قضايا وآراء

الدونمه بين اليهوديّة والإسلام (1-3) / عدنان حسين أحمد

وكتبه الأخرى أيضاً هو اعتماده على المصادر الأساسيّة العبريّة والإنكليزيّة من دون الرجوع إلى الترجمات أو المصادر الثانوية التي تفتقر إلى الدقّة وتعوزها الموضوعيّة. 

يتألف الكتاب أصلاً من تصدير ومدخل للفكرة المسيحانية في اليهودية، وسبع عشرة شخصية إدعت أنها المسيح المخلِّص قبل شبتاي صبي، إضافة إلى البابين الرئيسين اللذين يشكلان جوهر الكتاب ومادته الأساسية. وقد خصص الباحث جعفر هادي حسن الباب الأول لشبتاي صبي منذ ولادته وحتى وفاته، أما الباب الثاني والأخير فهو مُخصّص لفرقة الدونمه وفروعها وأصولها وتعاليمها وأعيادها ودورها وتأثيرها على المجتمع التركي منذ القرن السابع عشر وحتى الوقت الحاضر.

يركِّز مؤلف هذا الكتاب على مُؤسس فرقة الدونمه الحاخام اليهودي شبتاي صَبّي الذي إدَّعى بأنه المسيح المُخلِّص، ثم تظاهَر بالإسلام فيما بعد وتبعه آلاف من أشياعه والمؤمنين بآرائه وأطاريحة الفكرية التي لا تخلو من "فنتزة" جليّة ونَفَس غرائبي واضح يمكن أن يتلّمسه أي قاريء حصيف لهذا الكتاب الشيّق والمثير في آنٍ معا. والدونمه، كما هو معروف، فرقة باطنيّة أنشأها قبل ثلاثة قرون الحاخام شبتاي صَبّي، الشخصية المثيرة للجدل التي لعبت دوراً أساسياً في الصراع العلماني _ الديني في تركيا وما نجمَ عنه من تقويض للسلطة الإسلامية وهيمنة الشخصيات العلمانية المتحررة التي اجترحت مواقف جديدة تعزّز قيام دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وتمنحهم الحق في إنشاء وطن قومي لليهود الذين توزعوا في الشتات أو ضاعوا في مشارق الأرض ومغاربها. وبما أن أتباع الدونمه يؤمنون بفكرة المسيح المخلِّص فقد إرتأى الباحث جعفر هادي أن يتخذ من "الفكرة المسيحانية" مدخلاً لكتابه بغية توضيح طبيعة هذا الأمل المسيحاني المنتظر الذي يتطلع إليه الملايين من اليهود وبضمنهم فرقة الدونمه التي أثارت جدلاً واسعاً منذ نشأتها وحتى الوقت الحاضر.

يشير الباحث جعفر هادي إلى أن المسيح المخلِّص لم يرد ذِكره في التوراة بشكل صريح، ولكن ثمة إشارات له ولعصره في بعض الأسفار، هذا إضافة إلى بعض الاشتراطات التي يجب أن تتوفر فيه من بينها: أنه يجب أن يكون من نسل النبي داوود، وأن يكون قاضياً ومعلِّماً للتوراة، وأن يكون نبيّاً، وأن يكون من أفضل الأنبياء بعد موسى، وأن ولادته يجب أن تكون في التاسع من آب طبقاً للتقويم العبري لأن الهيكل اليهودي بحسب التقاليد اليهودية قد دُمِّر في هذا اليوم!

ثمة موطئات وعلامات مبكرة تدلِّل على ظهوره أبرزها: لابد من ظهور النبي إلياهو بمدة قصيرة قبل ظهور المخلِّص، ولابد أن يظهر قبله مسيح آخر اسمه المسيح بن يوسف من قبيلة أفرايم حيث يخوض حروباً عديدة ثم يسقط صريعاً على أبواب أورشليم، ثم يقود المخلِّص اليهود ويأخذهم إلى فلسطين ليحكم العالم برمته. لقد استعمل أتباع الدونمه طرقاً عديدة للتعجيل في ظهور المسيح المخلِّص كالسحر، وتعذيب النفس، والإغراق في الذنوب، أو اللجوء إلى "القبلاه" العمليّة "وهو علم، بحسب الباحث جعفر هادي، موضوعه القضايا الصوفية والتأويلات الباطنية المُعتمدة على المعتقدات اليهودية"، ولكن المخلِّص لم يظهر، ومع ذلك فهناك منْ يدّعي بين أوانٍ وآخر، بأنه المسيح المخلِّص، أو أحد الموطئين أو الممهدين لظهوره، ويبدو أن الأزمات أو النكبات الكبيرة التي تصيب اليهود في مختلف أنحاء العالم تدفع بهؤلاء الدجّالين إلى تعزيز إدعاءاتهم الكاذبة ولعل أبرزهم في هذا المضمار هو الحاخام شبتاي صبي.

أوردَ الباحث جعفر هادي سبع عشرة شخصية إدعّت بأنها المسيح المخلِّص أو أحد الممهدين لظهوره وهم ثيودوس، شمعون باركوخبا، سفيروس أو سيرنوس، عوبادياه، يودغان أو يهودا، سلومون الكاهن، موسى الدرعي، سلومون والد داوود الرُئي، الحاخام أبراهام أبو العافية، أشر لاملن، داوود الراؤوبيني، أبراهام أليعازر هاليفي، ودياغوس بيرس، كما ذكر أربعة مدّعين آخرين مُجرّدين من الأسماء أحدهم من مصر، والثاني من جزيرة كريت، والثالث من مصر، والرابع لا نعرف عنه شيئاً سوى أنه يهودي وأنه أعلن عن ظهور المسيح في عام 645 م وجمع أربعمائة رجل من الحاكة والقصّارين وهجموا على أديرة المسيحين وأحرقوا ثلاثة منها ثم انتهى به المطاف إلى الصلب فيما قُتل أتباعه. لم يتوفر أي من الأدعياء الثمانية عشر على كرامة أو معجزة ويكفي أن نشير هنا إلى الشخص الذي كان يقيم في جزيرة كريت في حدود 448 م وإدَّعى بأنه موسى الذي أُرسل لكي يخلٍّص اليهود ويأخذهم عن طريق البحر إلى فلسطين من دون مراكب حيث سيفلق البحر كما فلقه موسى "ع" من قبل، وحينما نادى على البحر لم ينفلق، ومع ذلك فقد أمرهم أن يقفزوا في البحر، فغرق منْ غرق، ونجا منْ نجا، أما هو  فقد اختفى وتلاشى عن الأنظار! وعلى الرغم من الأكاذيب الصريحة البيّنة لهؤلاء الأدعياء المزيّفين إلا أن ظهورهم كان يتواصل، وهناك على الدوام من يتبعهم ويصدّق بهم، وليس أدل على ذلك من تصديق اليهود لشبتاي صبي الذي إدَّعى بأنه المسيح المخلّص، والملك، والأيّل السماوي وما إلى ذلك من ألقاب باذخة.

 

مؤسس فرقة الدونمه

لعلي لا أبالغ إذا قلت بأن فرقة الدونمه قد لا تعني شيئاً من دون مؤسسها شبتاي صبي، هذه الشخصية الإشكالية، المتناقضة، المضطربة، وغير السوّية، لكنها بالمقابل حادّة الذكاء، وميّالة إلى الدراسة والبحث والتأمل. ولد شبتاي في التاسع من آب عام 1626 م في مدينة إزمير التركيّة من أبوين يهوديّين. كان أبوه مردخاي صبي قد هاجر من اليونان إلى تركيا في حدود 1630، وكان يتمنى أن يصبح أحد أولاده الثلاثة حاخاماً، وقد حقق شبتاي له هذه الأمنية بذكائه ومثابرته المتواصلة وهو لما يبلغ العشرين من عمره. درس شبتاي القبلاه "Kabbalah" وتعمّق فيه، خاصة كتاب الزهر، وظل يعمل بدأب ونشاط واضحين على تحقيق أحلامه التي كانت سرّية أول الأمر قبل أن يعلنها ناثان المتنبيء. ثمة أشياء كثيرة في سلوكه وطريقة حياته كانت تشي بأنه شخص غير طبيعي. فقبل أن يبلغ سن العشرين من عمره عقد على امرأة، لكنه لم يقربها فطلّقها، ثم عقد على أخرى ولم يقربها فطلّقها أيضاً. كان طلابه والمقربون منه يفسِّرون هذا السلوك على أنه نوع من الطهارة والتبتّل. أما هو فقد كان يقول كلاماً غريباً مفاده أنَّ الروح القدس قد أوحى له بأنَّ زواجه من المرأة المناسبة لم يحن بعد! من الناحية النفسيّة كان شبتاي يعاني من مرض الـ " Cyclothymia" أو المزاج الدوري، وهو شكل من أشكال الاضطراب الذهني يتراوح بين النشاط والغبطة والاكتئاب والقنوط. وقد أطلق أتباعه على الحالة الأولى "الاستنارة" والثانية "استتار الوجه" والمقصود هنا "وجه الإله". وهذا التراوح بين الحالتين لابد أن يفرز نوعاً من السلوك الإشكالي وغير الطبيعي كما أسلفنا. ولعل أبرز مثال يؤكد صحة ما نذهب إليه أنه ذهب ذات مرّة إلى البحر لكي يغتسل مع عدد من الطلاب وبدأ "يصرخ نحو الشمس يطلب منها أن تتوقف، وكان تلاميذه يصرخون معه، ولكن الشمس لم تتوقف!" ص47. ومن بين أوهامه الأخرى التي ربما كان يعتبرها يقيناً أنه قال لأحد الحاخامين "أنه في أحد الليالي من عام 1648 م هبط عليه الروح القدس عندما كان يتمشى في الليل على بُعد ساعتين من المدينة حيث سمع صوت الله يقول له: أنت مُخلِّص إسرائيل، أنت المسيح بن داوود المختار من قبل رب يعقوب، وأنت المقدر لك إنقاذ بني إسرائيل وجمعهم من أركان الأرض الأربعة إلى أورشليم" ص48.

الملاحظ أن شبتاي الذي درس التوراة بشكل جيد، وتعمّق في كتاب الزهر، وألمَّ بالديانة اليهودية بشكل عام، فعندما يقول إنه وُلد في التاسع من آب فإنه يعرف جيداً أن الهيكل العبري قد دمِّر في هذا اليوم، وحينما يذكر العام 1648 م فإنه يُدرك جيداً أن كتاب الزهر قد وردت فيه الإشارة إلى أن هذا العام هو الذي يبدأ فيه خلاص اليهود. ونتيجة لهذا السلوك الاستفزازي الذي أغضب الحاخامين فقد اتفقوا على أن يطردوه من اليهودية، وهناك منْ دعا إلى قتله مثل أستاذه جوزيف إسكافا، لذلك قرر أن يغادر إلى سالونيك في بداية الخمسينات لأن فيها جالية يهودية كبيرة، وهناك سكن في بيت الحاخام جوزيف فلورنتين ولم يكف عن القيام بأفعاله الغريبة حيث أقام مراسم عقد زواج بينه وبين التوراة فغضب جميع الحاخامين الذين دعاهم للوليمة فاستصدروا أمراً بإخراجه من سالونيك، ثم ذهب إلى أثينا، ومن هناك رجع إلى تركيا عام 1658، واستقر في القسطنطينية وتعرّف على أبراهام يخيني وكان شاعراً وعالماً بعلم القبلاه. ومن جمله أفعاله المستفزة الأخرى  أنه احتفل بثلاثة أعياد يهودية في الأسبوع وهذا غير جائز في اليهودية، كما ألغى بعض أحكام التوراة، وتناول الطعام المحرّم، وعندها أصدر الحاخامون حكماً آخر بالطرد من اليهودية وجلده أربعين جلدة، وحرّموا على اليهود الاتصال به فغادر إلى مسقط رأسه إزمير. وبسبب أعماله الغريبة وحديث الناس عنه اقترح عليه أخواه أن يسافر إلى فلسطين فحزم أمتعته ورحل من دون تردد.

رحلة شبتاي إلى الشرق

غادر شبتاي إزمير عام 1662 م مُتجهاً إلى جزيرة رودس في البحر المتوسط، ثم انطلق من هناك إلى مدينة طرابلس السوريّة ومنها إلى مصر حيث تعرّف على زعيم الجالية اليهوديّة ومسؤول الخِزانة في الدولة روفائيل يوسف جلبي. ومن مصر توجّه إلى فلسطين ووصل إلى أورشليم ودخل إحدى المدارس الدينية. في تلك الفترة كان يبقى وحيداً معتكفاً في غرفته يدرس القبلاه العملية مع نفسه. لقد عمّق هذا الاعتكاف إحساسه بالكآبة التي كانت تتفاقم يوماً بعد يوم وتترك تأثيرها السلبي على معظم القرارات والمواقف التي كان يتخذها طوال حياته اللافتة للانتباه. حينما أصابت الجالية اليهودية في أورشليم ضائقة مالية عام 1663 ذهب شبتاي إلى مصر لعلاقته القوية بروفائيل يوسف جلبي، ثم تزوج هناك من سارة التي عُثر عليها بعد مذبحة جميلينكي عام 1648، وإدعّت بأن روح أبيها الذي قُتل في المذبحة المذكورة قد حلّت فيها، ثم ذهبت سارة إلى هولندا ومنها إلى إيطاليا حيث تزوجها شبتاي على الرغم من أنها كانت مُتهمة بعلاقات غير شرعيّة مع الرجال. تُسلِّط هذه الزيجة بعض الضوء على شخصية شبتاي الغريبة والمضطربة في آنٍ معاً، فهو لم يلتفت أبداً إلى سلوكها الغريب مع الرجال، ولم يُعِر الأقاويل الجارحة أي اهتمام ومع ذلك فقد تزوجها ربما لأنها كانت أخّاذة الجمال من جانب، وأنه كان يقلِّد النبي هوشع الذي قال له الرب "اذهب وخذ لنفسك امرأة زنا وأولاد زنا لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب" ص54. احتفل شبتاي بزواجه من سارة في قصر روفائيل جلبي عام 1664 وكان الاحتفال باذخاً جدا. إذا كان زواج شبتاي من سارة علامة فارقة في حياته فإن تعرّفه على ناثان المتنبيء هو نقطة تحوّل جوهريّة في حياته الدينية والفكرية والاجتماعية لما سيلعبه هذا المتنبيء من دور دراماتيكي سوف يقلب حياة شبتاي رأساً على عقب. فمن جهة أصبح ناثان المتنبيء نبي الحركة الشبتائية وكان عمره آنذاك "22" سنة لا غير، كما أخبر شبتاي بأنه هو المسيح اعتمادا على رؤية رآها في المنام! وقد صدّق شبتاي هذا الخبر، وحينما أسرّ له بميله إلى العزلة والاعتكاف وإصابته بالكآبة والقنوط أقنعه المتنبيء بأنها ذات الكآبة التي كان يعاني منها المسيح الأمر الذي خفّف عن شبتاي تداعيات أوضاعة النفسية المضطربة التي أشرنا إليها سلفا.

 

شبتاي ملكاً ومسيحاً مُخلِّصاً

في ليلة عيد الشفعوت اليهودي من ربيع 1665 م نام ناثان نوماً عميقاً ثم نهض وبدأ يقفز ويرقص إلى أن سقط على الأرض وتوقّع الحاضرون أنه قد مات، لكن بعد مدة من الزمن خرج صوت خافت من ناثان وقال: "اعتنوا بابني المحبوب ومسيحي شبتاي صبي واعتنوا بابني ناثان النبي" ص58، وعندما سأله الحاضرون عن ذلك أخبرهم بأن شبتاي هو الملك والمسيح المخلِّص. ولكي يؤكد صحة ما يدّعيه أعلن ناثان أنه عثر على ورقة في جرّة، وهي جزء من رؤية رآها الحاخام أبراهام في القرن الثاني عشر، مفادها: "أنَّ ابناً سيولد لمردخاي صبي في عام 5387 بالتقويم العبري، 1626 م ويسمّى شبتاي صبي وسيكون المسيح الحق وسيجلس على عرشي" ثم يختم قوله "وتكون مملكته أبدية، وخلاص بني إسرائيل على يديه" ص58. أما شبتاي فقد أعلن رسمياً في 28_31 مايو / مايس 1665 م أنه المسيح المخلِّص. وحينما تناهى الأمر إلى سمع الحاخامين في أورشليم أصدروا قراراً بطرده وأحاطوا القسطنطينية علماً بذلك، بل وحرّضوا على قتله لأنه نشر الكثير من البِدع التي أضرّت باليهودية وشوّهت سمعتها الدينية من جهة، كما عززت الخرافات والأساطير التي تفتقر إلى أي أساس من الصحة. ومن بين هذه الخرافات أن الناس الذين رافقوا شبتاي في أثناء عودته إلى إزمير ومروره بمدينة حلب قالوا بأنهم رأوا أشياءً عجيبة في الطريق، "حيث كان ينضّم إليهم أعداد كبيرة من الناس يظهرون ثم يختفون عند الفجر" ص65.

شبتاي ملكاً

حينما يسقط الناس في الوهم تكبر الأكاذيب مثل كرة الثلج لتعزز الخرافة التي زرعها ناثان المتنبيء وكرّسها شبتاي، فها هو شبتاي ليس نبياً حسب، وإنما هو مسيح مخلِّص وملك أيضاً. وحينما وصل إلى إزمير نُفخ في البوق وخرج الناس إلى الشوارع ينادون بأعلى أصواتهم: "عاش ملكنا، عاش مسيحنا" وفي رسالة ناثان قال: "إلى الملك، ملكنا سيد السادة الذي سيجمع شتات إسرائيل والذي سينقدنا من أسرنا" إلى أن يقول: "مسيح رب يعقوب، المسيح الحق، الأسد السماوي شبتاي صبي . ." ص66-67. وفي رسالة أخرى بعثها ناثان المتنبيء إلى روفائيل يوسف جلبي قال فيها: (أنه سمع صوتاً من الأعلى يعلن أن المسيح بن داوود "شبتاي" سيتسلّم الملك من حاكم الأتراك خلال سنة وبضعة أشهر ومن دون حرب، . . . وبعد أن يُخضع شبتاي كل ملوك الأرض سينزل الهيكل من السماء على أورشليم" ص67-68. وعلى وفق هذا التصوّر الوهمي قسّم شبتاي أقطار الأرض إلى ممالك وعيّن لها ملوكاً من اليهود المقرّبين له حتى أنه عيَّن زوجته سارة ملكة على فلسطين! وأكثر من ذلك فقد كان شبتاي صبي يوقِّع رسائله بألقاب عظيمة مبجّلة مثل "ابن الله البكر" و "أبوكم إسرائيل" و "أنا الرب إلهكم شبتاي صبي"، كما كان أتباعه يشيرون إليه بعبارة "سيدنا وملكنا جلّ جلاله"! فهل هناك مبالغة أكبر من هذا الوصف الذي أغدقوه عليه وهم الواهمون الذين لا يعرفون كم هو ثلث الثلاثة؟

 

الثأر لليهود

كان شبتاي يعرف كيف يسيطر على مشاعر العامة من اليهود ويهيمن على تفكيرهم. وأول الوعود التي قطعها على نفسه هو السيطرة على العالم برمته، ومنح هذه السلطة لليهود، كما وعدهم بالثأر من أعدائهم الذي ساموهم سوء العذاب في بعض الدول. وقد جاء في رسالة كتبها إلى يهود بولندا ما يلي: "قريباً سأثأر لكم وأسلّيكم كما تسلّي الأم ابنها، وسأعوّضكم مائة ضعف عن العذابات التي قاسيتموها وأن يوم الثأر قريب وقد قربت سنة الخلاص"ص 72. ونتيجة لهذه الروح الثأرية الانتقامية فقد بدأ أصحاب شبتاي ينظرون إلى المسيحيين وغيرهم من الديانات بعين الاحتقار وكانوا يقولون لهم: "عن قريب سنكون أحراراً في وطننا، وسوف نكون لكم سادة" ص73. وتعزيزاً للخرافات التي رسخّوها في حينه كانوا يتكلمون عن الأحداث الجسام التي وقعت بأمر من "النبي" ناثان وهي سقوط الصواعق من السماء على بيوت عبادة الكفّار، بينما لا يصيب اليهود وبيوتهم أي أذىً أو اضطراب، بل بالعكس فإن تلك الصواعق ستتحول إلى أنوار تضيء بيوت اليهود! 

لابد من الإشارة إلى شيوع ظاهرة المتنبئين في الحقبة الزمنية التي عاشها شبتاي، وقد ذكر هذه الظاهرة معاصرون وشهود عيان كثيرون، وهذا الأمر ليس بغريب، لكن الشيء الغريب أن المتنبئين كان يغمى عليهم، ويسقطون على الأرض وكأنهم مصابون بالصرع، ثم ينامون نوماُ عميقاً وكأنهم موتى ومن الصعوبة بمكان سماع صوت تنفّسهم، ثم يستفيقوا بعد نصف ساعة ويبدأون بالتنفس من دون أن تتحرّك شفاههم، ثم يقرأون نصوصاً من التوراة ويقولون إن شبتاي صبي هو مسيح رب يعقوب، ثم يقفزون واقفين وكأنهم لم يفعلوا شيئاً! يا ترى، هل هذا تواصل روحي مع وحي ما، أم أنه مرض عصابي لا يستبعد أن يكون الصرع نفسه أو مرض عصابي قريب منه ومن أعراضه؟

 

قبائل بني إسرائيل الضائعة

تقول المرجعيات اليهودية أن عشر قبائل من بني إسرائيل قد سكنت في مملكة الشمال "السامرة" وأن قبيلتين أخريين قد سكنتا في مملكة الجنوب "مملكة يهودا" في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد. وقد دمّر الآشوريون هاتين المملكتين. وقد وردت هذه الحادثة في التوراة وقالت إن ملك آشور قد حاصر السامرة ثلاث سنوات ثم استولى عليها وجلا أهلها إلى آشور وأسكنهم في حلال وعلى الخابور ونهر جوزان وفي مدن ميديا وهم هناك إلى يومنا هذا بحسب سفر الأخبار الأول. هل يعني هذا أن اليهود سوف يحاسبون العراقيين بوصفهم أحفاداً للآشوريين على السبي البابلي، وأنهم سوف يثأرون منهم كما ينوون الثأر من الألمان والبولنديين وغيرهم من الشعوب التي ألحقت بعض الأذى باليهود في الاضطرابات والحروب والأوقات العصيبة؟

يؤكد الباحث جعفر هادي بأن هذه بأن هذه القبائل اليهودية الضائعة قد اندمجت مع الشعوب التي عاشت معها، وذابت فيها، وضاع أثرها، ولكن ظهورها من جديد مرتبط بظهور المسيح المخلِّص اليهودي. ثمة إشاعات كثيرة راجت في تلك الحقبة الزمنية بأن قبائل راؤوبين وغاد ونصف قبيلة منسّه قد قدِمت إلى غزة، كما ظهرت بعض القبائل في مراكش وهي في طريقها إلى الجزيرة العربية وأنها دحرت جيش السلطان الذي أراد أن يسترجع مكة. وفي عام 1665 وصلت إشاعات مفادها أن جيوش القبائل الضائعة قد جاءت من فارس يقودها نبي إلى فلسطين وأن بعض هذه القبائل يريد الذهاب إلى ألمانيا وبولندا لأن هذين البلدين قد اضطهدا اليهود وأن جيوشهم لن ترحم الألمان والبولنديين! وفي الوقت ذاته انتشرت إشاعة أخرى عن ظهور النبي إلياهو الذي قال لرئيس الحاخامين: "إن هذا جيش بني إسرائيل، وعندها رأى رئيس الحاخامين شبتاي صبي ينزل من السماء جالساً على عرش من الذهب والألماس والياقوت وقال له النبي إلياهو: اذهب وأخبر اليهود أن خلاصهم قد قرب وأنهم يجب أن يحتفلوا" ص83. وحينما أصبحت هذه الإشاعة حديث الناس  كتب هنري أولدنبرغ، رئيس الجمعية الملكية في لندن، رسالة إلى صديقة أسبينوزا الذي قال بأنه لا يصدق الأخبار ما لم يسمعها من أناس يُعتمد عليهم في القسطنطينية. وقد وصل الأمر ببعض المسيحيين أن قالوا: "بأن تنبؤات ناثان ستتحقق وأن شبتاي سيدخل أورشليم قريباً راكباً على أسد وسير لِجامه على شكل أفعى من سبعة رؤوس" ص86، كما جاء في كتاب الزهر، وكما ورد في إحدى رسائل ناثان المتنبيء. وفي السياق ذاته فقد احتفل اليهود في كل مكان بظهور المسيح المخلِّص، كما تهيأوا للذهاب إلى فلسطين، ولكي لا نسهب في ذكر التفاصيل نكتفي بالقول إن أتباع شبتاي صبي احتفلوا في كثير من المدن الفلسطينية، كما احتفلوا في مدن وبلدان عالمية عديدة مثل هامبورغ وفرانكفورت وبولندا واليمن وتونس ومراكش وإيران والإسكندرية وحلب، وأكثروا في حينه من التوبة والندم، ومع ذلك لم يظهر المسيح، ولم تبُن في الأفق أية علامة ممهدة لظهوره المرتقب.

 

سجن شبتاي

بُغية إكمال الجزء الأخير من مهمته قرّر شبتاي أن يغادر إزمير ويذهب إلى القسطنطينية. وكالعادة فقد كان واهماً ومشوّشاَ ومريضاً نفسياً، فلا غرابة إذاً حينما يعتقد بحدوث معجزة ما، كأن يقْدِم السلطان محمد الرابع على تسليمه مقاليد الحكم. يرى الباحث جعفر هادي بأن شبتاي الذي قامت شهرته الدينية على مجرد أكاذيب وأضغاث أحلام سطّرها له ناثان المتنبيء وصدّقها هو نفسه، إنما كان يفكر تفكيراً غير معقول، ويعتمد على حسابات خاطئة وأوهام لا أساس لها من الصحة سببها حالته النفسية السيئة التي تهيمن عليه من جهة، إضافة إلى تأثير القبلاه عليه من جهة أخرى.

يعتقد الباحث جعفر هادي أن شبتاي ركب البحر إما في نهاية عام 1665م أو بداية عام 1666 م قاصداً القسطنطينية، وحينما وصل إلى هناك سجنه الصدر الأعظم فاضل أحمد كوبرلو، غير أن عملية اعتقاله كانت طبيعية بالنسبة لليهود ولم تُثر حفيظتهم لأنهم كانوا يعتقدون أن حبسه هو جزء من تحقيق معجزته ونبوءته لأن الفكرة المسبقة المأخوذة عن المسيح أنه يجب أن يتألم ويعاني قبل أن يحقق مجده، وتظهر عظمته الحقيقية للبشرية جمعاء. بقي شبتاي في السجن لمدة شهرين، ولما كان الصدر الأعظم على وشك الذهاب في حملة عسكرية، وكان السلطان في مدينة أدرنة، وبسبب وجود الاضطرابات بين اليهود قرر نقله إلى قلعة غاليبولي الواقعة على الدردنيل، ولكنه سمح لزوجته سارة وكاتبه الخاص فريمو أن يسكنا معه في القلعة. ولأن زوجته التي كانت مقتنعة مثله تماماً فقد أخذت تسلك سلوك الأميرات مع القادمين إليها والوافدين لزيارة (مسيحها المخلِّص).

لم يقف الحاخامون اليهود مكتوفي الأيدي، إذ جاء إليه الحاخام البولندي المعروف نحميا كوهن، وناقش شبتاي في موضوع المسيح المخلص وشروط ظهوره التي أشرنا إليها سابقاً. وطالما أن الشروط لا تنطبق عليه فإن إدعاءات شبتاي لا أساس لها من الصحة. ووفقاً لهذه النتيجة التي توصّل إليها نحميا قرر الذهاب إلى أدرنة لكي يخبر السلطان بأن شبتاي هو مجرد رجل فاسق، ومنغمس في الملذات، ويشجع اليهود على الثورة ضد الدولة، ناهيك عن أضغاث أحلامه، واختلاطاته النفسية التي صنعت منه ملكاً موهوماً، ومسيحاً زائفاً لا يمتلك القدرة الحقيقية على تخليص نفسه من هذه الوساس الفظيعة التي سوف تقوده إلى ما لا تُحمد عقباه.

 

تظاهره بالإسلام

أمر السلطان أن يأتوا بشبتاي إلى أدرنه، وكان الحاضرون معه كورو مصطفى باشا، قائمقام أدرنه، وشيخ الإسلام يحيى أفندي منقرة، وفاني أفندي، إمام القصر، وطبيب السلطان الخاص، الذي تحوّل من اليهودية إلى الإسلام وحمل اسم حياتي زادة مصطفى فيضي. كان السلطان يجلس وراء حجاب، بينما كان طبيبه الخاص يقوم بعملية الترجمة. لم تكن إجابات شبتاي مقنعة، الأمر الذي دفع السلطان لاختبار إدعائه الخطير وقال له أنه سيأمر بنزع ملابسه وجعله هدفاً للسهام، وإذا لم تؤذهِ هذه السهام فإنه سيكون أوّل المصدِّقين به، وإن آذته فهو رجل كاذب ودجّال يجب أن ينال جزاءه العادل.

الغريب أن هذا الرجل الذي شغل الناس في كل مكان تقريباً أنكر مجمل إدعاءاته السابقة وقال إنه مجرّد حاخام فقير ولا يتميّز على الآخرين بشيء، لكن السلطان لم يقبل منه هذا الإنكار، إذ إتهمه بإثارة الفتن والقلاقل والاضطرابات في الدولة العثمانية وأنه يريد أن  ينتزع فلسطين منها لذلك يجب أن يعاقب. اقترح عليه الطبيب أن يعلن إسلامه لينجو من العقاب فوافق شبتاي على هذا الاقتراح ولم يتردد لحظة واحدة! إذ وضع العمامة، وحمل اسمه الجديد محمد أفندي متنازلاً في رمشة عين عن فكرة تخليص العالم التي راودته منذ سنين طويلة. لبس العمامة، وأصبح حارساً لأبواب القصر، وبدأ يتعلّم اللغة العربية وأصول الإسلام على يد أستاذ خصصوه لهذا الغرض، وأكثر من ذلك فقد أعلنت زوجته سارة إسلامها أمام والدة السلطان ومُنحت اسم فاطمة قادن.

وكالعادة حاول ناثان المتنبيء وكاتبه الخاص فريمو أن يبررا سلوك شبتاي وقالا إنه تظاهر بالإسلام  لكي يثبت أنه المسيح المخلِّص مثلما تظاهر موسى المخلص الاول الذي عاش في قصر فرعون متبعاً دين الفراعنة ظاهراً، بينما كان يمارس دينه اليهودي باطنا. قد يبدو هذا التبرير معقولاً، لكن خوفه وفزعه من فكرة توجيه السهام إلى جسده العاري هي التي كشفته على حقيقته، وأظهرت زيف إدعاءاته التي أقلق بها اليهود في مختلف أرجاء المعمورة. وحينما جاء ناثان المتنبيء عام 1667 م لزيارة شبتاي في أدرنة أرسل الحاخامون ثلاثة أشخاص للتحقيق معه حول نبوءاته المتعلقة بشبتاي، وطلبوا منه الإتيان بمعجزة، ولكنه أنكر أن يكون هو صاحب معجزات، وقال إنه تنبأ بمسيحانيته. بدأ شبتاي يمارس ما يمكن تسميته بالعقيدة المزدوجة التي تجمع بين اليهودية والإسلام، فهو يتظاهر بالإسلام، لكنه يبطن إيمانه الحقيقي بيهوديته، ولم يكن مجبراً على ممارسة هذه العقيدة الإزدواجية كما كان يفعل اليهود المرانوس في البرتغال، تمثيلاً لا حصرا، وإنما كان يفعل ذلك بإرادته الحرة من دون إكراه. وأكثر من ذلك فقد دعا اليهود إلى التحوّل إلى الإسلام، ولكنح حينما رزق بطفل أسماه يشماعيل مردخاي احتفل بختانه طبقاً للتقاليد اليهودية، الأمر الذي يعزّز قناعتنا الراسخة بمرضه النفسي الذي كان يقوده إلى مثل هذه الأوهام والأخاليط العجيبة.

نفي شبتاي ووفاته

ظل الحاخامون المعارضون يشعرون بخطر شبتاي لذلك عقدوا العزم على الإتصال بمسؤول حكومي كبير هو البستاني باشا "قائد حرس القصور والحدائق" وطلبوا منه أن يدبِّر أمر سجن سبتاي مقابل مبلغ كبير من المال، فقُبض عليه هو وجماعة من أتباعه بتهم عديدة من بينها التحريض ضد الإسلام، ودعوة المسلمين إلى اليهودية، وقيل أيضاً أنهم كانوا يشربون الخمر وينشدون المزامير، ثم أخذوه مخفوراً إلى أدرنة. وحينما عاد السلطان محمد الرابع والصدر الأعظم أحمد كوبرلو باشا من الحملة العسكرية وجدا شبتاي مسجوناً. اقترح الصدر الأعظم إعدام شبتاي، لكن الحكم لم ينفّذ، ويقال إن والدة السلطان وفاني أفندي لم يكونا يرغبان في إعدامه، لذلك نفته الحكومة في صيف عام 1673 إلى "أولفن" بألبانيا، وقيل أن بعض العوائل ذهبت معه، لكنهم رجعوا إلى سالونيك بعد وفاته. وفي عام 1674 توفيت زوجته سارة التي كان مسحوراً بجمالها الأخاذ حينما كانت شابة، لكنه تزوّج في السنة نفسها من ابنة الحاخام المعروف يوسف فيلوسوف، الأمر الذي يعزز قناعتنا بأنه كان كائناً شبقاً ومنغمساً في ملذاته الجنسية ولا يعير علاقته الزوجية أي اهتمام.

توفي شبتاي في 17- سبمبر / ايلول 1676، ودُفن قرب البحر. يؤكد أتباعه بأن روح شبتاي قد فارقت جسده في وقت صلاة النعيلاه "وهي الصلاة التي يُختم بها يوم الكبور / الغفران". ، وطبقاً لما تذكره الروايات اليهودية فإن موسى النبي توفي هذا الوقت تحديدا.

لم يستسلم ناثان المتنبيء حتى بعد وفاة شبتاي، وإنما ظل يتحدث عن غيبته، لا عن موته، وأنه قد غُيّب جسماً وروحاً في يوم الغفران. وكان يقول بأن كل من يعتقد بأن شبتاي قد مات فإنه يقترف ذنباً عظيما. كما قال بعض أتباعه بأنه اختفى ليلتحق بالقبائل الضائعة التي تقيم بعد نهر سمباتيون كي يتزوج من بنت موسى، وإذا كنّا نستحقه فإنه سيرجع مباشرة بعد احتفال الزواج ليخلصنا من المحن التي نمر بها. وكان ناثان يقول: "إن منْ يذكر شبتاي حتى ولو كان ذلك بالقصص فإنه يقوم بعمل مقدّس"ص119.

وعلى الرغم من وفاة شبتاي بعد انكشاف زيف إدعاءاته إلا أن ناثان المتنبيء وعدد كبير من أتباعه كانوا يعتقدون بغيبته، الأمر الذي يضعنا أمام خرافة جديدة، لكنها موجودة في الأديان الأخرى، وما علينا إلا أن نتابع وقعها وتأثيرها على أتباعه ومشايعيه.

 

الأعمال الخارقة

نُسِبت إلى شبتاي العديد من الأعمال الخارقة، وقد إرتأى الباحث جعفر هادي حسن أن يورد سبعة منها للتدليل على إمكانية تصديق هذا النوع من الخرافات والأكاذيب الصارخة. فقد قيل أن هناك رائحة طيبة بدأت تفوح من شبتاي بعد عام 1648 أينما حلَّ وأرتحل، وقد قال شبتاي لبعض الناس أنه رأى رؤية ظهر فيها الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب ومسحوه بزيت معطّر، وأن هذه الرائحة التي يشمّونها إنما هي من ذلك الزيت المُعطّر، ولذلك يحتفل الدونمه بظهور تلك الرائحة يوم 21 من سيوان. كما نَسَبَ إليه أتباعه ومؤيدوه أن الأطفال الصغار غير القادرين على الكلام كانوا ينطقون اسم شبتاي لأمهاتهم! وأنه كان يُرجِع المجانين المختلّة عقولهم إلى صوابهم فيصبحون من أتباعه. وذات مرة، وبينما هو يناقش أحد القضاة حول معاملة الحكومة العثمانية لليهود خرج من فمه عمود نار ظل مشتعلاً لفترة بينه وبين القاضي الذي هرب وقال: "خذوه مني فإن الخوف قد اعتراني، إنه ليس إنساناً من لحم ودم" ص 121. كما أنه أماتَ الجنود الذين أرسلهم الصدر الأعظم وأحياهم بكلمة منه. وأكد أتباعه أنهم رأوه يسير في الشوارع والطرقات مع مجموعة من أتباعه على الرغم من أنه كان محبوساً في سجنٍ مقفولة أبوابه بأقفال ضخمة. وإذا كنا لا نستغرب وقوع الأعمال الخارقة الستة التي أشرنا إليها تواً فيمكننا أن لا نستغرب أيضاً أن القيود والأصفاد التي كانت موضوعة على يديه ورجليه كانت تتساقط وتتحول إلى ذهب يوزعه لاحقاً على أتباعه والمؤمنين بعقيدته. يخلص الباحث جعفر هادي إلى نتيجة مهمة مفادها أن من حق أتباع شبتاي أن يقولوا ما يشاؤون، وأن ينسبوا إليه ما يحبون من القصص، ولكن ليس على الناس أن يصدقوا ذلك. ويعتقد الدكتور جعفر هادي أن تصديق هذه الإدعاءات مردّه إلى الإيمان العميق لدى اليهود بفكرة المسيح المخلِّص الذي سوف ينقذهم من الظلم، كما يعتقدون، ويجعلهم حكاماً على الأرض وقيّمين عليها. وبطبيعة الحال فقد لعب ناثان المتنبيء دوراً كبيراً في حثِّ الناس على التصديق بأفكار شبتاي وأطاريحه الخرافية التي اجترحتها مخيلته المريضة المشوّشة، كما ساهمت الظروف الحرجة والصعبة التي كان يعيشها اليهود في أوروبا وحاجتهم الماسّة إلى مخلِّص ينقذهم من المِحن والإحن التي يمرّون بها، الأمر الذي دفعهم لتصديق تلك الإدعاءات المفضوحة.

أسرار فرقة الدونمه ودورها في المجتمع التركي الحديث

 

خصّص الباحث جعفر هادي حسن الباب الثاني من كتابه لفرقة الدونمه وفروعها وأصولها وتعاليمها وأعيادها ودورها وتأثيرها على المجتمع التركي منذ نشوء هذه الفرقة وحتى الوقت الحاضر. تعني الدونمه المتحوّلين من دينهم أو المرتدين عنه وهي كلمة تركية أطلقها الأتراك المسلمون على أتباع شبتاي الذي تظاهروا بالإسلام كما تظاهر زعيمهم ومؤسس فرقتهم، كما تعني من وجهة نظر اليهود المنشقّين عن طائفة ما. أما الدونمه فيطلقون على أنفسهم صفة المُؤمنين أو المُصدّقين بشبتاي صبي. يقول الباحث جعفر هادي بأن الدونمه تعتبر واحدة من أغرب العقائد التي يصادفها الباحث في موضوع الفرق والأديان، ووجه الغرابة فيها أنّ أتباعها يتظاهرون بالإسلام ويلتزمون بالشعائر الإسلامية، لكنهم يؤمنون باليهودية ويمارسونها سرّاً. يفسِّر علماء الدونمه أن إظهار شبتاي للإسلام هو مقدمة لخلاص اليهود، ويسمون هذه المرحلة بـ "القلفّاه" التي تعني قشرة أو روح شرّيرة وخبيثة. ويشبههم الباحث بالمرانوس في إزدواجية العقيدة، لكن الفرق الوحيد بينهما أن المرانوس أُجبروا على اعتناق المسيحيّة، بينما لم يجبر الدونمه على ذلك، بل هم الذين اختاروا التظاهر بالإسلام على الرغم من مقتهم الشديد له. ولهذا السبب يرى الباحث جعفر هادي أن الناس لا يستطيعون أن يفرِّقوا بين الدونمه والملسمين، وكيف لهم أن يميزوا، كما يتساءل الباحث، وهم يؤدون الشعائر الإسلامية ويتسمّون بأسماء المسلمين؟

لم يستمر هذا الإلتباس طويلاً، ففي بداية القرن العشرين بدأت الدونمه تتكشف حينما حصل بعض الباحثين على كتبهم ومصادرهم الأساسية التي تضم عقائدهم وتعاليمهم التي كانت تمارس بسرية تامة في بيوت العبادة التي لا تختلف كثيراً عن بيوت الدونمه ومنازلهم الاعتيادية. ويخلص الباحث إلى القول بأن فرقة الدونمه لا تعني شيئاً من دون شبتاي فهو المسيح والمخلِّص والمُنتظر والمُؤمّل والمُنقذ وما إلى ذلك من ألقاب باذخة ومؤثرة.

 

من أصول الدونمه وتعاليمها

يؤمن أتباع الدونمه بإله واحد وبمسيحه المخلِّص شبتاي صبي حفيد الملك داوود. ويجتمعون في السادس عشر من شهر كسلو ليناقشوا أسرار عقيدة مسيحهم. لا يجبرون أحداً على اعتناق العقيدة الإسلامية على الرغم من أنهم يتظاهرون بالإسلام على الدوام. يقرأون التوراة ومزامير داوود كل يوم بسرّية تامة، ومع ذلك فهم يطبِّقون التعاليم الإسلامية بحذافيرها أمام الناس حتى لا يثيروا شكوكهم. يصومون شهر رمضان، ويؤدون الفرائض الإسلامية المُتعارف عليها بما فيها الحج بغية التمويه على ممارسة طقوسهم اليهودية. لا يتزوجون من عائلة مسلمة، ولا يصادقون أحداً من المسلمين، ويمقتون نساءهم على وجه الخصوص. يختنون أولادهم، ويؤمنون ايماناً مطلقاً بأن شبتاي صبي جلَّ جلاله هو الذي سيجمع شتات إسرائيل من أطراف الأرض الأربعة، ويؤمنون بأن إله إسرائيل، إله الحق سيرسل من الأعلى هيكلاً مبنياً كما ذُكر في التوراة. ومن معتقداتهم الأخرى أن الكون قد خُلق من أجل الدونمه، وأن المسلمين مخلوقون من أجل حفظهم، تماماً مثل البيضة التي يحفظها قشرها. وهم يعتقدون أن البشر من غير اليهود هم قلفّاه، وأن أرواحهم مثل أجسادهم سوف تذهب إلى العالم السفلي. ومن هنا يمكننا أن نستشف أن الدونمه يمقتون الإسلام مقتاً شديداً، بل أنهم يزدرون الأديان الأخرى أيضاً ويعتبرونها مثل القشرة التي تحفظ البيضة، وأن أتباع الدونمه هم الوحيدون الذين تذهب أرواحهم إلى السماء، أما أرواح أتباع الأديان الأخرى فإنها تذهب إلى العالم السفلي!

