قضايا وآراء

القصة القصيرة جداً.. تجربة الكتابة

ربما يعود اهتمامي إلي ابعد من ذلك بكثير:إلى ما قبل خمسة وثلاثين عاما حين قرأت "همنغواي" "في وقتنا" للمرة الأولى في كلية "ووستر" ومجموعة القصص عن "نيك آدامز" مع فصول بينية مثيرة للفضول بين القصص الطويلة، كانت قطعا قصيرة لا تتجاوز صفحتين، لا تحلل نفسها، ولا تقدم للعمل، ولكنها فتنتني. أو ربما يعود اهتمامي إلى خمسة وأربعين عاما حين جمعت الكتب الهزلية عن العم البخيل، أو إلى سلسلة الكتابات الهزلية في صحف الأحد: "ليل ابنر" أو "الساحر ماندريك"، عندما كنت في العاشرة . أو ربما يعود إلى خمسين عاما مضت،إلى قصص ما قبل النوم التي قرأها لي والداي في الطفولة.

وعلى أيه حال، بدأت قبل عشر سنوات بكتابة القصة القصيرة جداً ثم تدريسها. كنت أريد الانتقال من كتابة الشعر والبحث إلى الكتابة القصصية، وبدا لي أن هذه طريقة جيدة للبدء، ولكنني اكتشفت سريعا أنني لم أكن الوحيد الذي اكتشف القصة القصيرة جدا بصورة مفاجئة، البلد كله يكتشف ويعيد الاكتشاف كما يتضح من عدد من المقتطفات الأدبية الجديدة على السوق، والتي من أهمها "جيمس توماس"، و"روبرت شيبرد" في أقصوصة المفاجأة Sudden Fiction والذي تبعها، تكملة أقصوصة المفاجأة : الأقصوصة اللقطة والمايكرو أقصوصة International، Sudden Fiction Continued، Flash Fiction Microfiction". .بالإضافة إلى ذلك، كانت مسابقة " أفضل قصة قصيرة جداً في العالم "، التي أعدتها جامعة فلوريدا وتمثلت الجائزة بمئة دولار وصندوق برتقال ونشر القصة في مجلة "سن دوج"، شكل ذلك حافزا للكتاب لتجربة كتابة القصة القصيرة جداً. بدوري حاولت على مدى عقد من الزمان أن أفوز في المسابقة، وجمعت كل تلك المحاولات في أول مجموعة قصصية لي بعنوان "أشياء سريعة لامعة" (Mid-List Press، 2000) حصلت على الجائزة في النهاية ومنحني ذلك نوعا من السلطة للحديث عن هذا الشكل الأدبي.

والآن، ما هي القصة القصيرة جداً بالضبط، ومن أين جاءت؟ لا بد من القول أن تاريخ القصة القصيرة جدا وتعريفها لازال موضع جدال.

عرفت القصة القصيرة جدا تبعا لمسابقة أفضل قصة قصيرة في العالم بأنها القصة التي تتكون من اقل من 250 كلمة ذلك يعني صفحة واحدة . وبمرور السنوات بدا أن المسابقة تفضل القصص التي تغطي عمراً بأكمله وهذا ما أوضحه احد الفائزين،ستيفن دونج " رواية من صفحة واحدة".

مقتطفات الأقصوصة المفاجأة، والتي تحتوي على ملحقا من المقالات والتعريفات للقصة القصيرة جدا لعدد من الكتاب، زادت من عدد الكلمات لتصل إلى 1500 كلمة أو ما يعادل 5 صفحات .

عرف "ثرل، هيبرد، وهلمان " في كتاب "الدليل إلى الأدب" القصة القصيرة جداً بأنها" قصة قصيرة مختصرة تتكون 500 إلى 2000 كلمة مع نهاية مخادعة أو مفاجئة"

وهكذا، فقد اتفق معظم الناس على أن القصة القصيرة جدا هي في النهاية قصة وأنها اقصر من القصة ولكن السؤال هو: هل القصة القصيرة جدا هي قصة عادية تم إيجازها أو تقصيرها، أم أنها قصيدة غير عمودية، نوعا من القصيدة النثرية (كما أشار إلى ذلك دونالد فنكل، في كتابة القصير:قراءة في مجموعتي القصصية القصيرة جدا: القلق، والذي نشرته دار"مارك ساندرز" حيث أشار إلى القصص بقوله: هذه القصائد التي تجاوزت فيها الخطوط وأطلقت عليها اسم قصص)، وهل تحتاج هذه القصص القصيرة جدا خدعة في نهايتها، أم أنها أكثر من ذلك كله؟.

