قضايا وآراء

ما الذي يجعل القصة القصيرة قصيرة؟

 فالحكواتي، كما تخيله ادوارد فورستر، يسرد ببساطة. وإن لم يكن محظوظا بما فيه الكفاية، ولم يتمكن من جذب انتباه السامعين،فربما لا ينجو من القتل أو الافتراس.

كانت الحكاية حدثا وإثارة، متوقعة ويمكن التنبؤ بها، وقبل كل شيء كان لا بد من توفر نهاية مرضية للقصة كما هو متضمن في الثقافة الشفوية، وكما كان سائدا في السرد النثري القصير المطبوع حتى نهاية القرن التاسع عشر الذي حدث فيه تغير ما، وكان السؤال : ما الذي يجعل القصة القصيرة قصيرة؟

 

 يقدم هذا الكتاب مجموعة واسعة من كتاب اللغة الانجليزية ، الذين ـ بطريقة أو بأخرى، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة ـ طرحوا هذا السؤال، وكان لأعمالهم دورا حاسما في تشكيل فهمنا عن القصة القصيرة الحديثة، وقدراتها. يأتي هؤلاء الكتاب من بلدان متنوعة: انجلترا، واسكتلندا، وأيرلندا، وأستراليا، ونيوزيلندا ، نيجيريا وكندا (لأسباب تتعلق بالمكان فإننا لم نتعرض لكتاب من الولايات المتحدة، ويمكن للمهتمين، الرجوع إلى المجلد الكامل من هذه السلسلة لمارتن سكوفيلد، والذي يعرض للقصة القصيرة الأمريكية) والذي يربط هؤلاء الكتاب يمكن تلخيصه في كلمات الكاتبة الانجلو ايرلندية اليزابيث باون : لقد فهموا "قصر" القصة القصيرة بوصفه أمراً مختلفاً عن ـوأكثر من ـ عدم الإطالة ، وبكلمات أخرى، قيمة ايجابية.

 

 ما أشارت إليه بوين عندما أقدمت على هذا التمييز في استهلالها " مدخل إلى كتاب فيبر عن القصص القصيرة الحديثة - 1936 " هو التغيير الذي حدث في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، التغيير، كما رأته، كان الإشارة إلى دلائل تحرر القصة القصيرة من اسر الرواية والخيال الروائي . حتى ذلك الوقت، كان ينظر إلى القصة القصيرة على أنها رواية مكثفة تعتمد المهارة في كتابتها على قدرة الكاتب في ضغط آلية الحبكة في إطار مصغر من بضعة آلاف من الكلمات. كانت القصة القصيرة دمية البيت ، تصغير لعالم واقعي متكامل .

ومع ذلك فان الذي حدث فجأة لكتاب مثل هنري جيمس هو انطباعه عن أن الكتابة القصيرة لا تعدو كونها تقليص فضاء الرواية إلى حيز صغير جدا، أكثر من كونها تدبير استراتيجي متقن، أي أنها تقليص للمواد التي يعتمد عليها في تماسك السرد واستمراريته والتعامل مع هذه الاختزالات الاهمالات التكتيكية للإيحاء بمعنى ضمني بدلا من التصريح به . ما رآه جيمس وآخرون هو أن القصة القصيرة يمكن أن تحقق الثراء والتعقيد أو "التعدد" إذا ما استخدمنا وصفه نتيجة لقصرها وليس على الرغم من قصرها .

جيمس نفسه كان متحمسا لملاحظة هذه التحفظات والاهمالات في كتابات الآخرين أكثر من تطبيقها في كتاباته.ومع ذلك فان المزاوجة بين التقصير والتعقيد ـ فن أن تقول قليلا لتعني كثيرا ـ استحوذ على اهتمام الأدباء الرواد الناشئين في منعطف القرن العشرين وأصبح أساس التجريبية الحداثية في الكتابة القصيرة.

لكن هذه الخصائص المكتشفة حديثا في القصة القصيرة كانت دائما اكبر من مجرد شكل أو تقنية . وهو ما توصل إليه جيمس من خلال قراءاته لكتاب روس وأوربيين مثل ايفان تورجنيف و جي.دي موبسان كما توصل أيضا إلى أن هؤلاء الكتاب أربكوا (الأخلاقيين) بين قرائهم الناطقين بالانجليزية. وبكلمات أخرى وصف جيمس العلاقة الكامنة بين الغموض والمراوغة و الإضمار والشكل غير الإرشادي للقصة وانهيار بعض المعتقدات الثقافية والأخلاقية.

اتفق الكثيرون مع جيمس من بينهم جالبرث تشيسترتون الذي اعتقد أن جاذبية القصة القصيرة هي انعكاس لتسارع وهشاشة الوجود الحداثي. وخلال القرن العشرين واجهتنا فكرة أن القصة القصيرة هي استجابة أو تكيف، يتماثل بصورة أو أخرى مع تشظي الشخصية الاجتماعية تحت ضغط التطور الصناعي والتكنولوجي. وربما كان هذا أكثر وضوحا في فترة الحداثة، لكن الكتاب المعاصرين يميلون للادعاء بان القصة القصيرة هي معيار مثالي لتجربة الحياة العصرية. يقول الكاتب الجنوب إفريقي نادين غورديمر في العام 1968:

قد يتجاوز الروائي التسلسل الزمني، وقد يقذف السرد بعيدا، ذلك أن شخصياته في متناول يد القارئ وهناك اتساق في العلاقة عبر تجربة لا تستطيع أن تنقل نوعية الحياة البشرية حيث التماس مع الواقع لا يعدو كونه ومضات ضوء في الداخل والخارج أحيانا هنا وأحيانا هناك في العتمة.

أما كتاب القصة القصيرة فإنهم يرون من خلال الومضات ؛ إذ أن هناك الفن الوحيد الذي يمكن التأكد منه اللحظة الراهنة، وبمثالية عالية. لقد تعلموا أن يفعلوه من دون الدخول في تفاصيل سابقة، أو في أحداث ما بعد اللحظة الراهنة .

هذا النوع من القصر يعتبر قيمة ايجابية، من منظور أن الشكل إذا ما تعاملنا معه بطريقة صحيحة يستطيع أن يجسد حالة تجريبية من الحداثة (الشعور المزمن بالشك، والتنحي التاريخي والعزلة الاجتماعية).

في الاعتبارات التقليدية للقصة القصيرة (بوين، باتيس، وفرانك اوكونور) يواجه المرء تكرارا فكرة أن القصة القصيرة تتسارع مع واقع الحياة المعاصرة .باتيس، على سبيل المثال، ناقلا عن بوين، يدعى أن الشكل هو"طفل هذا القرن" كما السينما تماما.

السرد في القصة القصيرة كما في الفيلم لا يجري بإطالة الشروحات والتوضيحات، كما نفعل في الرواية، ولكن عن طريق سلسلة من الإيماءات الضمنية الحاذقة واللقطات السريعة واللحظات الفكرية، فن يكون فيه الإسهاب وفوق ذلك التفسير فائض وغير مجدي وممل .

وبهذا الخصوص تكون القصة القصيرة هي الشكل الأدبي المتكيف بسهولة مع تجربة الحداثة وتسارع وتيرة الحياة "التي تمضي بسرعة كبيرة نحاول جاهدين اللحاق بها والتنبؤ بأحداثها.

ولهذا السبب يعتقد باتيس أن القصة القصيرة قد أدت دورا بارزا في الأدب الأمريكي في عصر يتحدث فيه الناس ويسيرون بل ويفكرون أسرع من أي وقت مضى.

كرر فرانك اوكونور في كتابة "الصوت المنفرد " فكرة أن الكتاب الأمريكيين أعلو من شأن القصة القصيرة إلى مستوى جعلها الشكل الفني القومي، يعتبر كتابه هذا علامة بارزة في نقد القصة القصيرة عند الكثيرين . اعتبر اوكونور -تماما كما باتيس- أن القصة القصيرة فناً حداثياً أساسيا متوائماً مع الظروف المعاصرة – مع الطباعة والعلوم والحرية الدينية ومقاومة الصيغ التقليدية، شكلا أدبيا باقيا مادامت الثقافة مستمرة في مواجهة هجمة " الحضارة الجمعية" .