أشِرنا غير مرّة إلى أن الدونمه يبطنون اليهودية ويظهرون الإسلام وأنهم يؤدّون الفرائض الإسلامية كلها إلى الدرجة التي يصعب فيها تفريقهم عن المسلمين، ولكنهم يمارسون عباداتهم الحقيقية في معابدهم الخاصة في أحد بيوت الأثرياء غالباً وبنوع من السرية التامة. ولكي يصلّوا صلاة جماعية لابد من توفر عشرة أشخاص بالغين، وصلاتهم تشبه صلاة اليهود لكنهم "أي الدونمه" يبدلون العقائد الثلاثة عشر بعقيدتهم في شبتاي. لكل فرد من أفراد الدونمه اسمان، الأول يستعملونه بين المجتمع الذي يعيشون فيه، والثاني يستعملونه بين أفراد فرقتهم، ولا يتزوجون إلا فيما بينهم، ويعتقدون أن المرأة إذا تزوجت من غير الدونمه فإنها تذهب إلى النار. يتزوج أتباع الدونمه في يومي الاثنين والخميس ويكون زواجهم يهودياً، لكنهم يذهبون إلى قاضي المسلمين لإجراء العقد على وفق الطريقة الإسلامية. لا يعتبر أتباع الدونمه يوم السبت عطلة، ولهم يوم في السنة يعترفون فيه بذنوبهم. ولهم عدد من المقابر الخاصة في سالونيك وإستانبول، وهم يكتبون تاريخ ولادة الشخص المتوفي بالهجري ووفاته بالميلادي، ويضعون حجراً على القبر باعتباره تعويذة لطرد الشر. يدرسون المزامير والقبلاه ويهتمون كثيراً برسالة كتبها شبتاي تحت عنوان "سرّ العقيدة". لأتباع الدونمه كتب صلوات صغيرة حتى يسهل إخفاؤها وهي للمناسبة نفس الطريقة التي يتبعها المرانوس. للسمكة أهمية خاصة عندهم لذلك يضعون مجسّماً أو صورة لها في بيوتهم، وعند الزواج يرسمون صورة سمكة على عتبة الباب لتجتازها العروس على أمل الحصول على ذريّة كثيرة. وقد سبق لشبتاي أن لفّ سمكة كبيرة ووضعها في المهد، وكان يعتقد أن خلاص اليهود سوف يكون تحت رمز الحوت، أما المهد فهو يشير إلى النمو البطيء لخلاص اليهود عن ظهور المخلِّص. وهذه الفكرة موجودة في التقاليد اليهودية التي يكيّفها شبتاي غالباً لأغراضه الخاصة.

 

فروع الدونمه

يقسّم الباحث جعفر هادي حسن الدونمه إلى ثلاثة فروع انشقت عن بعضها وهم اليعقوبيون والإزميريون والقره قش. سُميَّ الفرع الأول باليعقوبيون نسبة إلى يعقوب قريدو الذي استقر في سالونيك منذ عام 1680 وتظاهر بالإسلام. أعلن يعقوب أنه الممثل الشرعي لشبتاي وسانده في إدعائه أبوه فيلوسوف، كما سانده الحاخام يوسف فلورنتين. يعمل الكثير من اليعقوبيين موظفين في أروقة الدولة، وهم مندمجون بالمجتمع التركي، ويجيدون الكلام باللغة التركية أفضل من الفرعين الآخرين، وهم أكبر فروع الدونمه عددا.

أما الإزميريون فنسبتهم تعود إلى مدينة إزمير التي وُلِد فيها شبتاي صبي. أكثر أفراد هذا الفرع هم من المهندسين والمعلمين والمحامين، وهم أثرى من أتباع الفرعين الآخرين. كانوا حلاقين وصانعي طرابيش هاجر بعضهم إلى الأميركيتين في القرن التاسع عشر، لكنهم رجعوا إلى تركيا بعد سنوات.

أما الفرع الثالث والأخير فهم القره قش الذين انشقوا عن الإزميريين " أو اليعقوبيين" عام 1690 م تزعم مصطفى جلبي هذا الفرع لفترة عشرين سنة، ثم رأسه من بعده بروخيا روسّو الذي أُطلق عليه فيما بعد عثمان بابا. إدَّعى بروخيا أنه الممثل الحقيقي لشبتاي، وفي عام 1761 م إدَّعى بأن روح شبتاي الإلهية قد حلّت فيه، وأخذ يحلِّل محرّمات الشريعة اليهودية مثل العلاقات الجنسية وزيجات الأقارب المحرَّمة، وإدَّعى بأن هذا الأمر يعجِّل بظهور المسيح المخلِّص. وقد عُثر على رسائل تؤكد على وجود علاقة جنسية قائمة بين المحارم ليس على أساس عاطفي، وإنما كواجب ديني. ثم خلّفه في رئاسة هذا الفرع درويش أفندي وهو نفسه الشاعر المعروف يهودا ليفي طوبا. يعتبر القره قش من فقراء الدونمه فجُلُّهم من العمّال والحاكة والإسكافيين وأصحاب الدكاكين والقصابين، وكل فرع من فروع الدونمه له عبادته ومقبرته الخاصة.

 

أعياد الدونمه

توسّع الباحث جعفر هادي حسن في الحديث عن أعياد الدونمه الستة عشر وسنكتفي بالإشارة إلى بعضها، "عيد 14 سيوان" وهو عيد الثمار أو الزروع، "17 سيوان" وهو العيد الذي أعلن فيه شبتاي أنه المسيح المخلِّص، "21 سيوان" وهو اليوم الذي مسح فيه الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب شبتاي بالزيت المعطّر، "24 سيوان" وهو عيد تقديس شبتاي من قبل ناثان المتنبيء، "9 تموز" وهو اليوم الذي أُوحي فيه إلى شبتاي بأنه سيكون المسيح المخلِّص، "23 تموز" هو عيد الأنوار، "24 تموز" هو عيد تشريف زوجته سارة، "3 آب" وهو اليوم الذي انتصر فيه شبتاي على الحاخامين الذين ناقشهم في مصر، "9 آب" وهو اليوم الذي وُلد في شبتاي، "15 آب" وهو اليوم الذي أصبح فيه شبتاي في نظر الدونمه ملكا، "16 كسلو" وهو اليوم الذي نجا فيه شبتاي من الغرق. الملاحظ أن أغلب هذه الأعياد تحتفي بشبتاي وتركز على حوادث مستمدة من حياته الخاصة. وفي هذا السياق لابد لنا من التوقف عند الاحتفاء بليلة الحَمَل وما يتخللها من تبادل للزوجات. يحدث هذا الطقس الديني في ليلة 22 آذار التي تُسمّى بـ "ليلة الحَمَل" حيث يلتقي مجموعة من الأزواج والزوجات، ثم يصلون صلاة طويلة، وبعد نضج طعام الحَمَل يُوزع العشاء على الحاضرين، ثم تُطفأ الأنوار وتبدأ عملية تبادل الزوجات. ويذكر الدونمه أن الأولاد ليلة الحَمَل يكونون مميزين لأن شبتاي يحضر هذا الاتصال الجنسي. وجدير ذكره في هذا السياق أيضاً أن بروخيا قد حلّل العلاقة الجنسية الممنوعة مع المحارم.

 

الدونمه في تركيا الحديثة

يعود بنا الباحث جعفر هادي حسن إلى عام 1923 م وهي الحقبة الزمنية التي أُجبر فيها بعض رعايا تركيا وبضمنهم الدونمه على مغادرة سالونيك، مركزهم الرئيس والهجرة إلى تركيا في عملية تبادل السكان المعروفة بين تركيا واليونان. وقد استقر أكثر الدونمه في إستانبول وأدرنة وأنقرة وإزمير، وقد قُدر عددهم بين "10" إلى "15" ألف نسَمة، ولكن الوثيقة السرية التي بعثها السفير البريطاني لوزارة الخارجية والمؤرخة في 29 مايو / مايس 1910 ذكرت أن عدد سكان سالونيك هو "140" ألف مواطن، "80" ألف منهم يهودي إسباني و "20" ألف من فرقة شبتاي "ليفي" أو اليهود الباطنيين الذين تظاهروا بالإسلام.

يؤكد الباحث جعفر هادي بأن الدونمه قد لعبت دوراً مهماً في الحياة السياسية والاقتصادية في تركيا من خلال مشاركتهم الفعّالة في جمعية "الاتحاد والترّقي" التي قادت الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني في بداية القرن العشرين ولا يزال تأثيرها موجوداً حتى اليوم. ويرى الباحث أن هذا الدور قد بدأ حينما أسس عمانوئيل كراسّو، وهو محامٍ من سالونيك، محفلاً ماسونياً أسماه "مسدونيا ريزورتا" وأقنع رجال رجال تركيا الفتاة ضباطاً ومدنيين بالانتماء إلى الماسونية. وكان هدفه الرئيس هو سيطرة النفوذ اليهودي على الأوضاع الجديدة في تركيا، وقد تظاهر بمنحهم الأمن والأمان في محفله الماسوني المقام أصلاً في بيت أجنبي له حصانة ضد التفتيش والمراقبة. تكشف الوثيقة السرية التي ترجمها الباحث جعفر هادي عن الشخصيات اليهودية المعروفة التي لعبت دوراً مهماً في السياسة التركية الحديثة نذكر منهم عمانوئيل رفائيل سالم، وهو محامٍ مختص بالقانون الدولي، وأبراهام غلانته الذي أصبح عضواً في مجلس الأمة، وأستاذاً في جامعة إستانبول. ومن اليهود الاتحاديين يمكننا الإشارة إلى نسيم مصلياح الذي كان ممثلاً لمدينة إزمير في مجلس الأمة أيضا. أما الصحف التركية التي كان يدعمها اليهود فهي صحيفة "تركيا الفتاة" التي يرأس تحريرها فلاديمير جابتونسكي، الروسي الأصل والصهيوني المتشدّد المعروف. وصحيفة "شفق" التي تُموّل بأموال يهودية، وكانت تروِّج في حينه بأن مصر هي جزء من إسرائيل المستقبل. وصحيفة "طنين" التي يرأس تحريها حسين جاهد بك الذي كان مستشاراً للوزير محمد جاويد بك، وكان عضواً في مجلس الأمة. وصحيفة "رصد" التي يديرها من باريس مظلوم حقي وكانت المقالات والأعمدة المنشورة فيها تثير غضب السلطان.

لعبت ساسة الدونمه دوراً بارزاً في الحياة السياسية التركية، فمحمد جاود بك الذي كان أبرز قادة الاتحاد والترقي قد أصبح وزيراً للمالية ثلاث مرّات، وكان حفيداً لبروخيا، مؤسسة فرقة القره قش، وقد أُتهم بقيادة المعارضة ومحاولة اغتيال كمال أتاتورك، وقد أعدمه أتاتورك عام 1926 على الرغم من توسط عدد كبير من الماسونيين والتماسهم بعدم تنفيذ هذا القرار. أما طلعت بك الذي كان وزيراً للداخلية، وهو من أصل غجري من أدرنة، وجاود بك، وزير المالية فقد كانا يمثلان الماسونية في تركيا، وكان يحسب لهما حسابا حقيقياً وذلك لخطورة الأدوار المناطة بهما. ومن الشخصيات الدونمية الأخرى محمد قبانجس، رئيس بلدية سالونيك، ومصرفي كبير كان يموّل جمعية الاتحاد والترقي. ورمزي بك، أحد قواد الجيش وقد أصبح رئيساً لمساعدي السلطان محمد رشاد وأخوه الذي كان مسؤولاً عن السلطان عبد الحميد في سالونيك بعد خلعه.

ثمة شخصيات بارزة أخرى من الدونمه مثل نزهت فائق ومصطفى عارف، وكان الأخير وزيراً للداخلية بعد الانقلاب، ومصلح الدين عادل الذي كان نائباً لوزير التربية. لم يقتصر دور الدونمه على الرجال حسب، وإنما امتد إلى النساء أيضاً، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى خالدة أديب التي لعبت دوراً بارزاً في جمعية الاتحاد والترقي، وهي أديبة وكاتبة نشرت بعض الكتب والمقالات. كانت تنتقد السلطان عبد الحميد، وكان لها تأثير كبير على حسين جاهد بك ومصطفى كمال. يؤكد الباحث جعفر هادي حسن بأن كمال أتاتورك كان من الدونمه بحسب دائرة المعارف اليهودية، وهذا هو رأي الإسلاميين المعارضين، لكن الحكومة التركية تنكر ذلك.

لم ينحسر دور الدونمه في النصف الثاني من القرن العشرين، فمن الشخصيات الدونمية البارزة التي لعبت دوراً مهماً في الحياة السياسية والثقافية أحمد أمين يلمان، رئيس تحرير صحيفة "وطن"، وعبدي أبكجي، رئيس تحرير صحيفة "مليّت" الذي أغتيل عام 1978م.

يقدّم الباحث جعفر هادي بين ثنايا هذا الكتاب معلومات شيّقة ومثيرة من بينها أن رحشان آرال، زوجة رئيس وزراء تركيا الأسبق بولند أجويد هي من الدونمه، وكانت في حينه رئيسة لحزب الشعب الجمهوري، ثم أصبحت نائبة للرئيس بعد أن أصبح زوجها رئيساً له بعد إخلاء سبيله من السجن. ومن الدونمه من جهة الأم رئيسة وزراء تركيا في التسعينات تانسو تشيلر. وثمة شخصيات أخرى من الدونمه مثل أطلان أويمن، الصحفي المعروف الذي أسس وكالة "أنكا" وترأس لاحقاً حزب الشعب الجمهوري في تسعينات القرن المنصرم، وساهر طلعت عاكف، رئيس المحفل الماسوني الأكبر في تركيا حتى وفاته عام 1999 م.

يشير الباحث جعفر هادي إلى عدد من العائلات الدونمية البارزة مثل عائلة دلبر وبزمن وأبكجي وكوينكو ودنجلري وقرقش، ويذكر أيضاً بأن الدونمه قد أسسوا جامعة "أُشك" عام 1996-1997. يورد الباحث في كتابه عدداً من الكتب المهمة التي صدرت عن الدونمه من بينها كتاب محمد شوكت إبجي، وهو إسلامي معروف "يهود أتراك أو شبتائيون؟" عام 2000 خلاصته أن عدّة آلاف من الدونمه يسيطرون على شؤون البلد. وكتاب "أفندي: السر الكبير للأتراك البيض" لصونر يلجن نُشر عام 2004 خلاصته أن الشبتائيين هم حقيقة دامغة بيننا، ولا يمكن أن يكتب تاريخ تركيا من دونهم. وقد طبع هذا الكتاب خمسين مرة لأن الإقبال عليه كان شديداً، وقد أتُهم بعدائه للسامية. يختم الباحث كتابه بالإشارة إلى أن عدد الشبتائيين كما ذكرته صحيفة الجوِيش كرونيكل في تسعينات القرن الماضي هو "44 " ألف مواطن، ولكن زورلو قدّرهم بأكثر من هذا العدد بكثير.

على الرغم من أهمية فرقة الدونمه ودورها في مختلف مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في تركيا وغيرها من بلدان العالم إلا أن هذا الكتاب القيّم يكاد يتمحور في جزء كبير منه على شخصية شبتاي صبي التي شغلت العالم سنوات طوالا وأقنعت آلافاً مؤلفة من الناس بأنها المسيح المخلِّص الذي سوف ينقذ اليهود من المظالم التي يعانون منها، ويعيد للعالم المرتبك توازنه. وفي الختام لابد من الإشارة إلى سلاسة أسلوب الباحث جعفر هادي حسن وعذوبة لغته، وقدرته السرديّة في تصوير الوقائع والأحداث التي مرّ بها مؤسس هذه الفرقة من جهة، وأتباعه من جهة أخرى حتى ليشعر القاريء بأنه يقرأ نصاً سردياً إبداعياً متوهجاً أكثر منه مادة فكرية بحثية تُعنى بشؤون الفرق والأديان واليهودية.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1785 السبت: 11 / 06 /2011)

 

 

في المثقف اليوم