قضايا وآراء

موت وانبعاث الأيدلوجيات

 الأقوى من حيث النفوذ السياسي والتأثير في حركة الاقتصاد العالمي والأكثر انصياعا لتنفيذ رغبات وتطلعات مواطنيها المشروعة من جهة، والأكثر انفتاحا على أيدلوجيات تغايرها في الأصول والفروع من جهة اخرى.

 ووفقا لهذا التصور تظهر المنظومة الغربية على رأس قائمة الأيدلوجيات الفكرية الأكثر صمودا في وجه المتغيرات التاريخية الراهنة والأكثر قدرة على صهر الأيدلوجيات الفكرية العالمية الصغرى في بوتقتها الثقافية أو احتوائها وتفادي أخطارها المحتملة على تغيير نمط وإيقاع الحياة لديها بسبب ما تمتلكه هذه الأيدلوجية من قوى سياسية واقتصادية هي الأقوى في العالم، وبريق ثقافي ناعم هو الأكثر سطوعا واستلابا لعقول قطاع عريض من الرأي العام في العالم.

 وأما الصورة التي تقع في ثنايا الصورة المتقدمة فتقطع بان العصر الذهبي للأيدلوجيات الفكرية ضيقة الأفق وذات الإمكانيات المادية البسيطة قد أصبح جزء من الماضي الذي لا يُغري الكثيرين بالعودة إليه، لاسيما وان هذا العصر قد ارتبط تاريخيا بالثورات والانقلابات الفاشلة في مختلف أرجاء المعمورة فإذا، وقد نقلت سجلات التاريخ ان الأيدلوجيات المتطرفة عندما يحالفها النجاح في قيادة بلد ما فان أول ما يخطر في بال الثوار هو تصنيع أنظمة دكتاتورية لا تتقن عملا أكثر من تفجير النزاعات وخلق الحروب والفتن وخنق آراء ورغبات الشعوب المحكومة تحت حجج الوفاء الى ايدلوجية مزعومة.

كما إن وضع هذه الصورة الأخيرة في إطار التجارب الثورية الواقعية يقودنا إلى دحض دعاوى الفرقاء السياسيين الرامية الى إيهام الجمهور المستهدف بان من يختلف معها من الفرقاء الآخرين يمثل انشقاقا عن الأيدلوجية الأم لاسيما مع استمرار ظاهرة الانشقاق داخل هذه الأيدلوجية كثيرة المواليد، الأمر الذي يؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك انتفاء وجود مرجعية فكرية واحدة تربط بين الزعماء السياسيين المختلفين جذريا في بلد من بلدان العالم الثالث بل يدحض بما لايدع مجالا للشك أيضا دعاوى الانتماء المزعوم من قبل كل فريق منافس إلى فكرة كلية معينة اللهم الا اذا كان المقصود من هذا القول الانتماء الى فكرة المصلحية والوصولية.

 وقد يكون إحساس المجتمعات المتطورة بوفاة الأيدلوجيات الفكرية التقليدية على يد مسوقيها من السياسيين عبر التاريخ الإنساني هو ما دعاها إلى السعي الدؤوب نحو تأصيل مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء المجتمع المدني ونبذ دعاة الأيدلوجيات المتناحرة لاسيما الذين يتشابهون في كل شيء ماعدا الإيمان بهذا الزعيم والكفر بمن سواه، وبهذا الشكل يمكن لنا تقرير حقيقة انه كلما كان نشاط المجتمع المدني في بلد ما اكثر حرية ورواجا وفاعلية كلما كانت الأيدلوجية ضيقة الأفق تعيش أزمة وجود وحالة كساد في معظم شرائح ذلك البلد.

 بمعنى آخر فان العلاقة بين الانفتاح على حياة المجتمع المدني من جانب والأيدلوجية المتطرفة حتى في الدول العظمى من جانب آخر هي علاقة عكسية كما ان العلاقات الاجتماعية ستبدو اكثر انسجاما بالمقارنة مع المجتمعات التي مايزال الاحساس لديها بما سميناه موت الأيدلوجية إحساسا ضعيفا وبالتالي فان هذه المجتمعات ماتزال عرضة لتفكك أنسجتها الاجتماعية مع كل تجربة انشقاق سياسية جديدة؛ اذ ان الانشقاق كمفهوم في المجتمعات الاقل تطورا وحداثة يستدعي التشهير والتسقيط بين الخصوم وبالتالي بين جماهير اؤلئك الخصوم فيما هو في المجتمعات المتمدنة يمثل مظهرا من مظاهر حرية التعبير التي يكفلها الدستور ويقرها النظام السياسي الحاكم.

ان ما يجعل جميع السلطات الحاكمة الى جانب بعض الاحزاب المعارضة في دولنا تمارس نوعا من التعتيم والتكتم حول تنصلها من أيدلوجياتها السابقة يكمن في حقيقة ان الأيدلوجية تعيش في أوساط الجماهير والمثقفين المستقلين وتموت بين النخبة السياسية التي تستشعر قبل غيرها ضرورات التغيير على قاعدة ان الشيء الوحيد الثابت في أيدلوجية السياسي الحقيقية هو المصلحة والمصلحة الذاتية تحديدا، ولهذا فان الأيدلوجيات عندما تموت في بلدان العالم الثالث لايعلم بها الكثيرون من الاتباع والمريدين العاديين، والسبب في بقاء الاعلان عن موت الايدلوجية الفكرية طي الكتمان يرجع الى خوف السياسيين من خسارة الجمهور المستهدف والذي تستهويه شعارات هذه الأيدلوجية او تلك، كما ان ثمة شعورا بفقدان الهوية يدعو السلطات الحاكمة وكذلك من هم في طور استلام الحكم يدعوهم الى الادعاء المتواصل بتبني الدفاع عن أيدلوجية موهومة.

ان السطور المتقدمة لاتعني التقليل من شان الأيدلوجيات الفكرية في البلدان التي لاتنتمي الى دول المنظومة الغربية فهناك الكثير من الأيدلوجيات في أصقاع الأرض الأخرى يتوفر لديها الكثير من عوامل الجذب الفكري والقوى الناعمة ويؤمن أصحابها والمقيمون على إدارتها بنظرية التراكم الحضاري وتحترم إرادة الأمم التي تقودها او تسعى لقيادتها في هذا الجيل او الأجيال اللاحقة الا ان المراد مما تقدم انتقاد النخب السياسية لاسيما الموجودة منها على سدة الحكم في مشرقنا العربي والإسلامي والتي تمارس العمل الأيدلوجي بوصفه سوقا لتصدير البضائع الفاسدة والتجارب الكاسدة وتجعل من محاولات نشر وتصدير أيدلوجياتها أسلحة لاصطياد المغفلين والموالين لها في الخارج، فيما هي تقابل الحركات السلمية لبعض مواطنيها المطالبين بحقوقهم المدنية والسياسية المشروعة بمنتهى درجات البطش والقسوة وتعد أي سلوك ينتقد أساليب الغش والخداع في مؤسساتها الرسمية على انه نوع من العمالة للأجنبي والخيانة للدولة.

 وبسبب افتقار شعوب هذه الدول الى مؤسسات مجتمع مدني حقيقية تتبنى مناهج منظمة راسخة في الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ماتزال ادعاءات الهيئات الحاكمة بانتمائها الى أيدلوجية معينة تجد آذانا صاغية في الداخل والخارج.

 

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1107  الاثنين  13/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم