قضايا وآراء

الشيزوفرينيا..هل هي قدر المثقف الأصيل؟! / قاسم حسين صالح

صحيح ان  الخارطة البشرية التي تعد أهم انجاز علمي يفتتح به القرن الواحد والعشرين توصلت الى أن الجينات التي تسبب الفصام توجد في الكروموسومات ( 22،13،6،8،1) الا ان هذه المورثّات تحمل الآف الجينات ،وقد يطول الزمن ولا يتم العثور على هذا الجين بين هذه الالآف .

وليس هنالك جدل كبير حول العامل الوراثي للفصام، الا ان هنالك فريقا" يحسم هذا الأمر بالجينات فقط، فيما يرى فريق آخر ان الحضارة هي السبب.. ليس في منغصاتها فقط، بل وزيفها الذي لا يطيقه الانسان الأصيل. والأصيل هنا هو الذي لا يمارس الزيف على نفسه، بما يعني ان الشيزوفرينا يصاب بها الأصلاء فقط!.. واليك التفسير.

ان كل واحد منا لديه (ذاتان -  SELF  ) ذات تمثل (انا) الشخص، وهذه تكون اصيلة.. تتعامل مع الأشياء كما هي. فأن كنت تكره شخصا "قلت له بوجهه (انا اكرهك) حتى لو كان الملك او السلطان. وذات حقيقية لا تعرف الزيف.. تصرف انفعالات الحب والكره والغضب والسخرية...بمساراتها الطبيعية. وتطلق الأفكار من الرأس لتحلق في فضاءاتها كما الطيور في البساتين. فأن كنت لا تؤمن بالله قلتها حتى بوجه أكبر رجل دين، وان كنت تؤمن به.. قلتها حتى بوجه ستالين!.

والثانية (ذات اجتماعية) وهذه تكون مزيفه.. بمعنى ان الشخص يقول ويتصرف وينفعل بما يرضي الناس. فأن كنت تكره (مديرك مثلا") فانك تنهض له حين يزورك بمكتبك وتبتسم بوجهه وتسمعه ما يحب ان يسمعه، مع ان ذاتك الحقيقة تحتقره.

ولأنه لا يمكن للضديين ان يتجسد كلاهما في سلوك واحد، بزمان ومكان وموقف واحد، فأن الغالبية المطلقة من الناس فرض عليهم التعايش بالذات (الاجتماعية المزيفة)..الا المصابون بالفصام فأنهم توصلوا الى استراتيجية (مدهشه!) بعد حوار بين الذاتين: الحقيقية الأصيلة والاجتماعية المزيفة خلاصته.. واحد من خيارين: اما ان تتصرف بذاتك الاجتماعية وتكون مثل الناس واما ان تجعل الناس مثلك يتصرفون بذواتهم الحقيقية. ولأنه غير قادر على تغيير الناس وجعلهم يتخلون عن ذواتهم الاجتماعية المزيفة، ولأنه مصرّ على التصرف بذاته الحقيقية، ولأن التوفيق بين هذين الضدين غير ممكن، فأنه توصل الى هذه الاستراتيجية: ان يغادر واقع الناس ويخلق له واقعا خاصا به. وبانقطاعه عن عالمهم بدا لهم غريب الأطوار فنحتوا له وصف (المجنون).. فيما يرى نفسه انه هو العاقل وهم المجانين!.

وحين تتأمل ذلك تجد ان في التفسير وجاهة. فأن يرفض الانسان التنازل عن ذاته الحقيقية ويصرح بالحقيقة علنا"، لهو اعقل واصدق من انسان يزيف نفسه ليعيش في عالم مزيف.

ولأن المثقف هو الباحث عن الحقيقة، ورأسه خلية نحل من الأفكار الدوّارة بين زهور المعرفة..لتستخلص منها عسل الحياة ، فأنه اكثر الناس معاناة في الصراع بين الذاتين.. الحقيقية والاجتماعية. ولأن الجهاز العصبي للانسان ينهار اذا استمر الصراع، فأن المثقفين يحلّونه بطريقتين:

الأولى، تغليب الذات الاجتماعية على الذات الحقيقية، والقبول بشيء من المعاناة يتم التعامل معها بآليات تصريفية : (اكتئاب، تذمر، تدخين، شرب الكحول، علاقات عاطفية متعددة... ).

والثانية، تغليب الذات الحقيقية على الذات الاجتماعية..ومن هذا الصنف يظهر المصابون بالفصام، وتحديدا": المثقفون الأكثر اصرارا" على التمسك بذواتهم الحقيقية.

طبيعي ان هؤلاء قلّة. فاذا كانت نسبة الأصابة بالشيزوفرينيا في المجتمع بشكل عام بحدود 1% فأن نسبتها بين المثقفين تكون اقل من ذلك. ولكن عليك ان تعلم ان 50% من الراقدين في المستشفيات العقلية بالعالم هم من المصابين بالفصام. ومع أننا لا نعلم عدد المثقفين العرب المصابين بالفصام ،من غير الذين نعرفهم كيف ماتوا وكيف انتهوا..فاننا نتوقع ان عددهم (المعلن والخفي) اكبر لثلاثة أسباب ذات علاقة بالفصام: لأن العرب اكثر خلق الله ممارسة لذواتهم الاجتماعية، ولأن واقع العرب هو الأكثر زيفا "بالعالم.. ولأن الشعر والأدب وثقافة أكبر ثلاثة أديان..نشأت في أرض العرب!

 

أ.د.قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1775 الاربعاء 01 / 06 /2011)

 

 

في المثقف اليوم