في محاولتهم للإجابة على هذا السؤال، نظر الكتاب والنقاد إلى التاريخ . من أين جاءت القصة القصيرة جدا ؟ ربما من نفس المكان الذي جاءت منه القصة القصيرة: الحكايات الشفوية، لقد حكى إنسان الكهف قصصا في محاولته جلب الدفء وإبعاد الخوف عن نفسه في الليالي المرعبة ؛ أوراق البردى المصرية منذ 3000 إلى 4000 سنة قبل الميلاد، العهد القديم والجديد في قصصه التاريخية والرمزية ؛ الأسطورة في الإلياذة والاوديسيا؛ الحكايا والخرافات في العصور الوسطى ؛ القصص البذيئة والجنسية في مجموعة ديكاميرون لبوكاشيو ؛ والنثر العاطفي المشهور موت الملك آرثر للسير توماس مالوري .

والحقيقة أن نشأة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا بوصفها شكلاً فنياً كان في القرن التاسع عشر .يميل الأمريكيون إلى الادعاء بان القصة القصيرة هي اختراع أمريكي ومع ما في القول من شوفينية لأنه يتجاهل أعمال بلزاك ووموبسان في فرنسا وتشيخوف في روسيا وآخرين إلا انه يحمل جزءا من حقيقة أن الأمريكيين هم أول من نظّر للقصة القصيرة وأخذها على محمل الجد .

لقد كتب عنها بو وهاوثرون، وضعوا قواعدها، واحكموها كبناء أدبي. طبق هاوثرون في مراجعته "حكايات قصت مرتين " في مجلة جراهام في العام 1842، أفكار نقد الشعر الغنائي لقصص المكتوبة، وبذلك كانت الولادة الحقيقية للقصة القصيرة جدا. لاحظ بو أن القصة القصيرة يجب أن تمتلك " وحدة التأثير أو الانطباع" وان تُقرا في نصف ساعة أي في جلسة واحدة . في تأكيده على أهمية التأثير الواحد، ووحدة الحبكة، والشخصية، والمزاج، واللغة، وبربطه بين القصة والأغنية الشعرية، تمكن بو وان بغير قصد من وضع القول الفصل الذي سيصبح حاسما للقصة القصيرة جدا التي يمكن قراءتها في جلسة واحدة وحتى في بضع دقائق والتي تدين بالكثير لكثافة ووحدة الشعر الغنائي.

وإذا كنا ننسب لبو الفضل في توصيف القصة القصيرة، فان الفضل في المساهمة في كتابة قصص قصيرة جداً يعود لأو هنري ودي موبسان حتى قبل أن تُعرف بوصفها شكلا أدبيا مستقلاً.

يعرف اغلب القراء قصة أو هنري الشهيرة " هدية المجوس" والتي كتبها عندما كان سجيناً بتهمة الاختلاس.

تتحدث القصة عن زوجين فقيرين أراد كل منهما أن يقدم للأخر هدية في أعياد الميلاد ولكنهما لا يمتلكان النقود . أراد الزوج أن يشتري طقم أمشاط لشعر زوجته الجميل فيما أرادت الزوجة أن تشتري سلسلة لساعة الجيب التي يمتلكها زوجها. وفي النهاية يرهن الزوج ساعته لشراء الأمشاط فيما تبيع الزوجة شعرها لشراء السلسلة . شكلت هذه النهاية ما يسمى بالنهاية الملتوية أو النهاية المخادعة وهو ما برع فيه موبسان وأصبح ذلك أساسا لتعريف القصة القصيرة جداً .

في روايته" القلادة" التي بُنيت بنفس الطريقة، تدعى امرأة فقيرة لحضور حفلة راقية في مقر الوزارة وتقرر حضور الحفلة بملابس أنيقة لا تتناسب مع وضعها المادي، تقترض المرأة قلادة تعتقد أنها من الماس من صديقة غنية، ولكنها تفقدها في الاحتفال، تشتري المرأة الفقيرة قلادة بديلة لصديقتها دون أن تخبرها بما حدث وتدفع ثمن القلادة عشر سنوات من الخدمة في المنازل وبعد أن سددت ثمن القلادة حدثت صديقتها بالقصة .فما كان من الصديقة إلا أن رفعت يديها بدهشة بالغة لتخبر المرأة الفقيرة أن القلادة كانت مزيفة!!!

مرة أخرى تبدو الصورة مرتكزة ولو جزئيا على نهايتها المخادعة .

وعليه يمكننا أن ننسب لموبسان أو لأو هنري ابتكار القصة القصيرة جدا، غير أن مصدرا أخرا يمكن أن يكون له الفضل في تسمية وتعزيز هذا الشكل. كتاب صغير مشترك لـ(ميلدرد، ريد، وديلمر بوردو) نشر في الينوي عام 1947، بعنوان الكتاب يجربون القصص القصيرة جدا(كل الأنواع مع أمثلة)، تتبع نشأة القصة القصيرة جدا حتى وصل إلى ادعاء أسبوعية "كولير" وهي مجلة أمريكية واسعة الانتشار بابتكارها للقصة القصيرة جداً في العام 1925، إذ نشرت المجلة في عددها 12 الصادر في 25 ديسمبر1925 الإعلان التالي:

((ابتداء من "إلى الحب والى الشرف" تقدم "كولير" أعظم ابتكار في القصة القصيرة نشر منذ أعمال او . هنري . واحد من بين الكتاب الأربعة المذكورون أعلاه سيقدم قصة قصيرة جدا ( نصف صفحة) من واقع الحياة")). كان الكتاب الأربعة المشاركون هم: اوكتافس روي كوهين، روبرت هجز، صوفي كير، وزونا جيل.

تميل القصص في سلسلة "كولير"، وخاصة في الآونة الأخيرة حيث القصص القصيرة جداً ـ قصة المفاجأة ـ وما بعدها، إلى التقليل من فكرة النهاية المخادعة وتركز بدلا من ذلك على تكثيف اللغة الغنائية في بنيوية تتجه نحو الإلهام حيث يسود طابع الغنى والتعقيد . ما أطلق عليه فرانسيس في القصة المفاجأة " أو . هنري بدون خداع" .

نظرة سريعة على ما قد قاله كتاب القصة القصيرة جدا عنها يقودنا إلى تحديد تعريفها. فقد لاحظ "فرد تشابل" إنها يجب أن تكون مثيرة للقلق، تسبب شعورا بعدم الارتياح . وافقه في ذلك جون هيوركس حيث قال: إنها يجب أن تزعجنا،فيما قال "ايرفينج هاو" في مقدمة مجموعته القصصية القصيرة جداً" إنها مكثفة بشدة، أشبه بقصيدة غنائية تنفجر دفعة واحدة بوحي أو إضاءة، وتقتصر على حدث واحد مسيطر، وتحمل ثقلا رمزياً. ويضيف هاو : إنها مثل معظم القصص القصيرة العادية " فقط أكثر منها في كل شي".

يسعى الكثير من هؤلاء الكتاب إلى تعريف القصة القصيرة جداً باقتراح ما ليس فيها : أنها ليست حكاية رمزية، بحيث تتضمن رسالة، وهي ليست حكاية تسرد حدثا بصورة خالية من الفن، وهي ليست مشهدا هزليا متشظيا وجامداً . إنها ليست، كما يؤكد راسل بانكس، مجرد قصة قصيرة تم تقصيرها . إنها شكل في حد ذاته (يسمي بانكس القصص القصيرة جداً "poes"، ملمحا إلى علاقتها ب "النثر" و"الشعر"، وربما بادغار ألن بو).

وضع روبرت كيلي أصبعه على أفضل وصف للقصة القصيرة جدا من وجهة نظري، يقول :

"ليست نثرا شعريا ولا جملة نثرية، ولكنها طاقة ووضوح النثر بإيقاع شعري". وبالطبع فان هذا التعريف قد ينطبق على القصيدة النثرية، ولان القصة القصيرة جداً والقصيدة النثرية تبدوان متقاطعتين ( فقد نشر رسل ادسون،على سبيل المثال، قطعة في سلسلة ويزليان الشعرية بوصفها قصيدة، وفي الوقت نفسه نشرها في القصة المفاجأة بوصفها قصة قصيرة جداً ) . لذا فقد يكون من المفيد مقارنة الشكلين.

تساعدنا المقارنة بين أفضل قصيدة نثر في العالم في الخمسة والعشرين عاما الماضية (في تقديري) وأفضل قصة قصيرة جداً (وفقا لجامعة ولاية فلوريدا في عام 1996) على تمييز القصة القصيرة جداً بوصفها شكلاً أدبياً. قصيدة النثر هي قصيدة "كارولين "فورشيه" "العقيد". وأذكر أن "فورشيه" قالت لي أثناء زيارتها إلى ويسكونسن قبل بضع سنوات، أن ""العقيد" " ليست قصيدة في الأصل، بل كانت مسودة ملاحظات دست خطأً بين ثنايا مخطوطة (البلاد التي بيننا). وعندما عثر عليها الناشر وأشاد ب "القصيدة" قررت الإبقاء عليها في الكتاب. وعلى أية حال، لقد اخترتها بوصفها أفضل قصيدة نثر، على الأقل لأغراض المقارنة. كتبت القصيدة في أيار / مايو 1978، عندما كانت "فورشيه" في زيارة للسلفادور.

"العقيد"

'ما سمعتم صحيح. كنت في بيته. حملت زوجته صينية البن والسكر. قصت ابنته أظافرها، وخرج ابنه لقضاء الليلة. كانت هناك صحف يومية، كلاب أليفة، ومسدس على الوسادة بجواره. ترنح القمر عاريا على حبله الأسود فوق البيت. قدم التلفزيون عرض مطاردات بوليسية، كان باللغة الانجليزية. زجاجات مكسورة كانت مغروسة في الجدران حول البيت حتى تمزق أربطة ركبة المتسلل أو تقطع يديه. على النوافذ كانت قضبان مثل تلك الموجودة في مخازن الخمور. تناولنا العشاء، شرائح من لحم الحمل، نبيذ جيد، جرس من الذهب لاستدعاء الخادمة كان على الطاولة. أحضرت الخادمة ثمار مانجو خضراء، ملحا، ونوعا من الخبز. سألوني كيف استمتعت بهذا البلد. وكان هناك إعلان تجاري باللغة الإسبانية. أخذت زوجته كل شيء بعيدا. عندئذ كان هناك بعض الكلام عن صعوبة وصوله إلى الحكم. في الشرفة قال الببغاء مرحبا. قال الجنرال له اخرس، واندفع مغادرا الطاولة. قال لي صديقي بعينيه: لا تقولي شيئا. عاد الجنرال مع حقيبة كانت تُستخدم لحمل البقالة إلى البيت. ألقى الكثير من الآذان البشرية على الطاولة. كانت تشبه أنصاف الخوخ المجفف. ليست هناك طريقة أخرى لأقول هذا. أمسك واحدة منها في يده، هزها في وجوهنا، ألقاها في كأس ماء. عادت للحياة هناك. قال الجنرال تعبت من الخداع. أما بالنسبة لحقوق أي شخص، فأخبري جماعتك أنهم يستطيعون[...] أنفسهم. دفع الآذان إلى الأرض بذراعه، ورفع آخر النبيذ في الهواء. شيء لشِعرك، ها؟ قال. بعض الآذان على الأرض علقت بهذه الشظايا من صوته. بعض الآذان على الأرض انسحقت\'.

ولعل السؤال الأول الذي يتبادر إلى أذهاننا هو: ما إذا كانت هذه قصيدة. وكما تقول "فورشيه" إنها، على الأقل في البداية، لم تكن قصيدة . فقد كتبت جملاً، وليس سطورا، وتبدو قطعة من النثر. كيف يمكن إذا أن تكون قصيدة؟ يمكننا أن نبدأ من اللغة : جمل تقريرية فظة لا هوادة فيها، بنسق منظم، كما لو كانت رهينة قواعدها اللغوية الخاصة، تعكس شعور الوقوع في الخطر في الموقف والفكرة، ولكن أيضا بلغة جميلة، وموسيقية،وغنائية. صوت الكلمات مهم في حد ذاته ومهم داخل القصيدة . هناك بعض من القافية والوزن، والسجع والجناس : " ترنح القمر عاريا على حبله الأسود فوق البيت " " زجاجات مكسورة كانت مغروسة في الجدران حول البيت حتى تمزق أربطة ركبة المتسلل أو تقطع يديه"

هذا النوع من اللغة الذي يجده المرء بسهولة في الشعر الغنائي أكثر من القصص القصيرة أو المقالات. الصور المجازية العاطفية الحية هي أيضا صفة مميزة للشعر، المجاز في نوعية الطعام على سبيل المثال : البن، السكر، والضأن، والنبيذ، والمانجو، والملح، والخبز، وآذان مثل أنصاف الخوخ المجفف. القصيدة مبنية على الجمع بين العادي واليومي وبين الجمال والبذخ، التلفزيون، الأسرة مع الرعب واللاانسانية، والعنف الصارخ والقتل والموت. هذا الجمع يخلق شعورا من عدم الواقعية، سريالية في مشهد واقعي وصفته الكاتبة بفوضوية : الصحف اليومية،الكلاب الاليفة،المسدس، أربطة الركب الممزقة . حقيقة أن المطاردة البوليسية كانت باللغة الانجليزية يقترح تواطؤ الولايات المتحدة الأمريكية في الحدث. النغمة، موقف الكاتب من الموضوع، يؤكد مرة أخرى الرعب كل ذلك وصف بطريقة محايدة تقريبا، واقعية ؛ كما أن ضبط النفس، والموضوعية تكثف العاطفة. عالم قاتم بقيت فيه آذان القتلى على "قيد الحياة" بصورة ما، بقيت شاهدا على الفظائع. وهكذا، فإن في القطعة العديد من عناصر القصيدة – اللغة الغنائية الهامة بحد ذاتها ؛ التصوير الحي المثير للعواطف ؛ والاهتمام بحدة النغمة ؛ والاستعارات المدهشة .

جاءت كلمة "verse" من الكلمة اليونانية "verso" وتستخدم للدلالة على المقطع الشعري وتعني التدوير وما يميز شعر فورشية هو التدوير وإعادة التدوير بمعنى تكرار الإيقاع وتكرار التراكيب اللغوية والنحوية :

قصت ابنته، كانت هناك، ترنح القمر، بعض الأذان، بعض الأذان . هذا الإيقاع المتكرر المناقض للإيقاع المستمر هو ما يميز الشعر بالرغم من إشكالية هذا التبسيط للتمييز بين الشعر والنثر، إلا انه يبدو مفيدأ في التمييز بين قصيدة "فورشيه" وبين قصة برايان "هنشو" القصيرة جداً . نص "فورشيه" ليس، بطبيعة الحال، قصيدة غنائية على الرغم من أن عناصره الغنائية تؤكد مكانتها الشعرية ولكنه سيفقد قدرا كبيرا لو كتب على شكل سطور متتالية كالشعر . كما انه سيفقد بعضا من وضوح النثر، ودلالات تجاور الكلمات، وبعض من حيادية النغمة . ومن ذلك، يمكننا القول، إن النص هو قصيدة نثرية : لغة وإيقاع وصوت الشعر في شكل ونغمة نثرية .

وعلى النقيض من ذلك فان نص ""الوصي" " لبرايان "هنشو" الحاصل على جائزة أفضل قصة قصيرة جداً للعام وفقا لمجلة سن دوج 1996 عام هي نص نثري بصورة أكثر وضوحا.

"الوصي":

سيكون العمل مملا إذا لم تمزجه بشي ما ولو قليلا، كما هذه السيدة في الجناح 4- أ . تسميها الممرضات الطائر المحاكي . أبدا أي أغنية وستقوم هذه السيدة العجوز بغنائها ببساطة .لا تستطيع الكلام ولا حتى أكل أي ذرة من طعام صلب ولكنها تغني مثل بيت في النار. للحصول على بعض المتعة، اذهب إلى هناك مع ممسحتي والأشياء الأخرى أركز الباب بدلو واتركها تنطلق. كانت أفضل ما تكون في الأغاني الجماعية مثل "يا سوزانا" التي نغنيها حول نار المخيم ولا بأس بأغنيات أعياد الميلاد أيضا. ودائما أزعجت الممرضات بصوتها وأنا أحاول أن اجعلها تغني أغنية "دعها تثلج"في فترات الراحة كما حاولنا أن نجعلها تلتقط أغنيات من الراديو أو تغني أغنية قديمة تحمل لعنة أو شتيمة . لم تفعل أبدا بالرغم من أنني سمعتها مرة وهي تغني "كم أنا جافة" عندما كانت الممرضة "ونشل " تشكو من القسطرة.

بالأمس جاءت ابنتها وربما كانت حفيدتها بينما كنا أنا والمريضة 4-أ نغني أغنية "الأيام الخالية" قالت الابنة :ياه ياه ياه، كما لو أنها قاطعت محادثة ذكية وألقت نظرة طويلة على المريضة الراقدة في الكرسي المتحرك بعينين مغمضتين ويدين مجعدتين ممتدان" يا ربنا انظر لنا بالرفق والحنان".

نظرت الفتاة إلي كما لو أنها تنظر إلى نهاية فلم سينمائي قديم وقالت :يا الهي أنت ملاك .

الآن لا استطيع أن افعل ذلك ولا حتى استطيع أن أخطو إلى غرفتها

السؤال الذي طرحته عن نص "العقيد" هو: هل كان النص قصيدة شعرية . ربما كان قصة قصيرة جداً . والسؤال الذي نطرحه عن "الوصي" هو :هل النص قصة في الحقيقة ؟ ربما كان قصيدة نثرية.

يبدو نص ""الوصي"" اقرب إلى أن يكون قصة أكثر من كون "العقيد" قصيدة.

اللغة في نص "العقيد" كانت غنائية ومكثفة وهامة بحد ذاتها لكنها في نص "الوصي" كانت لغة اصطلاحية حوارية نثرية وليست غنائية على الإطلاق . القصة تخبرنا ولا تثيرنا فقد بنيت بطريقة مختلفة عن القصة القصيرة التقليدية التي تبدأ من منتصف الأشياء، يتخللها بعض العرض وتنتقل إلى تصاعد الحدث ثم إلى نقطة الانعطاف والذروة وأخيرا الحل .لا تستطيع القصة القصيرة جدا السير على هذا المنحى لذلك فهي تسلك طريقا بديلا وربما كان هذا هو الفرق الرئيسي بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا.

تبنى القصة القصيرة جدا على أنها دعابة لذلك فهي تبدأ من منتصف الأشياء وتتجاوز العرض والتلخيص لتنتقل مباشرة إلى تصاعد الحدث -أن لم نقل نقطة الانعطاف أو الذروة ـ ثم الإلهام والبوح الذي غالبا ما يشبه وخزه الدعابة .

في "الوصي" على سبيل المثال، يبدأ القاص من منتصف الأشياء بتقديم الشخصية الرئيسية والمهمة التي ستعرف بها، وكيف أنها ستصاب بالملل مالم تدخل قليلا من الترفيه إلى مهامها . ثم نتابع أمثلة على "هذا الترفيه " كيف يمكن جعل مريضته تغني أي أغنية، وكيف يحقق ذلك له المتعة، وكيف أساءت ابنتها تفسير سلوك الوصي بوصفه رعاية محبه وبذلك أخجلته عن غير قصد حتى أنه لن يفعل ذلك مرة أخرى.

تتضمن "الوصي" الإيحاء (وخزه الدعابة) بوح روحي يغير من سلوكه . هذا المنحنى السردي هو الذي يميز قصة "هنشو" القصيرة جدا عن قصيدة فوشيه النثرية وعن القصة القصيرة العادية.

وعلاوة على ذلك فان الشخصية مهمة ل"هنشو" أكثر من أهميتها في نص "فورشيه" . كانت "فورشيه" هي الكاتبة والمتحدثة في قصيدتها كانت تتحدث إلى نفسها أكثر من حديثها إلينا . الشخصية في قصة "هنشو" هي المتحدث وهو يتحدث إلينا وإلى القراء وأيضا في قصيدة فوشيه النثرية "العقيد" هو نموذج والمتحدث هو عيوننا وأذاننا لا يوجد نمو أو تطور أو تغير في أي جزء من أي شيء في القصيدة أما في قصة "هنشو" القصيرة جدا فان الراوي شخصا بعينه يحس به القاري بوضوح من خلال حديثة الاصطلاحي، وموقفه من عمله، وروح الدعابة لديه والراوي يتعلم شيئا عن نفسه وعن الحياة بشكل عام وبالتالي فهو يتغير. إساءة تفسير الابنة لسلوكه جعله يرى إنسانية المريضة وعدم حساسيته شخصيا تجاه مريضته . لقد شعر انه لن يعود كما كان أبدا.

لتلخيص الفروق بين قصيدة النثر ل"فورشيه" والقصة القصيرة جدا ل"هنشو" نجد:

الاختلاف في استعمال اللغة، فاللغة عند "فورشيه" كانت غاية بحد ذاتها أما عند "هنشو" فهي وسيلة لتحقيق الغاية .

الاختلاف في طريقة السرد: تثير "فورشيه" السرد من خلال التكرار الإيقاعي الذي يتجاوز الراوي . بينما في نص "هنشو" فان القصة تحكى من خلال إيقاع الاستمرارية، حيث يحدثنا بشكل أكثر مباشرة.

الاهتمام بالشخصية مختلف أيضا فالشخصيات عند "فورشيه" هي نماذج وهي اقل أهمية من المشاعر والعواطف التي يثيرونها في حين أن الشخصية عند "هنشو" أكثر أهمية .

البناء مختلف أيضا: تتحرك "فورشيه" من خلال التكرار والتجاور بينما يستخدم "هنشو" بديلا عن شكل القصة التقليدية حين يتحرك من منتصف حدث ما عبر عدة مشاهد ليصل إلى الإلهام أو البوح للشخصية المركزية .

قد يقول البعض أن هذه الفروقات تصلح لمقارنة نصي "فورشيه" و"هنشو" ولكنها لا تحدد السمات المميزة للقصة القصيرة جدا أو لقصيدة النثر عموما . ولكن في الحقيقة إنني وتلاميذي في جامعة وسكنسون نختبر هذه الفروقات والخصائص كلما قرانا نصا قصيرا جداً أو حاولنا كتابة نص بأنفسنا . كما أننا اختبرنا الفروقات بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً فلاحظنا الاختلافات في الشخصية والنمط وطريقة السرد والنغمة والحوار والتقدم نحو الخاتمة .

ما بدا انه تجريبيا قبل عشر سنوات ـ كما لو انه لمرة واحدة فقط ـ أو بوصفه "موضوعات خاصة" أصبح اليوم جزءا رئيسيا من منهج الكتابة الإبداعية للطلبة الجامعيين . لقد وضح "ريد" و"دلمار" بوردوكس في كتابهم "الكتاب يجربون القصص القصيرة جدا" (كل الأنواع المعروفة مع أمثلة) أهمية تدريس هذا النوع من الكتابة في الجامعات .

مع ذلك، فان للقصة القصيرة جدا جاذبية خاصة للكتاب المبتدئين . سيجدون في هذا الشكل الموجز نقطة انطلاق ثمينة لتكوين تقنيات القص بطريقة اقتصادية وهنا سيجدون الفرصة ليجربوا التحليق في مجال مختصر تمهيدا للانطلاق إلى عالم القصة القصيرة أو الرواية .

كما سيجد الكتاب الشباب سوقا لأعمالهم ذلك انه ليس ضروريا أن تكون اسما معروفا حتى تنشر قصصا قصيرة جدا كل ما هو مطلوب أن تكون القصة القصيرة جدا جيدة وعادة فان كل الأسواق مفتوحة حتى للمغمورين اللذين يكتبون هذا النوع .

لهذه الأسباب فان القصة القصيرة جدا فرضت نفسها بوصفها كتابة إبداعية في المدارس الثانوية والكليات بالإضافة إلى ذلك فان معلم مثل هذه الكتابة الإبداعية سيجد الأمر سهلا إذا ما أتقن مبادئها وسيجعل حماس الطلبة لهذا النوع من الكتابة عملية التعلم أمرا متعا للغاية.

هناك أسباب أخرى لتدريس وكتابة القصة القصيرة جدا . فقد وجدت أن معظم الكتاب المبتدئين لا يستطيعون مواصلة السرد لأكثر من ثمان إلى عشر صفحات وهم في هذه الصفحات يحاولون أن يكتبوا ما كتبه "اوكنور" أو "جون ابدايك" أو "جويس كارول اوتس" أو وليام فوكنر في ثلاثين أو أربعين صفحة وغالبا ما تكون النتيجة قطعة مبتورة وغير مكتملة . في حين أن القصة القصيرة جدا تمكن الكاتب المبتدئ أن يوفق بين موضوعه والفراغ المتاح له .

كما أن توظيف القصص القصيرة جدا المنشورة كنماذج للطلاب المبتدئين قد يكون أكثر واقعية من توقع أن يتمكن المبتدئ من محاكاة النصوص الطويلة المعتمدة في المقتطفات القصصية الجامعية.

و حتى بالنسبة للكتاب المحترفين، يمكن أن تكون القصة القصيرة جدا مفيدة ليس لأنها يتضمن الإيجاز ودقة اللغة، بل لأنها تفتح مجالات جديدة وغنية بالمواضيع والأساليب. يغري طول القصة القصيرة جدا الشباب على التجريب وبالتالي استكشاف أفاق رائعة تتخطى الحدود دون وجود ضغوط هائلة من أجل المحافظة على سرد قوي لعشرين صفحة أو أكثر .

غالبا ما يكون الطلاب أكثر حماسة للتجريب والمخاطرة والخروج عن المألوف وقد لاحظت أن المجموعة المتنوعة من المواضيع التي تطرق لها طلابي في قصصهم القصيرة جدا تجاوزت بمراحل ما نطرحه في مناقشات القصة القصيرة التي تتكرر فصلا بعد فصل.

وبالطبع لم تفتن القصة القصيرة جدا الطلاب والمبتدئين فحسب بل أن كثيرا من كتاب القصص القصيرة المعروفين جربوا القصة القصيرة جدا وأيضا جرب كثير من الشعراء هذا الشكل ـ كما فعلت أنا شخصياـ بوصفها وصلات للربط بين الموضوعات في القصص والروايات وقد جمعت قصصي القصيرة في مجموعة نشرت مؤخراً بعنوان "أشياء سريعة لامعة" والآن أجدني اكتب رواية حقيقية وليست رواية من صفحة واحدة.

عرفت القصص القصيرة جداً ـ على الأقل ـ مع استخدام الإنسان للغة والمرجح أنها ستستمر طالما استمرت قدرة الإنسان على التخيل . يعود رواج القصة القصيرة جدا في عصرنا الحالي ـ وان بصورة جزئية إلى السرعة التي نعيشها والتي قل بها مدى التركيز في الجلسة الواحدة بدرجة كبيرة ولكن القصة القصيرة الرائعة تتمدد ببراعة خارج حدود شكلها.

شرح،"جيروم ستيرن"، الذي أدار أفضل مسابقة للقصة القصيرة جدا في العالم لسنوات طويلة قبل وفاته، من وجه نظره ما الذي يجب أن يتوافر في القصة القصيرة جدا لتحقق الفوز .قارن بين قراءة هذه القصة والدخول إلى غرفة مظلمة في يوم الأحد حيث تقام حفلة ما. في البداية لن تتكيف أعيننا مع الضوء ولن نرى شيئاً سوى الحركة والإشكال ولكننا بالتدريج سنتكيف مع العتمة وسنبدأ برؤية الناس وتفاصيل الأثاث والديكور وفي كل مرة نغادر الغرفة لنلتقط أنفاسنا ثم نعود نرى شيئا جديدا وستصبح الحفلة والمحتويات في الغرفة مألوفة لدينا لكنها ستتغير وكلما عندنا إليها سنرى تغيرا جديدا لن نراها نفسها في كل مرة وسنرحب دائما بدعوتنا إلى مثل هذه الحفلة في تلك الغرفة وربما انتهى بنا المطاف إلى كسب مئة دولار وصندوق برتقال .

ترجمه عن الانجليزية: أماني أبو رحمة

........................

The Writer's Chronicle 33.6 (2001): 40-46 . نشر مقال:

Selected Bibliography

Fles، Barthold، ed. The Best Short Short Stories from Collier's. Cleveland and New York: The World Publishing Company، 1948.

Forché، Carolyn. The Country Between Us. New York: Harper & Row، 1981.

Hinshaw، Brian. "The Custodian،" Sundog (Fall، 1996).

Howe، Irving، and Ilana Wiener Howe، eds. Short Shorts: An Anthology of the Shortest Stories. New York: Bantam Books، 1982.

Reid، Mildred I.، and Delmar E. Bordeaux. Writers Try Short Shorts! (All Known Types With Examples). Rockford، Illinois: The Trust Building، 1947.

Shapard، Robert، and James Thomas، eds. Sudden Fiction: American Short-Short Stories. Salt Lake City: Gibbs M. Smith، Inc.، 1986.

Shapard، Robert، and James Thomas، eds. Sudden Fiction (Continued). New York: W.W. Norton & Co.، 1996.

Shapard، Robert، and James Thomas، eds. Sudden Fiction International. New York: W.W. Norton & Co.، 1989.

Stern، Jerome، ed. Microfiction. New York: W.W. Norton & Co.، 1996.

Thomas، James، and Denise Thomas and Tom Hazuka، eds. Flash Fiction. New York: W.W. Norton & Co.، 1992.

Wallace، Ron. Quick Bright Things. Minneapolis: Mid-List Press، 2000.

Wilson، Robley Jr.، ed. Four-Minute Fictions. Flagstaff، Arizona: Wordbeat Press، 1987.

 

 

 

 

في المثقف اليوم