قضايا وآراء

الزيارات المليونية .. في قراءة نفسية – سياسية / قاسم حسين صالح

 بمناسبة أربعينية الأمام الحسين (ع) في (2-5 شباط -2010) بلغ في البدء اربعة ملايين ..ثم عشرة ملايين ..ثم اثنا عشر مليونا وفقا لتصريح وزير الأمن الوطني..ثم اربعة عشر مليونا عراقيا ومائتا الف أجنبي وفقا لما ذكره امام كربلائي في خطاب بث عبر قنوات فضائية مساء الجمعة، 5/2/2010

 

وفي عام 2011 صرح مسؤولون في كربلاء مساء الأحد 23/1/2011 عبر فضائية (الحرّة عراق) ان عدد الزائرين لمدينة كربلاء في اربعينية الامام الحسين زاد على أحد عشر مليونا عراقيا ،ثم وصل في يوم الزيارة (25/1/2011) الى خمسة عشر مليونا عراقيا وأربعمائة ألف أجنبي من ثلاثين دولة.وسيبقى العدد بالملايين في الأربعينية المقبلة عام 2012.

وفي العاشر من محرّم هذا العام (13/12/2011 ) الذي نقلت مراسيم احياء ذكرى استشهاد الامام الحسين (54 ) فضائية،بلغ عدد الزائرين لمدينة كربلاء بحدود ثلاثة ملايين زائر بينهم أجانب ايضا.

وفي زيارة الامام موسى الكاظم في (9/8/2007)افادت القنوات الفضائية التي واكبت المسيرة بأن عدد الزائرين كان بين مليونين وثلاثة ملايين زائر معظمهم جاء سيرا على الاقدام رغم شدة الحرّ في آب اللهّاب.

 

ومع عدم الأتفاق على الأعداد الحقيقية لهذه الزيارت فان الأحداث تشيرالى حقيقتين:

الاولى: ان عدد الزائرين يعدّ بالملايين.

والثانية: ان عدد الزائرين بهذه المناسبات ينمو باضطراد.

توطئة

قد يثير هذا الموضوع حساسية بعض السياسيين من " الأفندية والمعممين " الذين يستثمرون بساطة الوعي ويوظفون المشاعر والمعتقدات لدى العامة من الناس بدوافع دينية لصالح أهداف سياسية شخصية وفئوية..

وبدءا ، أنا اجلّ ألائمه والأولياء من مختلف المذاهب، لأن بينهم من رفع السيف بشجاعة نادرة بوجه الحاكم الظالم وقتل شهيدا" من أجل الحق وإقامة العدل بين الناس ، وبينهم من حارب الحاكم المستبد بالكلمة وفضح أمره أمام الله وخلقه فنال منه ما نال من سجن واضطهاد وظل واقفا" بشموخ ، ومنهم من ترك لنا ذخيرة لا تنضب من الفكر النيّر الذي يدعو إلى الانتصار للحق والخير والتفاني في سبيل المبدأ ، والكلّ يحني رأسه أمام هذه النخبة الفذّة التي سمت بالقيم الإنسانية وانتصرت للحق والخير والسلام وتقديس قيمة الحياة.ولا فرق عندي بين رجل دين ورمز وطني وقائد شيوعي وقفوا بوجه طاغية مستبد فأفناهم.

تلك توطئة حتى لا تؤول قولي " عمامة " وضعت على رأس من لا يحمل صفاتها أو صاحب جبين كواه او " لحية " أطالها بمكر خبيث لغرض آخر غير الدين، فأنا ما زلت ازور أضرحة ألائمه والأولياء واحني رأسي قبل دخول الضريح ، واجلّ واحترم كلّ " عمامة " عربية أو إسلامية ومن يكرم " لحيته " من الافندية ، الذين ينتصرون للمبادئ الإنسانية السامية ويتقون الله قولا" وعملا" ويحترمون قيمة الحياة ، واقبّل أيادي كلّ عمامة موقّرة ولحية مباركة تجد حلا" لمحنة العراق والعراقيين .

 

مدخل

لقد قدمنا في موضوع سابق تحليلا لهذه الظاهرة اشرنا فيه الى ان طائفة الشيعة تعرضت بعد الانتفاضة الشعبانية عام (91) الى اضطهاد وقسوة ودفن الآف منهم في مقابر جماعية،وأن هذه الزيارات المليونية تأتي لتقول للآخرين :اننا هاهنا موجودون ولن يستطيع اي طاغية افناءنا..وأننا نتكاثر بالملايين. وأن مشاركة زائرين من دول عربية واجنبية تجاوز عددهم مائتي الف عام 2010 واربعمائة الف عام 2011،تهدف الى تحقيق توحّد شيعي عالمي بين شيعة العراق وشيعة البلدان الاخرى يشعرهم بان احدهم للاخر نصيرا وان تباعدت المسافات واختلفت الاوطان ،وانهم قوة عالمية يجب ان تحظى بالمهابة والاحترام. فضلا عن حالة الشعور بالتماهي،الذي يعني بالمفهوم السيكولوجي أخذ صفة أو أكثر من شخص يعدّ أنموذجا وتمثلها نفسيا وسلوكيا، أو تمّني الانسان أن يكون بمثل الشخص المتماهى به.. مصحوبا بتعظيم قيمه ومثله العليا.

 

ولأن الحسين يمثل أنموذجا فريدا للأخلاق السامية ، وبطلا ثوريا ومنقذا مخلّصا للمظلومين والفقراء،فانه يتم من خلال عملية التماهي (التوحّد) استدخال قيم راقية تطرد رذائل النفس فيشعر المتماهي براحة نفسية كما لو أنه دخل حماما وازاح الأوساخ من جسمه، فضلا عن أن لدى عدد كبير من الزائرين معتقد أن زيارتهم الامام الحسين ودعاءهم في ضريحه يحقق لهم حاجاتهم وأمنياتهم.

 

لقد روى لي بعض الذين شاركوا في تلك الزيارات أمورا تستدعي التساؤل..فعلى طول الطرق المؤدية الى كربلاء من وسط العراق وجنوبه ،كان الطعام والماء والخيام والتسهيلات الأخرى مؤمّنة للملايين.فوجبة الفطور..صمون وأجبان مثلّثات وبيض مسلوق وعلب حليب وبسكويت وكيك دائري(جرك) وشاي.ووجبة الغداء..رز في (بلم بلاستك) وقيمة وفاصوليا وتمن برياني عليه قطعة لحم وخبز وخضروات وبرتقال وموز. ووجبة العشاء..لفّات فلافل وشيش كباب وسلطه وبيض مسلوق.والأكل بوجباته الثلاث نظيف جدأ..والكعك والعصائر والشاي وخلطة من التمر والراشي والسمسم متوافرة طوال اليوم .

 

فلو افترضنا ان ثمن هذه الوجبات الثلاث للفرد الواحد هو عشرون ألف دينارا،فكم يكون المبلغ لخمسة عشر مليون زائر؟..بالمليارات طبعا،وليوم واحد..ولك أن تضاعف هذه المليارات بعدد أيام الزيارة..فمن هو مصدر،أو مصادر، هذه الأموال الطائلة؟

 

لقد افاد عدد من الزائرين أن أحد المصادر العلنية هو الأحزاب الأسلامية السياسية الموجودة في السلطة (باستثناء التيار الصدري)..وأن هنالك تنافسا فيما بينها لكسب أكبر عدد من الزائرين في عملية الهدف منها سياسي أكثر منه ديني.

 

والتساؤلات هنا:

* لو ان الحاجات الخدمية مؤمّنة لهذه الجماهير المليونية..اعني توافر الكهرباء والماء والحياة المعيشية الكريمة ..

* ولو أن لكل فرد عراقي حصته من النفط محددة في الدستور براتب شهري قدره مئة دولارا..

*ولو أن التغيير لم يفرز فئتين:قلّة استلمت السلطة وتنّعمت وترفّهت،وكثرة مطلقة ازدادت فقرا وتعاسه وبطالة..

*ولو ان الاحزاب الاسلامية السياسية توقفت عن تقديم الطعام والشراب والخيام وصرف المليارات على هذه الزيارات..

*ولو أن التوعية الدينية توظّف للتثقيف بالمباديء الأنسانية لثورة الامام الحسين في مقارعة الظلم وتحقيق العدالة الاجتماعية والقيم الراقية..ومحاربة الفساد الذي ما صار يعدّ خزيا في العراق..مع أن من في السلطة من يعدّ الحسين جدّه!..

* ولو أن الذين يغيبون عن أداء أعمالهم الوظيفية خمسة أيام بهذه المناسبة،تحاسبهم مؤسساتهم الحكومية..

 

أقول..لو أن هذه تحققت كلها فهل يبقى هذا الزحف بالملايين في زيارة العاشر من محرم واربعينية الامام الحسين ؟.أعني أن تكون الزيارة خالصه لوجهه الكريم ومنزّهة من أغراض سياسية وحاجات نفسية وطلبات بتحقيق أمنيات لاسيما بين أوساط النساء..هل تبقى بحجم العشرة ملايين؟.

وتساؤلان أحدهما قد يكون محرجا لهم ولنا: لو أن ما يصرف على هذه الزيارات المليونية يوظف في بناء مدارس  للأطفال أو دور للأيتام أما كان هذا أنفع واثوب؟.ولو ان هذه الجماهير المليونية قررت،على افتراض،انها ستعطي اصواتها في الانتخابات التشريعية المقلبة للأحزاب العلمانية..فهل ستواصل الأحزاب الاسلامية الصرف عليها؟!.

 

اننا نريد للامام الحسين،بعد أن صارت وسائل الاتصال وسيلة للثورة عبر العالم،أن يكون رمزا انسانيا لمقارعة الظلم أينما وحيثما وجد، ومثالا للنزاهة وقدوة للناس والحكّام..وأن تكون الزيارة خالصة لروحه الطاهرة واقتداءا بمبادئه واخلاقه النبيلة وقيمه الراقية.

 

لكن مقاربة الأحداث تفضي الى القول:

لو أن الحسين خرج الآن شاهرا سيفه من أجل اصلاح حال الشباب الذين تزيد نسبة البطالة بينهم أضعاف ما هي عليه في تونس، وتغيير سلطة صار العراق في زمانها أفسد دولة عربية بعد الصومال ورابعها على مستوى العالم..لتوحّد معظم الذين هم في السلطة وحاربوه..أليس التمسك بالسلطة كان هو السبب في استشهاده ،مع ان يزيد،الذي صار خليفة بالقوة، يعلم ان الحسين هو حفيد النبي الذي أسس الدولة الآسلامية  والذي يدين بدينه؟!.فضلا عن انه لا وجه للمقارنة بين الحسين..النقي التقي الطاهر الورع..وبين أحمق خمّار!.

 

البحث عن مخلّص

في زيارة الأمام موسى الكاظم  في ( 9 /8 /2007 ) أفادت القنوات الفضائية التي واكبت المسيرة بأن عدد الزائرين كان بين مليونين إلى ثلاثة ملايين معظمهم جاء سيرا" على الأقدام برغم شدة الحر في آب اللهاب .

ولنا أن نتساءل عن الأسباب وراء هذا العدد المذهل من الزائرين في ظروف الحر الشديد وعلمهم المسبق بأنهم قد يتعرضون إلى الموت بعبوات أو أحزمة ناسفة أو تفجير سيارات مفخخة أو قذائف من مدافع هاون وغيرها من وسائل الموت التي تعددت في حينه بما فيها تسميم مياه الشرب:

هل فعلا" أن السبب كان دينيا" وأداء شعائر واجبة ، أم أن ورائها أسبابا سياسية وإعلانا" تحذيريا" على لسان طائفة تريد أن تقول للخصوم والأعداء والمحايدين " مهما صار بنا فنحن ها هنا موجودون " ؟ .

وإن كان وراء هذا الحشد البشري الضخم " سياسة "..اعني تعبئة سياسية من أحزاب دينية ـ سياسية فأنني اترك الأمر للمحللين السياسيين ، فما يعنيني هنا هو الأسباب السيكولوجية ليس إلا .

لقد تابعت أيامهاعددا من المقابلات التي أجرتها قنوات فضائية مع زائرين وزائرات ، فوجدت أن لديهم حاجات يأملون تحقيقها من هذه الزيارة حددوها في إجاباتهم على ألسنتهم بالأتي :

• نريد الأمان ( أولادنا تكتلوا " قتلوا " واحنه عايشين بخوف والى متى  نظل اليطلع من بيته ما يدري بروحه يرجع لو يموت .

• ونريد الكهرباء .. الله أكبر طكت أرواحنا .

• ونريد السياسيين يتصالحون ويديرون بالهم على الشعب مو يظلون يتعاركون على الكراسي والشعب حال الضيم حاله .. يزي عاد تره شبعنا تعب.

 

هذا يعني أن زيارة هذه الملايين لضريح الإمام موسى الكاظم كانت : عرض مظالم وتقديم طلبات لتحقيق حاجات عامة تتصدرها حاجتهم إلى الأمان .

ونسأل : إن الذي أرعب الناس وافقدهم الأمان هم : القاعدة وقوات الاحتلال والمليشيات وعصابات الجريمة ، فما الذي يفعله الإمام بقتلة مجرمين نسفوا حتى أضرحة أحفاده من الأئمة الأطهار وقتلوا الآلاف من الناس المسالمين والنساء والأطفال الذين لا علاقة لهم بالسياسة وبالطائفية ؟ ! .

ربما سيكون جوابهم : إن للإمام جاها عظيما عند رب العالمين..وجوابنا : وهل أن  الله سبحانه غافل عما يفعلون ؟!

وكانت حاجتهم الثانية : " نريد الكهرباء " .

ونسأل مرة أخرى: ما شأن الإمام " ع " بتوفير الكهرباء للناس ؟. هل أن وزير الكهرباء " ظام " هذه النعمة عن الناس وان الإمام سيؤنبه ويأمره بتوفيرها إلى عباد الله . وإذا أجاب الوزير بأن قلبه " محترق " على الناس ولكن " ما بيدي حيله " فهل يأمر الإمام الحكومة بشراء المولدات العملاقة ، وأنها ستستجيب لأمره فورا" فتنير العراق من زاخو إلى أم قصر ؟ !

وكان الطلب الثالث للمسيرة المليونية هو " إصلاح حال السياسيين " .

لقد مضى على دعواتهم تلك أربع سنوات فحصل أن تغير حال السياسيين ولكن الى الأسوأ،فهل عجز الأمام عن اصلاح حالهم ام أنه تغاضى عن طلبهم لأنهم لا يستحقون؟!

الجواب لا علاقة له بالامام ولا بالدين ولا بالسياسة بل بالسيكولوجيا،خلاصته:

ان الانسان المحبط والمحدود الوعي الذي يتعذر عليه حلّ مشكلاته

او يجد الواقع لا يقدم له الحلّ الذي يعالج أمور حياته ولا يخفف من حدّة

ضغوطه ومعاناته فأنه يلجأ الى وسيلة روحية او خرافية تمنّيه بالفرج

وتخفف عنه نفسيا.

ومن هذه الوسائل زيارة الأئمة والأولياء..ولا نعني بها الزيارات التي يقوم بها الناس في اوقات استقرارهم النفسي ،فهذه تكون للتبرّك والتقرّب من الامام وخالصة لشخصه الكريم ،انما نعني بها زياراتهم للأئمة والأولياء بحشود في اوقات الأزمات القصد منها فك ازمة مأزوم.

ومع تنوع أزمات هذه الجماهير المليونية  فانها تعمل في آليتين نفسيتين هما:

الأولى: شعور الانسان العاجز المحبط بقلّة الحيلة وانعدام الوسيلة،

والثانية:اسقاطه على الأمام او الولي القدرة على فك ازمته لتميزه بكرامة او جاه او رجاء اذا رفعه الى ربّ العالمين فانه لا يخيب رجاءه.

وينشط عمل هاتين الآليتين في اجواء الطقوس الروحية، لأن رؤية الفرد الواحد للجماهير المهمومة تخفف من همومه حين يرى ان الكارثة عامة وأن مصيبته قد تكون اهون من مصائب الآف.غير ان اقواها :تراجع العقل عن التفكير بحلول واقعية امام طوفان الانفعال الجمعي للجماهير المليونية ،والتنفيس عن هموم محنة عامة والشكوى من سوء الحال بأدعية تشيع في نفوس الجموع نوعا من الاطمئنان والرجاء والأمل واقناع الذات بأن ثمة فرج آت..بعد وقت اضافي من الصبر!.

بهذا نجح الأسلام السياسي في الفوز بالانتخابات،ليس على صعيد العراق فقط بل وتلك التي شهدت ثورات الربيع العربي التي فجرّها الشباب وقطف ثمارها من كان يتفرج عليهم.وسيبقى الحال على ما هو عليه لعقد من الزمن،وليقرأ العلمانيون واللبراليون السلام على انفسهم ما لم يغيروا خطابهم ويمتلكوا وسائل اعلام مؤثرة تجيد فن الاقناع.

اننا نريد لمناسبتي استشهاد الامام الحسين وأربعينيته ان تشيع في الناس القيم النبيلة الراقية والمثل الانسانية والمواقف المبدئية الشجاعة التي تنتصر للحق وتصرخ بوجه الباطل ليكون كل عراقي..حسينا في السياسة والأخلاق والدين واسلوب الحياة، فبه نعيد بناء وطن يليق بالحسين وكلّ من استشهد من أجل الوطن والناس..لو اننا أحصيانهم لكانوا ايضا بالملايين!.

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :1996 الاثنين 09 / 01 / 2012)

 

في المثقف اليوم