يزعم اوكونور أن هيمنة القصة القصيرة على المشهد الأدبي في القرن العشرين يعود لأنها نجحت في تجسيد " موقفنا الخاص من الحياة" هذا الموقف المتفاعل مع تجربة التفكك الاجتماعي في العالم المعاصر والذي أطلق عليه" وعي الإنسان الحاد بعزلته"

يرى اوكونور أن افتتان القصة القصيرة بالفئات المغمورة والهامشية هو انعكاس لمجتمع لا يملك وظيفة أو هدفا أو أجوبة. وسواء اتفقنا أم لم نتفق على أن القصة القصيرة مجهزة بفرادة وخصوصية للقيام بهذا العمل الثقافي كما يفترض هؤلاء المعلقين، إلا انه من المؤكد أن الشكل بقي صالحا وحيويا في القرن العشرين، وأنها شكلت وسطاً حيوياً جديداً وإبداعياً للكتابة السردية المعاصرة.

يعكس كتاب مدخل إلى القصة القصيرة باللغة الانجليزية في تنظيمه الجوانب الرسمية والقرائن التي لازمت تطور القصة القصيرة ليكشف تفاعل هذه القرائن والجوانب مع بعضها .

 كما يعرض في كل فصل من فصوله، تحليلا لقصص قصيرة مع تعليقات ونقد الكتاب لها، مستعرضا ما حدث للغة وبنية وشكل النصوص كما يركز على المساقات الثقافية والاجتماعية والمادية التي أنتجت فيها هذه القصص ومساهمة القصة القصيرة في بلورتها.

يقع الكتاب في أربعة فصول. يتناول الفصل الأول صعود القصة القصيرة في القرن التاسع عشر وظهور أعمال إبداعية وحاسمة تعكس الحالة الأدبية الجديدة لهذا الشكل.

فيما يتناول الفصل الثاني عصر الحداثة . فقد مثل عصر الحداثة في كثير من الجوانب مركز الجذب للقصة القصيرة وليس فقط في مجال النقد الأكاديمي .

 بالنسبة للعديد من القراء فان أسماء مثل جيمس جويس وكاثرين مانسفيلد هما أول ما يتبادر إلى الذهن من قائمة كتاب الشكل الحداثي فيما تشكل إبداعاتهم لاسيما "عيد الغطاس" المبادئ الأولى التي يطمح كتاب السرد الخيالي القصير في الوصول إليها. ناهيك عن المحترفين الذين علموا الكتابة الإبداعية في أنحاء العالم الناطق بالانجليزية

 يتعرض الفصل الثالث لمرحلة ما بعد الحداثة ، إذ تم استيعاب الشكل في سياقات كتابية متنوعة وأدى دورا أساسيا في الدراسات الأكاديمية الأدبية . كانت هذه فترة الجملة الكلاسيكية في قصص بيتس، بوين، اوكونور وسين أو فولين، حيث كان الشغل الشاغل لهؤلاء الكتاب هو كيفية التعامل مع تراث الحداثة، شهدت هذه الفترة أيضا دمج الجماليات الحداثية في تقييم وممارسة النقد الأكاديمي وتأسيس الكتابة الإبداعية في الجامعة. وكان ذلك واضحا في كتابات إنجيلا كارتر وايان ماكوين .

يتوسع الفصل الرابع ليتناول كتابا ناطقين بالانجليزية خارج بريطانيا وايرلندا، ومرة أخرى:

فان العلاقة بين النص والسياق تأخذ حيزا كبيرا من الاهتمام كما يتناول هذا الفصل قضية الدور المهيمن غير المتناسب الذي لعبته القصة القصيرة في الثقافات التي عانت من التمزق الاستعماري

 

...............

*مقدمة كتاب: مدخل إلى القصة قصيرة باللغة الانكليزية*

*مطبوعات جامعة كامبريدج

978-0-521-86259-2 -- كامبريدج

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1092  الاحد 28/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم