قضايا وآراء

العراقيون .. والأكتئاب الوطني / قاسم حسين صالح

فمن من العراقيين ( أعني الرعية!)لا يشعر بالضجر والسأم والحزن وفقدان السعادة وعدم القدرة على أن يكون بحال أفضل .. وتلك من أعراض الاكتئاب المتفق عليها عالميا بين أصحاب الاختصاص.

 ومن خصائص المكتئب عدم قدرته على تحقيق طموحاته.ومع أن العراقي كان بقلب بعير في صبره على الحكومة، فانه خرج ، بعد ان يأس، شاهرا صوته بين الناس والحكومة فكان ما كان من الذي تعرفونه.

 ومن خصائص المكتئب انشغاله بالماضي واجترارخساراته وكل ما يبعث على انقباض النفس .. وتلك مصاب بها العراقيون.فنحن ننفرد عن خلق الله بماض مليء بالخسارات والفواجع .. بدءا من هولاكو(1258م) مرورا بالحجاج وصولا الى صدام حسين. تاريخ أشبه بمسرح لا تعرض عليه سوى (التراجيديات) .. في صراعات دامية .. مخبولة .. عجيبة غريبة، بين الدولة العثمانية والمماليك، وبين المماليك أنفسهم، وبين الدولتين العثمانية والفارسية .. والمسرح هو العراق والزمن خمسمائة عام!.حتى الوهابيون ارتكبوا المذابح في النجف وكربلاء والحلة بغزوات بدوية وغارت بربرية. بل ان العشائر نفسها كان بعضها يذبح بعضا. حتى الأحياء السكنية بالمدن العراقية كانت تنشب فيها معارك وحرب شوارع وقتلى وخراب محلات. وفوق هذا مجاعات وأوبئة وطاعون! .. مشفّرة كلّها في اللاوعي الجمعي للعراقيين.وكان يمكن ان تظل نائمة فيه لكن فواجع حاضره ايقظتها لتتوحد بفواجع الماضي في مأتم تراجيدي يلطم فيه على نفسه وعلى نهاية تتراءى له انها أفجع.

 والفقدان أوجع أسباب الاكتئاب .. ولك أن تعدّ كم من الحبيبات والأمهات فقدن احباءهن وازواجهن في حروب الطاغية.وكان بالامكان ان يتعافى العراقيون من الاكتئاب ويعيشون في وطن يمتلك كل مقومات السعادة.لكن ما حدث كان أفجع وافضع .. أفضى الى عرض آخر في اكتئاب وطني هو توقع الشرّ.فالسياسيون أصيبوا بعقدة خلق الأزمات .. حتى وجوههم متجهمة .. ليس فقط حين يظهرون في التلفزيون، بل وصفحات الجرائد أيضا .. وكأنهم في خصومة مع الابتسامة .. بملامح حين يراها العراقيون يقولون (الله يكفينا الشرّ!). حتى أغانينا صارت نواحا، وشعرنا الشعبي لطميات، ومسلسلاتنا الدرامية تراجيديات تجتر فواجعنا .. فصرنا نمسي ونصبح على اكتئاب.

 وكثير من الذين أصيبوا بالاكتئاب أقدموا على الانتحار .. وأحد أسبابه حين لا يستطيع المصاب به فك الاشتباك بين حب شيء وكرهه في الوقت نفسه.فالحبيبة التي هجرها حبيبها، تعيش حالة تناقض وجداني بين حب عارم له لأنه حبيبها وكره أسود له لأنه هجرها .. فتقدم على الانتحار لا بهدف قتل نفسها، بل بقتله هو في قلبها الساكن فيه! .. فبقتل القلب يموت الحبيب ويفض الاشتباك.

 وكثير من العراقيين كانوا على شاكلة هذه الحبيبة في علاقتهم بالعراق .. انتحروا لأنهم يحملون حبا للعراق بأقصى حالات التوحد به!.كانوا يريدونه جميلا كما العروس، زاهيا كما الربيع، دافئا كما الحبيبة .. فوجدوه مدمّرا .. مرعبا .. وحين أدركوا أنه خذلهم .. هجرهم .. وصاروا عاجزين امامه .. عمدوا الى الانتحار .. لا بهدف قتل أنفسهم بل بقتل العراق النابت حبه في قلوبهم! .. هل أدلكم على أسماء مفكرين .. مثقفين .. شعراء .. عراقيين انتحروا في بيروت ودمشق .. غير الذين فعلوها في بغداد وغير الذين أضناهم حب العراق وانتحروا .. سريريا!.

 نعم، لقد صار الاكتئاب عند العراقيين وطنيا، وعلى منظمة الصحة العالمية أدخال هذا المصطلح ضمن انواعه.والمدهش أن العراقيين جاءوا بصفة أخرى تخطّأ نظريات علم النفس القائلة بوجود حدّ لطاقة تحمّل الانسان للضغوط .. اذا تجاوزها انهار .. فيما العراقيون سجّلوا أرقاما غير مسبوقه في (رفع أثقال) الضغوط .. وما شلّت ارادتهم برغم أن الاكتئاب يفضي الى شلل الارادة .. فافهموها ياسياسيين!، ليس فقط أن العراقيين لن يثني عزمهم اكتئاب او خوف او احباط، بل ودوركم في التفريج عن كروب ما خبرها بشر وأنتم عنها لاهون .. (واللاّهون في القاموس المحيط:الذين لم يتعمدوا الذنب، وانما اتوه نسيانا أو غفلة وخطأ"!!).

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :209 الأحد 22 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم