤيته تماماً، وترسله إلى أصدقائك ناشراً الخبث الذي يحمله دون أن تدري؟ أين ذهب منطق ... ومشاعره الحيادية الرائعة، ماهي الصدمة التي جعلت حتى من ... لا يرى الحقائق الواضحة عندما لا تناسب فكرته؟" الرجل أقر بوجود خلل، لكنه توقف عن إرسال أي شيء لي، كما توفقت عن إرسال مقالاتي له، والتي صارت تتعبه.

لا تتصوروا أنني أتحدث عن شخصين طائفيين. فهذان الصديقان، رجلان مثقفان نزيهان إلى ابعد الحدود، وكل منهما بعيد أبعد ما يكون المرءعن الطائفية، فما الذي حدث؟ ما الذي جعل الطائفية تتقدم وتكسب كل هذه الأرض من أمامنا؟

 

لنأخذ مثالاً من الجانب الشيعي أيضاً.

في زحمة العراك السياسي الحالي، إتخذت موقفاً واضحاً لا يخلط الأخضر واليابس، مقتنعاً بأن الإنتخابات تم تزويرها بشكل كبير لصالح علاوي وضد الآخرين جميعاً. وقناعتي المؤسسة على دلائل أوردتها بغزارة في مقالاتي الكثيرة حول الموضوع. الموقف الحيادي اللاطائفي والمدافع عن الحقيقة حسبما أراها يحتم بالتالي الدفاع عن حق المالكي وكتلته في تولي الحكم، ووقفت في هذا موقفاً "متطرفاً" أغاض العديد من أصدقائي وقرائي، ليس من السنة فقط، بل من الشيعة الذين لا يفضلون الحكم ذو الإتجاه الديني. أنا أيضاً لا أفضل الحكم باتجاه ديني، لكني رأيت الرجل منتخباً، ورأيت واجبي في الدفاع عن الحقيقة وعن الديمقراطية يقتضي الوقوف مع ما تشير إليه تلك الحقيقة وتلك الديمقراطية، بكل "تطرف" وبلا خجل، وبلا مجاملة، حتى إني كنت وما أزال من المعارضين لحكومة المشاركة وأعتبر أن من حق المالكي إن استطاع، أن يحكم بحكومة أكثرية فقط، بل وأويد أن يفعل ذلك وأصر أن حكومة الأكثرية هي الحكومة الصحية الوحيدة، مثلما أصر أن من حق الكتلة أو الكتل الفائزة بالإنتخابات أن تشكل حكومتها حتى لو كانت تلك الكتل لا تعجبنا في توجهها الإيديولوجي أو الديني أو الطائفي. حماية الديمقراطية أهم من ذلك، والديمقراطية قادرة على إصلاح نفسها إن أعطيت الفرصة، ومن واجب المرء أن يعطيها الفرصة كاملة بلا تثليم ومجاملة.

 

من الطبيعي أن قرائي وأصدقائي من الشيعة كانوا سعداء بهذا الموقف "اللاطائفي" وقرائي وأصدقائي من السنة سكتوا غالباً أما مقتنعين على مضض بما سقت من حجج أو رافضين الدخول في نقاش، ربما بدا لهم خاسراً. في كل الأحوال كنت أشكّل حسب تصوري جواً لا طائفياً يجعل الطائفي يخجل من نفسه او التعبير عن طائفيته فيه، حتى إن لم يغير فكره الطائفي في الداخل.

 

ثم جاءت لحظة اختبار أخرى، فكتبت إحدى الكاتبتات التي كنت احترم رأيها ومواقفها، مقالة طائفية (شيعية) إبتداءاً من عنوانها وإلى مضمونها الذي يدعو الشيعة إلى التكاتف مع المالكي الذي هو الأفضل لحكمهم!! علقت بالرفض لهذا المنطق وبشكل غاضب، فليس المفروض أن ندعوا الشيعة ليختاروا الأفضل لحكمهم أو السنة ليختاروا الأفضل الذي يتيح لهم الحكم. إننا بذلك اعترفنا ضمناً بأن كل شيعي يفترض أن يختار شيعياً، وكل سني يفترض أن يختار سنياً، لأننا نكون بذلك قد استسلمنا للبننة العراق وثبتنا هذه المقاييس للإنتخاب، وهذه هزيمة كبيرة للبلاد وشعبه وثقافته أمام من يريد تلك اللبننة. عدا أصوات قليلة هامسة، كان الموضوع كله وتعليقاته تدور حول كيف يتكاتف الشيعة من أجل أفضل حكم شيعي ممكن، وعبر أحد القراء باختصار عن الخلل الشديد في القضية بتعليقه الساخر المحتج: "ياسنه,,,,هذا المقال لايعنيكم وليس ضروريا ان تقرأوه." وحتى "صديقي اللدود" الذي أختلف معه دائماً أقر بوجود الخلل، فكتب سلام كاظم: " اضم صوتي وللمرة الاولى الى صوت صديقي اللدود صائب خليل.. رغم حدته مع كل تبجيلي لسيدتي الدكتورة ناهدة التميمي.. الطائفية مرض خبيث يحتاج الى مثل وقفة الاستاذ صائب لكني اسجل على اخي صائب احيانا ديمقراطيته المفرطة .. نحن طامسون الى اذاننا بالطائفية وانتم لاتعلمون وربما فات اوان التصحيح..."

 

بدلاً من أن تعتذر الكاتبة كما كنت أنتظر، وتقول بأن الموضوع كان زلة قلم وليس مقصوداً، ثارت تدافع عن نفسها وعن طائفيتها أيضاً وبشكل مباشر وصريح هذه المرة، وكانت الغالبية الساحقة من التعليقات تدافع عن الكاتبة وعن "واقعية" ما كتبته.

 

ردود الفعل هذه دقت جرس خطر لدي، وفهمت أن معظم التعليقات كانت بدافع المجاملة والدفاع عن كاتبة رآها قراءها "تهاجَم" فهبوا للدفاع عنها، أما الموضوع وخطورته، فلم يكن ضمن الحسابات. المهم أن نتبادل الأحاديث بلطف ومودة، وإن كان لا بد، فنشير إلى الخطأ بنصف كلمة مؤطرة بالمديح والتقدير لإلا ينزعج المقابل، ولنكن بعد ذلك طائفيين براحتنا.

دفعني هذا إلى كتابة مقالة (1)  تحذر من كل من الطائفية ومن المجاملات في التعليقات في الإنترنت، والتي تهدد باغتيال الحقيقة وفرض جو كاذب سخيف بين الكاتب وقرائه، وأشرت في المقالة إلى مقالة الكاتبة واقتطعت ما جاء فيها من مقولات طائفية، وكذلك ما جاء من تعليقات القراء من مجاملات مغالطة للحقيقة، وهو الموضوع الذي ركزت المقالة على التحذيرمنه.

 

لكن خصومنا – الطائفية والمجاملات- أقوى مما كنا نتصور، ولا تعدم وسائل الدفاع عن نفسها، ولم يكن لمقالة أن تهزم أي منهما، دع عنك أن تحاول هزيمتهما معاً، فكانت ردود الفعل في الكثير منها تركز على شخصنة الموضوع، واضطر موقع إلى إزالة المقالة قبل وقتها لإيقاف المهاترات والتعليقات غير المناسبة، وضاع موضوعا الطائفية والمجاملات. وبعد فترة كتب الأستاذ سعيد العذاري مقالاً (2) يرد فيه على انتقادي لمجاملته، وتبادلنا الردود في موقع، ثم اكتشفت أن هناك موقعاً آخر كان النقاش فيه هابطاً تماماً، وأشبه بـ "فزعة عرب"، كمثال هذا التعليق من الإعلامي فراس حمودي الحربي الذي يقر أنه كتب في البداية رد "غير رصين" حتى قبل أن يعرف الموضوع:

"الاعلامي: فايروس المجاملة .... رد ودعلى الاستاذ صائب خليل

 استاذي المفدى الباحث الذي ينيرنا دائما سعيد العذاري

 ارسلت تعليق دون رجوعي لصلب الموضوع واقصد الجزء المهم في موضوعك ونزل لكن الحمد الله اني اتصلت بصائغنا الكريم وقلت له ارجو حذفه لأنه غير رصين ولم اتكد من الموضوع استاذي الباحث الجليل اقسم والله والله والله انك اكبر وارقى وانقى من كل كلام الذي يثار من هنا وهناك ومن خلالك ايها الجليل اقول الى الدكتورة النقية بنقاء العراق (اسم الكاتبة) تبقين الجبل العراقي الذي لا تهزه الرياح لكم العز والابداع لكم الابداع."

 

وهكذا لا نحتاج إلا إلى بعض الهتافات والهوسات وقليل من إطلاقات النار لإكمال الصورة الثقافية الإعلامية شديدة "الإبداع"!

 

يذكرني هذا التعليق وتعليقات أخرى بما أورده الدكتور علي الوردي من حادثة تعبر عن حالة عراقية، فيقول أن سيارة شرطة مرت بشرطي يتعارك مع إنضباط عسكري، فهجم الشرطة كلهم على الإنضباط دون أن يسألوا عن الموضوع. وفي هذه الأثناء مرت سيارة إنضباط فهجم من فيها على الشرطة دون أن يسألوا أيضاً! هكذا هو "الحوار" الثقافي العراقي بعض الأحيان: "فزعة عرب"، كل يقفز إليها بعد أن يحدد من هو صديقه الذي تبادل معه مجاملات ما يوماً، من "المتعاركين"، وقد يبدأ حتى بكتابة "رد غير رصين" دون أن يحتاج إلى سؤال عن الموضوع!

 

فأي موضوع وأي نقاش عن الطائفية يمكن أن يعيش في مثل هذا الجو "الحواري البناء؟". لقد كان الموضوع "من هاجم من"، أما الموضوع الأساسي، الطائفية، فلم يتطرق إليه إلا القليل مثل الشاعر "سعد الحجي"، وحتى سلام الذي حاول أن يدافع عني شخصياً، إنما فعل ذلك من خلال فصلي عن موضوعي "الخطأ"، والذي ركز على أنني أعتذرت عنه، معطياً عني صورة "التائب المسكين" الذي يجب مسامحته على تعجله وخطأه لأنه كفر حين هاجم الطائفية، ونسي سلام موقفه في تعليقه الذي أوردته اعلاه، لكنه لم ينس أن يكيل للكاتبة وتعليقها في اسفل المقال، أسمى آيات المديح بما ليس فيه إطلاقاً، بل بما يناقضه تماماً. أما كيف دافع الأخ سلام عني دون موضوعي، فلم يشر إلى أية طائفية في مقالة الكاتبة، كما فعل حين علق على موضوعها حينه، بل فضل أن يكتب: "الاخ صائب لا يعتمد الطائفية لكن خانه التعبير" أي أنني أنا الذي كنت اتحدث بشكل طائفي، ولكن بطريق الخطأ غير المقصود! لا يدري المرء هل يجب أن يغضب من هذا "السم في العسل" أم يضحك. يقولون في الغرب: "مع مثل هؤلاء الأصدقاء، لا يحتاج المرء إلى أعداء"، وهذا ما حصل لموضوعي من الأخ سلام.  

لقد كان الأخ سعيد العذاري مهذباً في مقاله وأكثر في تعليقاته، وانتهينا أصدقاءاً، لكن ما يثير القلق هو تعليقات القراء وكثيرهم من الكتاب، فبشكل عام كانت المجاملة سيدة الموقف للمرة الثانية، وفرض منطق السماح ببعض الطائفية باعتبارها واقعاً، وأن من يرى غير ذلك "بعيد عن الواقع"، وكأن من يكتب ضد التدخين، شخص غارق في اوهامه، مادام السرطان أمر "واقع"!

 

المثال الآخر لإنتصار الطائفية وجدته مؤخراً في مكان غير متوقع، تجده في مسار الحديث عن "التدخل الأجنبي في تشكيل الحكومة العراقية"، ولن نحتاج إلى البحث الكثير فقد نشرت المثقف في نفس الوقت استطلاع أجراه الموقع لمجموعة من الكتاب، حول الموضوع، (3) وكان معظم الحديث عن "دول الجوار"، بل أن بعض الكتاب اكتفى بهم دون الإشارة إلى أميركا كمتدخل أجنبي.

ويكتب الليبرالي راغب الركابي مقالاً بعنوان: "لماذا دول الجوار؟" (4) يقول فيه "...فمن يضع كرامة شعبه بيد الأغيار لا يصون الدار ولا يحمي العيال"  لكنه يوضح أنه لا يشمل أميركا بهؤلاء "الأغيار" ... "...فأمريكا حين تطلب ذلك تراعي مصالح العراق وسيادته وكيانه المستقل،".

 ويذهب سرمد الطائي، مدير تحرير صحيفة العالم، أبعد من ذلك فيطالب كتلة عراقية كبرى بضرورة الإتصال بأميركا والبحث عن "تكييف شرعي" لإرضاء أميركا عن الحكومة التي يشاركون بها. (5) فهل يحق لمثل هذا أن يلوم السياسيين الباحثين عن رضا دول الجوار، وهل يحق له الحديث عن السيادة الوطنية والكرامة؟

 

ما السر في هذا الأمر؟ وكيف يحتقره الجميع ويشبهونه بحق بـ "العهر السياسي" عندما يكون لـ "دول الجوار"، ويتم التساهل فيه عندما يكون الأمر مع أميركا؟ وهل ان العهر الحرام في الجوار، يكون حلالاً للبعيد؟ وكيف لايكتفي البعض بغض النظر عنه بل يذهب صراحةً إلى الدعوة إليه علناً؟ لماذا لا تنتفض هذه "الكرامة" العراقية إلا بوجه دول الجوار دون غيرها؟

 

من جهة أخرى لاحظت أن قرائي في موقع يدعم المالكي، كانوا شديدي الحماس لمقالاتي التي كانت تنتقد التدخل الأمريكي ضد المالكي لصالح رجلهم في بغداد، أياد علاوي، لكن بعد أن أعلنت اميركا بشكل غير مباشر، من خلال حملة إعلامية تزويرية، بأنها "غيرت رأيها" وصارت تدعم المالكي، فأن الكتابة ضد أميركا، حتى بتحذير المالكيين من خداعها لهم، صارت تستثير لدى القراء الإمتعاض وتستجلب التعليقات التي تغمز إلى "الصدامية"، على أساس ان الصداميين وحدهم ضد أميركا (وكل الحقائق تشير إلى وحدة تاريخية وحاضرة وعميقة الأواصر بين الأثنين) ونسي هؤلاء فجأة السفارة التي كانت تتآمر عليهم وتزور الإنتخابات، وهاجموا من يهاجمها باعتباره يكتب من منطلق "طائفي"!

من هذا المنطلق، من حقي أن أشكك أن بعض من تضامن معي منهم، لم يكن من أجل "عدم طائفيتي" و لا من أجل "الحق" بل لأن تلك "اللاطائفية" وذلك "الحق" كان في تلك اللحظة، صدفةً، يصب في مصالحه ومواقفه، فأحب هذا "الحق" وتلك "اللاطائفية". وبنفس الطريقة لي الحق بأن أشكك بأن ما يدفع البعض للإنتفاض على التدخل الأجنبي، ليس "الكرامة العراقية" و السيادة، بل لأن تلك "الكرامة" والسيادة تصب في مصالحه وتؤيد مواقفه في تلك اللحظة. وعندما تغير "اللاطائفية" و "الحق" و "الكرامة" اتجاهها، فسرعان ما يلعنها هؤلاء البعض ويبحثون بجد عن "تكييف شرعي" أو "أخلاقي" أو "براغماتي" من أجل ضرب نفس تلك "الكرامة" وذلك "الحق" و "اللاطائفية" التي تغزلوا بحبها قبل حين.

 

لكن ما علاقة الدفاع عن أميركا، أو التساهل معها في موضوع التدخل، بقضية الطائفية؟

سؤال وجيه، أعود إلى بضعة سنوات إلى الخلف لأبدأ الإجابة عنه، حين كتبت أني لاحظت أن أي حادث إرهابي يقع في العراق، يسعى الشيعة والسنة إلى ا لمسارعة باتهام الجانب الآخر بالقيام به. ولا يخطر ببال أي منهما أن يكون الإحتلال وراءه. بل لاحظت أن من يقول بهذه الإمكانية يواجه باحتجاج شديد من الطرفين، وحتى من العلمانيين الذين لا يعتمدون الدين والمذهب. الإحتجاج أصله أن القارئ المستقطب: الشيعي ضد السني والسني ضد الشيعي والمسيحي والعلماني ضد المسلم، كل من هؤلاء وجد "عدواً مفضلاً" يوجه إليه كل التهم. فهؤلاء حتى من كان منهم يشكك بالأمريكان والإحتلال، فليس من بين أي منهم من يعتبر الإحتلال عدوه الأول المفضل. وبالتالي فهو يريد أن يستغل أي حجة أو تهمة لتخصص فقط لعدوه الأول. وهو ينزعج من طرح الإحتلال على ساحة المرشحين للإرهاب، ليس بالضرورة لأنه يحب الأمريكان، وإنما لأنه يشعر أن هذا الطرح يحرمه فرصة من فرص ضرب "عدوه الأول المفضل". وهكذا يفلت الأمريكان الذين يكرههم الجميع ويشكك بهم، لأنهم ليسوا العدو المفضل لأية جهة، ويقتصر تبادل الإتهامات على الفشات العراقية فيما بينها. وكلما زاد المد الطائفي والإستقطاب، زادت حدة هذه الظاهرة وتمتع الإحتلال بـ "الحصانة" من الإتهام، بالرغم من أنهم الجهة الوحيدة المستفيدة من الإرهاب وبالتالي يفترض أن تتجه أول الأنظار إليهم. وهذا الوضع يتيح لهم إنجاز أعمال إرهاب أكثر بدون خشية أن يدفعوا ثمن ذلك من شكوك الناس بهم.

 

وبنفس هذا المنطق، فهناك لكل جهة "دولة جوار" مفضلة كهدف للإتهامات: إيران من جهة والسعودية من الجهة الأخرى. وهكذا يدور النقاش دائماً عن دول الجوار، وينسون الدولة التي أرسلت وزيرة خارجيتها في نيسان 2006 لإستبدال رئيس الوزراء المنتخب، والتي تجتمع مع اللجان البرلمانية والقضائية لساعات من الضغط من أجل حثها على أتخاذ قرارات لصالح كتلة دون أخرى. ولو أن دولة جوار قامت بمثل هذا لقامت الدنيا بحق ولم تقعد، لكن أميركا، خصم الجميع، ليست الخصم المفضل لأية جهة، وهي تتمتع بهذه الميزة التي تحميها من الإنتقاد إلا في الحالات الحادة، وهو انتقاد يتم نسيانه فور زوال تلك الحالة، بل يقوم نفس منتقديها بعد ذلك بحمايتها من النقد بتوجيه التهم إلى من يوجه الإتهام إليها!  ومرة ثانية، كما ازداد الإستقطاب والطائفية، من الطبيعي أن تزداد هذه الظاهرة قوة، ومثل الإرهاب، فالمستفيد الوحيد من الطائفية هو الإحتلال (وبعض اللصوص الكبار).

 

من هنا نستنتج أن الطائفية تتقدم، فهي بعد أن خسرت المعركة في الساحة العامة، وصار إعلان الطائفية سبة يبتعد عنها الجميع، صدقاً أو إعلاماً، فإنها صارت تسير بصمت في الأعماق، مثل "المية من تحت تبن". لكن علاماتها واضحة لمن يراقب الأمر بموضوعية وانتباه وحساسية. إن الآذان المرهفة السمع هي التي يمكنها التقاط  أصوات الخطر الذي تحمله النسمات الهامسة، وليس "الجبل الذي لا تهزه الرياح".

 

إنني أرى أن التخلص من الطائفية ليس واجباً وطنياً ولا دفاع عن تماسك الشعب بالدرجة الأولى بل اعتبره قبل ذلك هو دفاع شخصي عن قيمتك الإنسانية، وبهذا المعنى لا أحتاج إلى التأكد من أن الآخر سيفعل الواجب المقابل ويحارب الطائفية في نفسه، قبل أن أفعل ذلك في نفسي. صحيح أنني أتمنى من كل قلبي أن يشاركني المقابل موقف الإحتقار والرفض للطائفية، لكني لا أشترط ذلك لكي أقوم به أنا. فأنا أدافع بذلك عن قيمتي الإنسانية ومبادئي حتى إن قرر المقابل التخلي عن قيمته، رغم أسفي لذلك.

إن كان لمحاربة الطائفية هذه القيمة الكبيرة، فليس من المعقول أن يضحى بهذا الهدف، أو يميع أو يتم التساهل به، من أجل مجاملات فارغة يتبادلها المثقفون فيما بينهم. فيجب أن تكون هناك طرق أخرى لرفع معنويات المقابل وإسعاده، غير نحر الحقائق الخطيرة.

 

في عام 2006 كتبت مقالاً بعنوان "المصباح الوحيد في الشارع" (6) ملخص فكرته أنني سأبقى أبحث عن الحل للعراق من خلال افتراض أن الطائفية لم تتمكن منه، حتى لو تزعزعت ثقتي بهذه الفرضية مستقبلاً، فالفرصة الوحيدة للنجاة هي في ذلك الإحتمال، وعلينا أن ندافع عنه ونفترضه حياً، بل وأن نعيد له الحياة إن مات، وحتى إن اضطررنا أن نخلقه خلقاً، إن لم يكن موجوداً على أرض الواقع. إنني أرى الطائفية تتقدم في نفوسنا في الخفاء، لكني ما أزال أبحث عن المفتاح تحت المصباح الوحيد في شارع الوطن الذي يلفه الظلام.

 

.............................

هوامش

(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=18880

(2) http://www.alnoor.se/article.asp?id=93512

(3) http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=19634

 (4) http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=19697

(5) http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=19641

(6) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=61732

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1548 الاحد 17/10/2010)

 

في المثقف اليوم