قضايا وآراء

تاريخانية الفكر الإسلامي لدى محمد أركون : الدائرة في مواجهة الخط / علاء اللامي

لعل واحدا من أهم المفاتيح المفاهيمية والمنهجية في فكر الراحل هو القول بدائرية العلاقة بين الفكر واللغة والتاريخ. صحيحٌ أنه لم يُفرد مؤلفا خاصا بهذه العلاقة الإشكالية ومشمولاتها رغم ما تحتويه من مضامين مفصلية، ولكننا في الواقع نعثر له على وقفات مهمة ومتعددة بهذا الخصوص بين تضاعيف مؤلفاته بل يمكن القول أن هذه الفكرة الجدلية عن هذه الدائرة الثلاثية حكمت عميقا أغلب، وربما كلَّ إنتاجه الفكري.

إن القول بهذه العلاقة ينفي ويعاكس تلقائيا القول بنقيضها أي بخطيتها، بتراكميتها العفوية، بسيلانها على غير هدى، كما إنه يرفض القول بسببيتها الظاهرية -إن وجدت -  والتي أريد لها أن تكون الركيزة التفسيرية الوحيدة أو الأهم لكل إشكالات الفكر الإسلامي الكلاسيكي و المعاصر، لتكون الحيز التعارضي المنتِج بين ما هو تاريخي جدلي و ما هو نمطي منقطع عن تاريخه الخاص.

إن أركون يصرح بهذه المعاني في مواضع كثيرة من مؤلفاته الرئيسية و من أبرزها مقدمته للترجمة العربية لكتابه التأسيسي " تاريخية الفكر العربي الإسلامي / ترجمة هاشم صالح / دار الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي) حين يستنتج أن الأخذ بهذه الدائرية التفاعلية ورفض الخطية والسببية سيؤكد تاريخانية اللغة العربية بمعنى أن لهذه اللغة، كسائر اللغات الحية وغير الحية، تاريخها الخاص، وأن لها منظومتها المفاهيمية والتي يسميها ( نظام الدلالات الحافة والمحيطة أي الدلالات الثانوية المحيطة بالدلالات الأصلية/بالفرنسية: لو سيسْتَم دو كونوتاسيون[1])  تلك المنظومة المرتبطة بالنزاعات الأيديولوجية بين القوى الاجتماعية في التاريخ الفعلي. يضرب أركون لقارئه مثالا هنا، هو  واقعة سيادة المذهب الأشعري في أصول الدين، وتَغَلّب المذاهب الفقهية المعروفة الأخرى في أقطار إسلامية عديدة، تلك السيادة التي لم ينتج عنها تقديم ما يسمى أحيانا " دين الحق " أي المذهب السائد كأرثوذكسية أيديولوجية متكاملة لجمهور المؤمنين،  فيما يخص العقائد والشريعة بغض النظر عن تعارضها مع ما أنتجته المذاهب الأخرى، ليتم تكريسها بصفتها تلك. يستنتج أركون – بناء على ذلك – واقع الحال التاريخي التالي: سار تاريخ الفكر الإسلامي طوال قرون وقرون سيرا متوازيا، فاصلا وعازلا بين أرثوذوكسية " أهل السنة والجماعة " السُنية، وأرثوذوكسية "أهل العصمة والعدالة " الشيعية، وأرثوذوكسية المُحَكِّمة الشُراة الخوارجية. هذه الأرثوذوكسيات" الأصوليات النسقية " الثلاث الكبرى، ظلت -كما يرى أركون- تسير كُلاً في قالبها التاريخي وبمعزل عن الأخريات.كما أن القول بهذا المفهوم الاستراتيجي لا يعني – وقد حرص على تأكيد ذلك في أكثر من مناسبة – الفصل بين مكونات ثلاثية الفكر واللغة والتاريخ الدائرية ( لأنني أعرف أن اللغة والفكر في تفاعل مبدع ومستمر، وكلاهما يستمد غذائه المشترك وديناميكيته الخلاقة من الممارسة الوجودية " الحياتية " اليومية أي من التاريخ الفردي والجماعي معا/ ص 8 مقدمة المصدر السابق وسنرمز له بـ م س ) ورغم أنه واظب على تقديم فهمه الخاص، ومعالجاته التفصيلية والمسهبة، في الإسلاميات الكلاسيكية والمعاصرة، وفي العلمانية ومقترباتها، دون مداهنة أو مجاملات مناسباتية لمناوئيها من حملة الخطاب السلفي السائد عربيا. ولكنه ميَّز نفسه عن باحثين عرب معروفين اختلط فكرهم "العلماني المتطرف" بفكر المعادين للإسلام والفكر الإسلامي أيا كان،و لأسباب أيديولوجية وسياسية واجتماعية، حتى بات من العسير فصل كتابات هؤلاء  عن كتابات أساتذتهم وأقرانهم الغربيين سواء كانوا مستشرقين أو مخططين إستراتيجيين في المؤسسات الثقافية الرسمية أو دراسي تاريخ وديانات ينطلقون من دوافع أورومركزية صريحة بل عنصرية أحيانا. إن هؤلاء الذين تحفل صحف ومجلات عربية رسمية أو شبه رسمية "ثرية" بكتاباتهم،  ينطلقون غالبا من أراء وأحكام سلبية مسبقة، تعتبر الإسلام، دينا وحضارة،  والفكر الإسلامي القديم والحديث، كُلاً واحداً مستغرقا بالسلبية والسلفية الإرتكاسية والرجعية السياسية، محاولين تفسير حالة العالمين العربي والإسلامي البائسة الراهنة، انطلاقا من هذه السلبية الدينية والحضارية المزعومة في صورتها السلفية الأكثر فظاظة "السلفية الجهادية اللادنية / نسبةً لابن لادن" لا العكس، بل إن أركون لا يستثني العلمانية الغربية " المتطرفة" والمنهجيات المدرسية المنطلقة منها لدراسة سواها أو لدراستها هي بالذات، من نقده العميق والجذري، متجها إلى، ومنطلقا مما يمكن أن نطلق عليه علمانية مناضلة متفاعلة مع واقعها وخصوصياته العربية الإسلامية ومفارِقة للعلمانية في زيها الفرنسي الروبسبيري المتطرف وللاستشراق النمطي الملوث حتى النخاع  بتمظهرات الأورومركزية المعاصرة الفاقعة.

 من نقاط الضعف والمؤاخذات المنهجية التي يسجلها أركون على الجهاز المفاهيمي الذي يدعوه "الاستشراقي الغربي التنقيبي "، صمت هذا الجهاز والآخذين به من مستشرقين ومفكرين غربيين، على التخصصات والتفرعات والتصنيفات ذات الأبعاد والمضامين  الأيديولوجية وغير المعرفية الموروثة من العقل الإسلامي الميتافيزيقي في العصر الكلاسيكي، والتي "تصادفت / والمفردة لأركون " مع تصنيفات وتخصصات مماثلة في الغرب الأوروبي ذاته، وخصوصا في ميدانَيْ الفلسفة والثيولوجيا "علم الكلام وأصول الدين ". ولذلك دعا إلى دراسة معمقة بهدف كشف وسبر أغوار ومعرفة أسباب هذا التصادف ومعرفة ظروفه الأيديولوجية والثقافية لمعرفة وكشف التواطؤ السري ( والعبارة لأركون أيضا/ ص13 م س) بين علم الإسلاميات الغربي " الاستشراق " وأنماط التفكير والفرضيات والتحديدات التي رُسِخَت في الغرب من قبل الباحثين المشتغلين في علم اللاهوت والميتافيريق المسيحي الكلاسيكي والمنهجية الفيللوجية" علم دراسة النصوص المقارن" والتاريخانية ولعل المثال الذي ضربه أركون في هذا الميدان وهو الجزء الأول من كتاب  " تاريخ الأدب العربي " المعتمد في جامعة كمبردج يوضح مرامه بشكل دقيق وعياني.

كان أركون يخشى سوء الفهم، و من القارئ العربي خصوصا، ولعله كان على اطلاع على الزوابع اللفظية التي أثارها بعض المعلقين والقارئين المنطلقين من خلفيات تكفيرية سلفية جاهزة لمؤلفاته ولمؤلفات زملاء آخرين له من أمثال الجابري وأبو زيد، ولذلك كان يدعو القارئ عامة والعربي بشكل خاص إلى ما يسميه "حسن الظن " بالمؤلف والمفكر المشتغل على هذه المنظومات والأجهزة المعرفية الحديثة، والتي ليس من السهل استيعابها واستنباتها في بيئة ثقافية لها من المواصفات ما للبيئة المعرفية والثقافي العربية دون أن يمر من الوقت ما هو ضروري ليتحقق ذلك الاستيعاب والاستنبات المعرفي. ولكن، هل كان حسن الظن كافيا لتسريع السيرورة،  وتكريس المعادلة الفكرية النقدية الجديدة؟ لا نعتقد ذلك، ولهذا كان يطلب من مترجميه وشراحه، وخاصة تلميذه ومترجم أغلب أعماله هاشم صالح، أن يكثروا من الشروح والهوامش والتعريفات للنصوص التي يقدمها على أمل أن يسهل عملية استقبالها.

ولكنه مع ذلك، لم يكن متساهلا أو مداهنا في ميادين معالجاته وأبحاثه الفكرية، وخصوصا تلك الأكاديمية والتخصصية البحتة في علوم  الانثروبولوجيا والإلسنيات وما إلى ذلك على اعتبارٍ أساسي كان يؤمن به عميقا وهو عدم الخلط بين ما هو معرفي "إبستمي" وما هو أيديولوجي نمطي منقطع وطارئ حتى بلغ به الأمر مبلغا جعله يكتب ذات مرة بلهجة التحذير ما يلي  ( لا يحق لأحد، وخاصة إذا كان عالما راسخا في العلوم الدينية على الطريقة المستقيمة السائدة في كل مذهب من المذاهب الأرثوذوكسية المعروفة أن يعقب أو يتدخل في مناقشة، ناهيك عن تكفير الآخرين، ما لم يحط علما بما قصده علماء اللسانيات المعاصرون بمفاهيم وأدوات  نظام الدلالات الحافة والمحيطة كما فعل الغزالي في كتابه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة"...ص 9 م س ) ليضرب مثالا على سوء الفهم المأساوي الذي يحصل نتيجة ذلك الخلط وعدم دراية ومعرفة المعقب بتلك العلوم الحديثة بما حصل حين  ترجم المفكر الإسلامي عادل العوا عبارة " لو كوران إي تن ديسكور دي ستركتشر ميتيك/ ص10 م س[2] " الواردة في كتابه " الفكر العربي" إلى العربية كالتالي : القرآن خطاب أسطوري البنية . فقد هوجم هذا المفهوم وأدين هو ومن رواءه، مع أن الترجمة سليمة لغويا، والسبب هو أن كلمات : خطاب، أسطوري، بنية، لم تكن مما هو مُفَكَّر فيه علميا وكما ينبغي في العربية من ناحية، ومن أخرى، لأن المُدين والمهاجِم يستقي دلالاته من مصدر أوحد هو فقه اللغة التقليدي الميت لا من علوم الإلسنيات الحديثة، ومن التاريخ الروائي الخطي التراكمي لا من التاريخ الفعلي الحقيقي المتفاعل مع الفكر واللغة ديالكتيكيا.

إن أركون لا يريد –كما قد يفهم البعض- بكلامه وتحذيراته هذه، منها تحذيره لقارئ نصوصه باللغة العربية فقط من إصدار الأحكام القطعية، أن يجعل ميدان الدراسات الإسلامية والتاريخية وغيرها حكرا على الأكاديميين المتخصصين بالعلوم الحديثة المذكورة هنا، بل هو يحاول أن يحدد سياقات  ومَدَيات وأدوات النشاط الفكري في هذه المجالات وعدم الخلط بين المكونات المختلفة المضامين لأننا في هذه الحالة لن نكون بإزاء نقاد حقيقيين ومشاركين في عملية فكرية تفاعلية مشروعة ومطلوبة بل بإزاء مجموعة أشخاص ثرثارين  يحاججون – على سبيل المثال لا التهكم- عالمَ فلكٍ متخصصٍ في علمه فيما هو  يحاول إقناعهم  بكروية الأرض بالقول : إن كانت  أرضك كروية فلماذا لا نتساقط نحن عنها؟ 

في مناقشته لمفهوم " العقل الإسلامي الكلاسيكي " قد نجد مثالا أكثر وضوحا وكثافة في آن على منهجية أركون المخترقة لطبقات الموضوع ولطريقته في استعمال مفردات وأدوات تلك المنهجية:

 إنه يبدأ محاولته بإقرار أن المطالبة بوجود عقل خالد منسجم بشكل مسبق مع تعاليم الوحي الإلهي كانت موجودة دائما، ليس في المدارس الفقهية والفكرية الإسلامية فحسب،  بل في الديانتين الإبراهيميتين الأخريين اليهودية والمسيحية أيضا ( حيث يبدو العقل متعاليا وخاضعا لتحديدات كلام الله المعنوية وإكراهاته في آن معا . ص 65 م س) وحين ينغمس أركون في محاولته هذه فهو يلجأ إلى أسلوب خاص جدا في اختيار الوسيلة من خلال تجريبها، فهو يبدأ بأن يمطرنا بوابل أسئلة من قبيل :كيف يمكن تحديد هذا العقل ؟ أين يمكن اقتناصه؟ هل يمكن العثور عليه في كتاب أو نص معين؟ هل يجوز أخذه من هذه المدرسة أو ذلك المذهب؟ ليضع أمامنا على الطاولة ثلاثة خيارات : فهو إما أن يبدأ بدراسة موضوع العقل الإسلامي الكلاسيكي بدءا من لحظة نزول "القرآن " وبدء حركته التاريخية وتتبع مسار هذه الحركة خلال القرون الأربعة التالية، وإما – وهذا هو الخيار الثاني -  أن يقوم  بذلك عبر استعراض مفاهيم مفردة "عقل " في جميع النظم والمدارس الإسلامية ليتم بعد ذلك تحديد واختيار أجدرها بالصفة والتوصيف، أو- وهذا هو الخيار المنهجي الثالث-  أن يختار نصا " كتابا أو مؤَلَفا " ذا مساس بموضوع العقل الإسلامي لينطلق منه بالدراسة نحو الأمام أو الخلف التاريخي. ولأن الخيار الأول يعني الأخذ بالمنهج التاريخي  الخطي كما تكرس في أمهات الكتب القديمة كتاريخ الطبري وابن كثير وسواهما، الأمرُ الذي لن ينتج منه شيئا على الصعيد العلمي  غير رصف الوقائع والأخبار المرصوفة مسبقا، ولأن الخيار الثاني يؤدي إلى كسر وحدة أنظمة الفكر التي نستهدف وظائفَها وتكويناتها بالدراسة، وهكذا فلا يبقى أمامه سوى الخيار الثالث ليأخذ به، وليقع اختياره على نص تراثي يصفه بـ " المؤلَف المعياري  الرائز" ألا وهو رسالة الإمام الشافعي، ليتبين ويبين من خلال دراسته لها كيف أن ( علم أصول الدين كان قد تبلور لدى الشافعي لأول مرة بشكل متماسك، يتيح لنا أن نستخلص مفهوما فعالا من الناحية التاريخية والتأملية للعقل الإسلامي الكلاسيكي .ص 67 م س ) وعلى امتداد صفحات وصفحات يلاحق أركون مفردات وثنايا المنظومة الفكرية التي تستبطنها رسالة الشافعي،  والتي تتمحور على ميادين الفلسفة السياسية و إبستملوجيا القانون، والروابط بين الحقيقة والتاريخ، وبين التاريخ واللغة والقانون في آنٍ معا، مقدما عبر هذا المسار التحليلي خلاصات وتأملات وتساؤلات واستنتاجات تعميمية وأخرى غير تعميمية  مهمة تشكل علامات فكرية جديدة ومفيدة في ميدان الدراسات الإناسية " الانثربولوجية " والألسنية " السيموطيقية" الخاصة بالإسلاميات.

  ربما يكون محمد أركون قد لخص بنجاح هدفه الأهم من محاولته الفكرية والبحثية التي استغرقت  حياته العلمية كلها كما عبر عن ذلك في مؤلَفه " أين هو الفكر الإسلامي / دار الساقي" حين صرَّح  موضعذاك برغبته  أولا في زحزحة الإشكالية الإسلامية الخاصة بالقرآن من أجل التوصل إلى مقاربة أنثروبولوجية للأديان المدعوة بأديان (الوحي). كما أراد – ثانيا - إجبار الفكرين، اليهودي والمسيحي، على القيام بالزحزحة نفسها من أجل دمج البحث القرآني داخل بحث مشترك حول المكانة الأنثروبولوجية للخطاب الديني الحامل للوحي. وكما أراد – ثالثا - تبيان الأضرار الناجمة عن اختزال الظاهرة الدينية إلى مجرد صيغ عابرة وزائلة واستلابية، ربما يكون محمد أركون قد نجح إلى هذه الدرجة أو تلك في فعل ذلك ونيل تلك المرامي البحثية على مستوى النتائج والخلاصات، غير أن الأكيد الذي لا يساورنا فيه شك هو أنه خَلَّف وراءه نتاجا فكريا جذريا وتأسيسيا لم يدخل حتى الآن الميادين الفكرية المنتِجة و هو ما تحتاجه الحياة الثقافية العربية الراهنة التي سيضرب القحط الفكري والمعرفي أطنابه فيها بغيابه الآسي وغياب زملائه الراحلين معه.

* كاتب عراقي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1557 الثلاثاء 26/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم