قضايا وآراء

ملاحظات حول ما يكتب اليوم عن ثقافة العراق الجديد / عبد الجبار العبيدي

الى طرح افكار جديدة للتعريف بالثقافة العراقية الجديدة وطرق تعميمها على مجتمع هدمت فيه الثقافة، وتكسرت اضلاعها على مذبح المصالح الشخصية المتقاتلة فيما بينها، من اجل مصلحتها الذاتية لا الوطنية.ثقافة سرقت فيها انسانية الانسان قبل ان تسرق منها الوثائق والمكتبات، ونهبت الأثار والمقتنيات قبل ان ينهب المال العام، وقتل الصحفي والاديب والاكاديمي والعالم والطبيب، قبل ان تزور الشهادات والمستمسكات، وكسرت الاقلام وسكبت المحابر في نهر دجلة من جديد .

ولكي نفهم المراد بالثقافة الجديدة التي تعتمد التغيير الذاتي علينا ان نقول: ان لكل بلد من بلدان الدنيا نصيبا من العلم والفن هي الثقافة. فالعلوم وان اختلفت مستوياتها لكن قواعدها تبقى واحدة، عالمية النزعة وان اختلفت لغاتها .اما الفن فعلى خلاف ذلك، مثل الادب والرسم والنحت والموسيقى، وحتى وان استعملت فيه لغة واحدة، لكن الروح والذوق المستعملان فيهما يختلفان من شخص لاخر. وفي المحصلة، العلم والفن يدخلان في مفهوم الثقافة الحضارية اليوم .

فالثقافة: هي ثمرة كل نشاط انساني محلي ناتج من البيئة ومعبر عنها مواصل لتقاليدها في هذا الميدان او ذاك، وكلما كانت الظاهرة الحضارية أكثر ألتصاقاً بطبيعة البلد الذي قامت فيه فهي ثقافة، كاللغة والأدب والشعر والموسيقى والفن. فثقافة العراق التي يتحدثون عنها الكُتاب الجدد هي جزء من حضارتهم العريقة، وهي تعبير عن الطبيعة العراقية وطبيعة منشئيها.هذه الثقافة التي احتوت على ثقافة الحياة والتعايش والمعرفة والحوار والجرأة والنقد والغيرة والشهامة ومحبة الوطن هي التي ضيعها البعض من القادمين الجدد. على مر الزمن نلحظ تشابها وتقاربا في تطبيق هذه المفاهيم في الحضارة العراقية القديمة والحديثة حتى قيام التغيير في 2003.فهل هناك حقائق اخرى لمسها الكُتاب ليغيروا بها ثقافة العراق الجديد، وهل ان التغيير سيكون لصالح الجديد ام لصالح القديم الذي تبعثر وانتهى.

لكل من الاسلوبين المطروحين منا ومن الاخرين الافاضل عوامل تاريخية واجتماعية تشكل في النهاية اسلوب حياة الناس، واسلوب حياة الناس وتعاملاتهم هي الثقافة. فثقافة الامة هي علمها الواعي الذي تتوارثه اجيالها وتسير به شئون حياتها اي طريقتها في الحياة( Its way of life). وهنا تدخل اللغة والنظم الحياتية اليومية وما يختفي وراءها من علم متوارث فيها فلا يجوز العبث فيها بحجة التغيير.

لكن السؤال المهم الذي نريد ان نطرحه على الاخوة الكتاب والمثقفين: هل بأمكان الثقافة ان تغير واقع الحال بلا منهج معد ؟ واداة لمراقبة المنهج وتنفيذه؟ بعد ان طرحت وسادت عشوائياً خلال الفترة السابقة، ام تُترك كيفما اتفق والشعب هو الذي يُكون ما يرغب به الكُتاب في عراقهم الجديد؟ وهل ان الثقافة والاخلاق العراقية التراثية الاصيلة لم تعد تجدي نفعاً؟ فالمطلوب تحديثها و اعادة صياغتها صياغة تتفق وواقع الحال الجديد، وبناء ثقافة جديدة على هذا المنهج المطروح اليوم ؟واذا جازلنا ذلك، فهو يجوز على امة ناقصة الثقافة اوحديثة عهد بها، فهل يجوز اليوم تطبيقها على ثقافة عراق الحضارات العريقة؟

أنني اختلف معهم في وجهة نظرهم في هذا الطرح اللغوي والعلمي، لاقول لهم ان الثقافة الجديدة التي نريدها جميعاً تحتاج الى ابداع واقعي مخلص اكثر ما تحتاج الى تنظير طوباوي يجري خلف جمهورية افلاطون او مدينة الفارابي الفاضلة، ونحن الان نعيش في سُلَم التقصير الثقافي والخلقي والسلوكي في وقت تمارس ابشع وسائل الثقافة الديموغوجية في وطننا العراق حتى حسبت ان لا شيء في العراق اليوم بعد ما زرته اخيراً اسمه ثقافة الاخلاق سوى سراب يحسبه الضمآن ماءً، بعد ان الغينا الزمان والمكان واسقطنا العقل والتاريخ من حساب ثقافتنا الحالية، ويبدو ان الحال فرض علينا فرضا وبخطة مرسومة لتضييع ثقافة العراقيين، فهل من عقل جديد مبدع ليعود بنا الى ثقافة العراق العريقة بعيدا عن النرجسية والطائفية والعنصرية التي زرعها فينا الاغراب وقبلناها مرغمين؟

نحن لسنا بحاجة الى ثقافة جديدة، بل بحاجة الى تطبيق منهج علمي جديد مبني على الوفاء والاخلاص والامانة الحقيقية للشعب والوطن يرضاها الله وهي من صفاته الاصيلة، بعد ان عم الفساد كل شرايين الانسان العراقي اليوم ففسد دمه، فلم يعد يفكر الا بنفسه ومصالحه بعيدا عن مصالح الوطن، ظاهرة ما عهدناها من قبل، وما هذا الذي قالوه لنا وأوعدونا به قبل التغيير. فالثقافةهي جهد أنساني يعطي الانسان شعورا بالكرامة ففقدناها. نحن بحاجة الى ثقافة اصيلة حتى لا يبقى الفعل بغير ثقافة فاعلة، لأنها هي مرحلةالتطور والنمو والحيوية. لذا فالظاهرة محكومة بظروفها التي يجب ان نحرص على معرفتها وتطويرها، علينا ان نهتم بعامل الزمن دون اهمال التاريخ . فالتجديد يجب ان يكون على مستوى الرؤية التاريخية وجديتة في النظر والعمل معا، بعد ان بدأنا نملك بعض وسائلها وتقف الحرية في المقدمة، وهذه هي الثمرة الوحيدة التي حصلنا عليها اليوم وهي لا شك كبيرة وبنظري اكبر من الكبيرة .

بهذه الرؤية و المنهج سنملك مشروعا له منطلق وتوجهات وقسمات، هي بكل تأكيد تحدث تغييرا جذريا في مستوى النظر والعمل، لان وجود التراكم الحضاري لعراقنا الحبيب منذ فجر الحضارات هو الرسالة لنا ولحضارتنا التي قد بلغت سن الرشد ومرحلة تحمل الأعباء، وان خابت في بعض مضامينها السياسية، فلا بد لها من ان تتحمل الاعباء في وقت المحن بعد ان صار الانسان والعقل حرا فيها، فلا حاجة لها الا التثوير بعد التغييرفي 2003 . لذا لابد للعقل من ان يعمل والعقل يعرف بفعاله، وهو مضطر لقبول الحق على حد قول الامام الشافعي قولا وصدقاً،  لمواجهة تفاعلات الواقع عبر مسيرة الزمن فهل نحن جادون ما نقول وما نريد؟ كل الادوات نملكها ولم يتبقَ لنا الا المنفذ الوحيد المفقود الذي هو الانسان فهل نحن نستطيع بناء الانسان المفصل على ثقافتنا حتى نجدد الحضارة والثقافة معه وبه ؟.

اما اذا بقينا على ما نحن علية بنظرية (شيلني وشيلك) او نأمر بالمعروف وننسى انفسنا، تلك هي الطامة الكبرى، فلن نستطيع ان نحقق تجديدا في الثقافة ولا نبني بلداحديثاً، ما دامت الصنمية والقدسية تسري في عروقنا ومن اجل الحفاظ عليها نستبعد كل شريف ومخلص لنبقى على كل ضعيف وفاسد ومتردد لتبقى مصالحنا مؤمنة، الذين هم زعانف اسماك القرش في عالم لا يعرف الا الاعوجاج للوصول الى الهدف، ونحن نعلم ان الوصول الى الهدف هو الاستقامة وليس الاعوجاج، انهم سكاكين اعداء الوطن التي تنخر في جسده حتى الموت، لكنهم ما دروا انهم هم الذين سيموتون بسكاكينهم، وكما قالت العرب (لقد قتلتني بسيفي)، هكذا أخبرنا التاريخ وشواهد الربيع العربي ماثلة امامنا اليوم.

صحيح ان في تاريخنا منعطفات خطيرة منذ عهد السومرين الذين احرقوا الاعداء بحفر النار، والاكدين والبابليين والاشوريين الذي استخدموا خوازيق الحديد النارية ليقعدوا عليه اعداؤهم زيادة في الانتقام رغم قوانينهم.لكن المسلمين بعد ان جاؤا للعراق في القرن السابع الهجري استخدموا العنف احيانا لمتطلبات الفتح، و الرحمة احيانا اخرى وحين سكنت النفوس، فكانت فوق الانتقام، والعفو عند المقدرة، والكفاءة فوق القدرة، والعلم فوق الجهل.ولم نعرف عودة الى اللا رحمة الا في عهد المغول والبويهيين والسلاجقة والعثمانيين، وعهد صدام حسين الذي جدع الانوف وقطع الاذان وانتهك الحرائر وقلع الاظافر، وفرق بين الأحباب، واسقط جنسية الوطن عن المواطنين، وهو يتظاهر بجده رسول الله والرسول منه ومن عصابته السوداءبراء. وهي تعود اليوم لعراقنا تحت ظل التغيير قتلا ونسفا وتهجيرا ونهبا للمال واستغلالا للدين والمعتقد الرحيم، حتى اصبح العراقي سلعة يباع هو وعِرضه في سوق النخاسة، فاين نولي شطر وجوهنا، هل من قِبلة اخرى نصلي لها ومنها، وهل من ابي رغال جديد يدلينا الى الكعبة لنستجير بعد ان تعذر علينا السكن حتى في دورنا والملك صرف لساكنه منذ عصر البابليين. ؟وهل ان النقص الثقافي او الحضاري متأصلا فينا؟ أسئلة محيرة بحاجة الى جواب رصين.

ورغم ما اصاب الوطن في عهد الخلفاء الراشدين والامويين والعباسيين من مظالم لكننا لم نلحظ ابدا ان سمحوا لاعداء الشعب باحتلال اوطانهم وهم موضوعون تحت حماية سيوفهم وتغيير اسلوب حياتهم ومنهجهم في الحياة يستمدون منهم العون والمشورة.صحيح تهاونوا، لكن الثوابت الوطنية ظلت الخط الاحمر عندم والذي يتابع رسالة القضاء لعمر بن الخطاب (رض) ورسائل الامام علي (ع) للولاة وحزم معاوية على ولاته والمنصورمع اعدائه لا يستطيع اتهامهم بخرق الثوابت الوطنية التي حرمها الله على المسلمين بموجب الايتين 20 1، 43 من سورة التوبة رغم البعد الزمني بيننا وبينهم.

فثقافة الحياة موجودة لدينا ومحددة بالبند الثالث من دستور المدينة الذي كتبه محمد (ص) في السنة الخامسة للهجرة وهو لايزال حديث عهد بالدولة ودساتيرها، حين قال :( على الحاكم ان لا ينام ليلته وفي بلده معوزٍ واحد). فأذا أمنت ارزاق الناس وحقوقهم أمنت على نفسك منهم وهم حماتك لا الغريب. و لغة الحوار والنقد والشورى مورست منذ البداية( امرهم شورى بينهم)، وان أختلف التطبيق، والذي يلاحظ كيف ان معن بن زائدة يحاور الحاكم ويصفة بالجاحد، وسفيان الثوري الذي يصف المنصور بالظالم، والامام موسى بن جعفر (ع) يصف الرشيد بالناقص، ويقف مع الرشيد ناصحا وموبخاً له وجها بوجه، يشعر ان ثقافة الحواركانت بحالة صحية جيدة عندهم رغم ما نقرأ ويشاع، أما الامام علي فهو كبيرهم عزة ومقاماً حين يقول :(ان صوتاً واحداً شجاعاً اكثرية ).اما الاعتدال فيكفينا فخرا ان القرآن يدعو للوسطية (ان خير الأمور أوسطها) في التعامل ومحمد ينادي اصحابه يوم فتح مكة حين قال:( لاتقتلوا اعداؤكم بل انصحوهم حتى لا يقال ان محمدا يقتل اصحابه).وهل في ثقافتنا نحن نعيش تحت حماية الاسوار المحصنة ونترك الشعب مكشوفا صدره للظلمة والذين لا يؤمنون بحياة البشرمن القاعدة والتكفيريين المجرمين ومن الاخرين.

اعتقد ان الاخوة يقصدون بمقالاتهم، حول سبل التغيير في العراق الجديد هو المنهج واداة المنهج الذي يجب ان يرسخ مفاهيم الحياة الصحيحة الجديدة لمجتمعه كما يتصور، فهل نحن بقادرين على صنعهما من وراء هذا المشهد الذي يكاد ينطق بصوت الكارثة القادمة وراء حجب الليل البهيم، بعد ان تأصلت الطائفية والعنصرية والاقليمية في بلد هو اصلا مرشحا لقبولها.ان من يستمع لخطاب النائب عدنان الدليمي يعتريه الحزن والاسى وهو يشجع على قتل الشيعة واستباحتهم في مؤتمرسموه مؤتمر نصرة العراق.هذا هو النائب المؤتمن على اصوات الشعب في الانتخابات؟ ام ذاك النائب الذي هرب ليذهب يحرض شمال العراق على الانفصال، ؟ام ذاك الذي هرب باموال الوطن ليستقر عند المجاورين، هذه هي اخلاق الثقافة الجديدة التي ينادي بها القادمون الجدد ؟

ان اليد الواحدة لا تصفق فأذا وجد اليوم من يريد ان يرفع شعار الثقافة الجديدة والاصلاح الجديد بحق وصدق عليه ان ينشر ثقافة التغلب على الصعاب بأختراقها، عليه ان ينشروينبه الى ضرورة احياء الشخصية العراقية التي ضعفت وانهارت امام المغريات ورشى الفاسدين من حكام الوطن العربي، عليه ان ينبه الى ضرورة المحافظة على الثوابت الوطنية التي ضاعت، عليه ان ينبه الى قيمة الانسان العراقي المهجر الغلبان الذي اصبح لا يلوي على شيء، عليه ان ينبه الى ازالة نظريات الفساد التي سادت، والا هل من المعقول ان يرصد في الميزانية 14 مليار دولار نثريات للمسئولين وفي الشعب ملايين الارامل والايتام من صنع أيديهم؟الى هذا الحد فقد المسئول امانة الالتزام ؟ وهو يصلي خمس مرات والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا تبقى خائفا او مترددا مختفيا في المنطقته الممقوته. أخرج الى الشعب وتحدث معه ايها الحاكم الجديد الذي نتوسم فيك الامل الجديد، فأمامك ابو الحسن (ع) خرج الى مسجد الكوفة وهو يعلم بأعدائه اللئام وما كانوا يخططون، هذه هي ثقافة العراقيين الشجعان من اصحاب المبادى وقيم الثقافة العريقة.هل سيكون بامكانك الحكم والصلاح وانت اسير القيد والخوف، فالخائف لا ينتج على حد قول ماوتسي تونغ، ورب العزة يقول:(أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، النساء 78 ) كلمة قالها القرآن الكريم وصدق الله العظيم. والعراقي شجاع بطبعه لا يهاب المنايا.

موضوع شائك وصعب يحتاج الى وقفة جادة من الاخوة المهتمين بالشأن الثقافي العراقي حتى يوفقون فيما يريدون؟ووزارة الثقافة اليوم مدعوة لمؤازرة المثقفين، بعيدا عن المحاصصة والشوفونيين، ولنا في بعض من في السلطة اليوم املا لو يستغلون، فليس كلهم من الخائبين، اما اذا كانوا يقصدون بثقافة التجديد عند الشعب فهي مجددة لا داعي للبحث عنها اذا عدل الحاكم واستقام.

وبالمناسبة نرجو لسفيرنا الجديد الدكتورجابر حبيب جابر وهو من المثقفين، الموفقية في عمله الجديد في واشنطن، وان يكون لكل العراقيين، ليقضي سنوات عمله هنا بين اهله ومحبيه، وليكتب له تاريخ، فلن يبقى له بعد الرحيل الا التاريخ .

 ***

د.عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم