قضايا وآراء

الثانوي والرئيسي في الهويات الإنسانية / لطيف القصاب

وبالتالي فان هذا الإنسان عندما يتصرف في شؤونه المختلفة فانه يتصرف من وحي العقل الجمعي لزملائه اي عبر الهيئات والهويات التي يدور هو في افلاكها ولا يتصرف على نحو مستقل، اي من وحي أفكاره وعواطفه الخاصة هو.

غير ان هذا التفسير الذي حمل توقيع احد المفكرين الغربيين لا يمكن له ان يكون مستقيما في اغلب الظن الا في نطاق الانتماء القسري او الموروث. التفسير السابق على ما يبدو لا ينطبق على المنتمي لجماعة ما بطواعية ورغبة وبحسب ميله النفسي والعقلي الذي يتحول مع مرور الوقت الى مبدأ راسخ في وجدانه وضميره والى هوية ثابتة عصية على المقايضة والتنازل وحالات غض الطرف.

وبوجه عام فان الانسان عندما يقرر بينه وبين نفسه وبالتجرد عن اي تأثير خارجي، عندما يقرر هذا الانسان الانتماء الى نادي رياضي او حزب سياسي او تجمع ديني او حتى عصابة إجرامية.. الخ، فانه يفعل ذلك باختياره هو، وبالتالي فان الهوية لديه بهذا الشكل ستغدو هوية رئيسية بصرف النظر عن كونها هوية دينية او قومية او وطنية.. الخ، وستكون اكثر رسوخا في وجدانه، ومدعاة للبقاء أطول فترة ممكنة في حياته، ربما الى نهاية عمره، ومن ثم فانها سوف تتحول بحكم انتقال الموروث من جيل لأخر الى هوية ثانوية يورثها هذا الانسان الى ابنائه واقربائه، ولهؤلاء بإمكانهم دائما تحويل موروث الهوية لديهم الى هويات رئيسية عقائدية او إبقائها بشكلها الثانوي القابل للتغيير.

لن نأتي بجديد إذا أكدنا فكرة أن ابرز المشكلات الاجتماعية التي ما تزال تعاني منها الشعوب المتخلفة ما يتمثل بانعدام التفريق بين ما هو موروث وما هو مكتسب من القيم والاعتبارات اي بين ما هو موجود بالاختيار وما هو موجود بالضرورة.

في الفترة التي مر بها العراق بعد مرحلة الاحتلال الأمريكي، وخاصة بين سنتي 2006 و2007، تعرض النسيج الاجتماعي العراقي الى ضربات قاسمة كان من اشدها وطأة ما عرف بالقتل على الهوية، وبحسب تواتر الاخبار فان حمى اقصاء الهويات انتقلت عدواه بين مختلف الاطراف وصار بحكم المستحيل التمييز بين المنتمي الى هويته المذهبية اختيارا او اضطرارا.

ان هذا الذي حدث يفسر العقلية التي تتحرك بها الجموع الهائجة في حرب الهويات، وحينما يستند الهيجان الى الجهل بأبسط الحقوق الاساسية لبني الإنسان الا وهو الحق في الاختلاف، ولكن اكثر ما ينكأ الجرح أن هذا التصرف قد يعود بنسبة كبيرة من جذوره إلى واجهات فكرية تتبنى اسلوب تعمية جماهيرها بذرائعية منطقية تكفّر بعنف بكل ما عداها من وجوه النظر الأخرى، هذا الأمر الذي يعمل باستمرار على شحن الأواصر الاجتماعية بعوامل الكراهية، ويهدد في كل لحظة من لحظات التاريخ السلم الاهلي بين الناس، لاسيما في دولنا المنكوبة بضآلة مناسيب الوعي الفكري والفلسفي الرشيد.

نستطيع ان نلاحظ ذلك في اغلب التوجهات السياسية في عالمنا الثالث، وكذلك بطبيعة الحال في إطار أكثر المذاهب الدينية المتواجدة في بيئاتنا الشرقية، ومنها المذاهب الإسلامية على سبيل المثال لا الحصر، فمهما كانت الوشائج قوية بين جماعتين متغايرتين، ومهما انتميا الى روابط عديدة واحدة كالوطن الواحد والمدينة الواحدة، وربما العشيرة الواحدة ايضا فان كلا منهما تدور في خلده دائما فكرة تحويل صاحبه الى جماعته الخاصة وبعبارة اكثر دقة الى هويته الرئيسية الخاصة، وبطريقة ترهيبية أكثر منها ترغيبية في غالب الأحيان.

والطامة التي لا تقل شرا عن كل ما تقدم أن يعمد احد الفريقين المتغايرين مذهبيا او كلاهما إلى استخدام نفس الأسلوب العنيف مع معتنقي الأديان الأخرى من غير المسلمين مثل ما حدث ويحدث بحق المسيحيين في مصر والعراق ودول اخرى. إن هؤلاء الذين يفكرون بهذا الشكل يفوتهم التمييز دائما بين ما هو في حكم الاختيار وما هو في حكم الضرورة، ويخلطون بين العوامل البيئية والوراثية في ضمن الجماعات الإنسانية المختلفة، وينتهي بهم الحال إلى التسبب بإحداث أسوء العواقب الاجتماعية.

ليس هذا الأمر حكرا على العامة من الناس أو ممن يسمون بالغوغاء أو الرعاع، فحتى في نطاق مؤسسة التقريب بين المذاهب الإسلامية مثلا يمكن ملاحظة هذه الظاهرة بوضوح، وهذا مما يُستغرب منه اشد الاستغراب نظرا لوجود ما يفترض ان يكونوا من النخبة الواعية والمثقفة في هذه المؤسسة، والقضية في مثل هذه الظروف تأخذ منحيين أساسيين، الأول ما اشرنا إليه آنفا من حيث تحريض الفئات الاجتماعية المهزوزة والمستفزة ذهنيا، والآخر ما يتمثل بدعوات تطلق من على هذا المنبر او ذاك من قبيل حفظ نفوذ الطوائف في أماكن بعينها، فهذه البيئة الجغرافية من نصيب الطائفة الفلانية والأخرى من حظ الثانية وهكذا.

 إن هذا المنحى لا يقل عن المنحى الأول خطرا من حيث تبنيه لمفهوم إكراه الناس وقسرهم على اعتناق هويات غير مرغوب بها بل صيرورتها قسرا الى هوية رئيسية. ان المطلوب بشكل ملح أن يكف هؤلاء (المفكرون) بدورهم عن التعامل بوصفهم أوصياء على قرارات الناس، وان لا يخلطوا اوراق الهويات بشقيه الثانوي والرئيسي على نحو ما يفعله الرعاع ومنتهزو الفرص السياسية.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1587 الخميس 25 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم