قضايا وآراء

الموسوعيون .. حصيلة التقدم ومداه .. المرحلة الخامسة والاخيرة / عبد الجبار العبيدي

البعيدة للتطور المجتمعي للشعوب الأوربية والذي انقذها من الذل والهوان وسيطرة البرجوازية والكنيسة في العصور الوسطى عليها، وكيف استطاعت ان تحتل مكانتها بين الامم.

 

ان اول ما بدأ يلفت الأنظار في المجتمعات الاوربية في التحولات الاجتماعية الجذرية هي (نظرية داروين1809-1882) صاحب نظريةعلم الأجناس التي غيرت المفاهيم لصالح الانسان والناس.من هذه النظرية الثبت خرجت ألاف البحوث والموسوعات العلمية التي غيرت الكثير من المفاهيم الاجتماعية المتوارثة.

 

 النظرية الداروينية في النشوء والأرتقاء قدمت الاساس في التفكير العلمي العالمي.اما الاتهام الذي وجه اليها حول مقولتها بأن الانسان أساسه قرد فتلك مقولة لا تستند على اساس.فهو لم يقل هذا بل قال:ان الاجناس في صراع دائم للبقاء على قيد الحياة.فالحياة للاصلح كما يقول،وقال: ان الاصل يتشعب الى شعب مختلفة من فصيلة واحدة وبالتزاوج المتناقض يولد اجناسا اخرى كما يتولد البغل من زواج الحصان مع انثى الحمار.

 

قال داروين ان التطور حقيقة والأرتقاء حقيقة وقد يحدث العكس.وقال ان الحياة والموت تبدأ منذ البداية حتى يتغلب النمو على الضعف الى ان يصل الانسان الى مرحلة الضعف فيموت،وهذه حقيقة قرآنية .ألم يقل القرآن الكريم في سورة المُلك : (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا،الملك 2).

 

من هنا فأن نظرية داروين نظرية علمية متكاملة في اصل الانواع في التطور والارتقاء،هذه النظرية التي ولَدَت اليوم كل هذا التحسن البشري ومعرفة الاجناس والامراض للانسان منذ ما قبل الولادة وبعدها. ونحن لا زلنا نمر بمرحلة الأنغلاق .

 

ويقول داروين ان الحياة حرة لكل الناس فلا يجوز لمن في يده السلطة ان يكون ذا نزعة فردية حتى لا يشعربان الدولة له،لتتحول هذه النزعة الى نزاع بينه وبين المحكومين،لا بل يجب ان تكون السلطة بيد مؤسسات سياسية متعاضدة ومتماسكة والا ستكون الدولة في بداية الانهيار، وهذا ما لاحظناه في دول الربيع العربي التي انهارت بفترة زمنية قصيرة لخلوها من نظرية الحقوق التي طالب بها داروين.

 

ان هذا التوجه العلمي الدارويني في حقيقة الصراع بين الكائن الحي وبيئته من ناحية،وبين صراعه مع الكائنات الاخرى استخرج منه قوانين العدالة الاجتماعية التي ترفض الاعتداء والظلم والايمان بحرية الانسان.

لم يقل داروين اكثر من هذا التصور العلمي الخلاق،فهو لم يقل صراحة ان الانسان ينحدر من القرد،وأنما قال بتوارث الصفات والخصائص ومن نظريته العملاقة ظهرت نظرية مندل في علم الوراثة واكتشاف الجينات.

 

ان الذي اخذه رجال الدين على داروين هو ماقاله في مسألة الشك والحيرة في المعتقد بين ما رآه من صراع الحياة الرهيب الذي لا يعرف الرحمة بين الحاكم والمحكوم،وما كان يؤمن به في أعماق نفسه من ان الحياة تجري بناءً على مسار آلهي مقدر. وهو يرى بعض الامور التي عجز عن تفسيرها. فهو لم يكن ملحدا ولا كافرا بالله ابداً لكن قصر النظر عند رجال الدين الكنسي في التفسير هو الذي قادهم الى اتهامه بالكفر والزندقة. ونحن تلقفناها منهم دون بحث او تحقيق.

 

وجاء بعد داروين العالم هربرت سبنسر(1820-1903) وهو الذي نقل افكار داروين من ميدان العلوم الطبيعية الى ميدان الاجتماع،أي انه اول من حاول تطبيقه على الجماعة البشرية،حين قال ان التقدم لا يقاس الا بالتغيير في البناء الداخلي للمجتمع. وخاصة بضرورة تقسيم العمل بين افراد المجتمع لتسود النفس الانسانية الاطمئنان ليصبح المجتمع كله مشترك في الانتاج والتوزيع.ومنه ينتج العمل الجماعي للمجتمع.وقال اذا سارت الانسانية في مجال تطبيق الحقوق والواجبات بقوانين ثابتة ومنفذة فأن الانسان يصل الى مرحلة تتلاشى فيها الرقابة الحكومية،اي ان القانون وتطبيقه يصبح طوعي دون رقابة،وهي أعلى درجات الحضارة المجتمعية.

 

في هذا المسار يصل الانسان الى اعظم قدر من السعادة بعد ان يختفي العوز بين افراد المجتمع،حتى اصبحت فكرة التقدم في نظره أشبه بالقانون الذي يُسير التاريخ.وبذلك يتحسن الاداء الحضاري في المجتمعات الانسانية عندما يختفي الظلم والعوز المادي معاً. وعلى هذا الاساس يكون الفكر الحرهو اساس التقدم الحضاري كله. فالحياة لا عبث فيها ولا ظلم بل فيها قوانين طبيعية تسيرها نحو العدالة الاجتماعية. ألم يقل القرآن الكريم:( أفحسبتم أنا خلقناكم سدى وقال: (وما خلقت هذا باطلاً). فتصور لو اننا فسرنا القرآن تفسيرا علميا لاتفسيرا لاهوتيا فأين كنا اليوم.

 

ان هؤلء الرجال من العلماء الأفذاذ كانوا معنيين بمستقبل البشرية بينما نحن لم ننظر الى الحياة والمستقبل سوى الحياة الاخرى بعد الموت،ولم نذكر قط ان للحياة مستقبلا على هذه الارض قبل الموت.ولوكنا نعتقد لما خربنا المدن والقانون وأعتدينا على حقوق الناس وفضلنا الغيبيات على الملموسات في الحياة الدنيا،حتى غلفنا المجتمع بغلاف التخلف .

 

من هنا تفتحت أذاهان الأوربيين نحو العلم والحرية والسعادة والتقدم، فغدى المجتمع الأوربي مجتمعا مستقرا بكل جديد. حتى سارت الحياة بمعارج التقدم واصبح معظم المؤرخين يعتقدون بالحركة المنفتحة في التاريخ وبالخط الصاعد المستقيم فماتت حركة التاريخ المنغلقة عندهم، وها كما نراها اليوم حين اصبحت حياتهم وبلدانهم تشرأب لها الاعناق وامنية لكل من يريد السعادة له وللأخرين.بينما نحن لازلنا ننتظر في صفوف المتأخرين.

 

التطور الحياتي لا يأتي من فراغ وان مراتب الكمال لا تأتي الا بجهد جهيد وايمان راسخ بالانسان وحقوقه،وان النظام لا يتطور الا اذا رسمت له صورة الانسان الكامل وكيف يجب ان يكون حتى يترسخ القانون في ذهنه وطبعه وبهذا يستطيع ان يخرج من الطريق المسدود بعد ان تتفتح الابواب الواسعة لمسيرة التاريخ والحضارة،فالانسان لا يتقدم في خلقه ولكنه يتحسن ويتقدم في خلقه ومستواه الحضاري وقدرته على العمل المثمروالانتاج الذي يعود عليه وعلى جماعته بالخير.

 

من خلال دراسة افكار الموسوعيين العلمية نرى كيف تفتحت سبل الرقي والتطورامام الحضارة الانسانية عن طريق اولئك المفكرين الذين توصلوا بالتفكيرالمنطقي الهادىء الى مفاتيح التقدم،وهو العلم العملي الذي يخدم معايش الناس،ويتيح لهم نصيبا اكبر من الراحة والرخاء والأمان.

 

وليعلم الجميع حكاما ومحكومين عندنا اليوم في الوطن العراقي المبعثر، ان الحياة لا تجري عبثا، بل تسير على قوانين تحكم تصرف البشر، لنصل الى قواعد او قوانين او حتى خطوط عريضة تعين على ادراك ما وراء الحوادث وتساعدنا على معرفة الطريق الصحيح الذي ينبغي علينا السير به لنصل الى مجتمع انساني اكثر امنا واستقراراعلى توفير اسباب الرخاء وما يسمى بالسعادة للبشر.

 

 علينا ان لا نبقى ندور في الحلقات المفرغة في السياسة والتوافقات والمشاركة والمشاركات ونضحي بالوحدة والثوابت الوطنية لنرضي هذا وذاك من اجل صوت او تأييد لتطبيق مادة في الدستور، والزمن يمضي دون تحقيق فنضيع ويضيع المال والوطن والزمن دون بناء ونجاح كما نحن اليوم،والكل غدا امام المصير وجها لوجه دون نصير.اوقاتنا مشغولة بالمؤتمرات والايفادات الشخصية والترضيات الحزبية، والعطلات اللا مشروعة لمجلس انتخبه الشعب وتأمل منه الكثير ولم ينتج حتى القليل.

 

ان الوطن بحاجة الى قيادات واعية مثل قيادات الأوربيين يسمع منها التنفيذ،تدافع عن كرامته المهدورة وأمواله المنهوبة،واعراضه المستباحة وأهله الخائفين من موت محقق لهم في كل حين.اين قياداتنا التي كنا نسمع عنها في الزمن السابق، وكانت تأتي الينا لتمنحنا الوعد والوعيد،كلها تبخرت وماتت ولم يبقَ منها الأ الأنين .أين سماحة المرحوم محمد باقر الصدر وكتاباته في فلسفتنا وأقتصادنا الذي كنا نقرأه وحفضناه على ظهر قلب أملا في التطبيق؟ كلها ضاعت وارواح الشهداء والمعدومين لنأتي اليوم لنسكن قصور المرفهين ونحصر انفسنا في منطقة نخاف على ارواحنا وأولادنا من المعذبين،فهل ارواحكم أغلى من ارواح المعذبين،هذه هي قيم الرجولة للثوار الميامين.

 

ان هذا المسار المتبع من الجميع لهو مسار خاطىء، عليكم تدارك الامر قبل فوات الآوان فقد تحمل الشعب والوطن الكثير، وهذا امر مرفوض في تاريخ الوطنيين. الوحدة الوطنية والاخلاص والوفاء وتطبيق العهد والقسم هي اساس التقدم الحضاري.أما ان كل واحد منا يعمل لنفسه دون الاخرين،لاهين بالطائفية المقيتة والمحاصصية الباطلة،والأقاربية الكريهة، فلن تكون نهايتنا الا الفناء والخراب ولا شيء أخر.

 

د.عبد الجبار العبيدي

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2011 الثلاثاء 24 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم