قضايا وآراء

الكوفة .. نشأة المدينة العربية الاسلامية للدكتور هشام جعيط / عبد الجبار العبيدي

د.علي مبارك من منطقة آنديانا في الولايات المتحدة الامريكية بعنوان: الأديرة والأماكن المسيحية في الكوفة، مستلة من كتاب الديارات والامكنة النصرانية في الكوفة لمؤلفة محمد سعيد الطريحي، سرني ما قرأت ولاطلاعي على كتاب نشأة المدينة حاولت ان اعرض للكتاب بمقالة موجزة تثمينا للمؤلف وللمدينة العزيزة على قلوبنا معاً.

 

عنوان الدراسة: الكوفة، نشأة المدينة العربية الأسلامية

المؤلف: الاستاذ الدكتور هشام جعيط

تتألف الدراسة من ثمانية أبواب رئيسية بدون مقدمة ولا خاتمة، وهي فصول تندرج نزولا في عدد صفحاتها بحيث يغطي الباب الاول من الدراسة لفتح العراق وتاسيس مدينة الكوفة في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض)، بما يزيد على 15%من حجم الكتاب. أمابقية الأبواب التي تعرضت لنشأة المدينة وتطورها الحضاري الى 85% من صفحات الدراسة.

 

يتضح ان معظم جهد المؤلف أنصب على عرض نشأة المدينة وتطورها على نحوٍ واضح ودقيق، رغم انه جاء عرضا مطولاً. لكن هذا الاسهابه لها من الاهمية ما يستحق الكتابة والدراسة فيها. لا شك ان الدراسات الحديثة تختلف عن الدراسات القديمة لتوفرتكنلوجيا المعلومات وسهولة الحصول عليها، من هنا نلاحظ الفارق الكبير بين القديم والحديث والنتائج المترتبة عليها.

 

ابتدأ المؤلف بأهمية العراق قبل الفتح الأسلامي وعلاقته بالامبراطورية الساسانية من الناحية الأستراتيجية الى درجة كما يقول المؤلف لو ضاع العراق منها لضاع كل شيء لديها، وهذه النظرية لا زالت مستقرة في فكر الأيرانيين الى اليوم.، وهذا ما أثبتته الأحداث فيما بعد.

 

ويخرج المؤلف بحقيقة اخرى، وهي ان الكوفة بعد الفتح جسدت مفهوما جديدا بالنسبة للدولة العربية حين أبرزت رمزا وموطنا للعروبة الجديدة التي ظهرت مع الاسلام، وهي مغايرة لتلك التي جسدتها مدينة الحيرةالقريبة منهاعلى عهد المناذرة طيلة ثلاثة قرون حين انتقلت السلطة السياسية فيها للعرب المسلمين لا للمناذرة التابعين .لا شك أنها أضافةعلمية جديدة لم أجدها عند غيره من المؤلفين.

 

ملاحظة هامة اخرى يقول عنها المؤلف:ان تحقيق الفتح الاسلامي لهذه المنطقة الحيويةكان على مراحل، وكان التمييز بين المحاربين على أساس الأقدمية في الجهاد، وليس على أساس التفرقة بين المجاهدين، هذه الأتجاه التشجيعي خلق فريقاً من المسلمين متفانياً في سبيل نشر العقيدةالأسلامية بعيداعن المطامح السياسية والأجتماعية والاقتصادية.هذه الفكرةالتي استلهمت الفتوحات روحها منهاً الى مدى بعيد، فبدأت فكرة الفرار من المعركة في نظر الفاتحين وكأنها ضعف لا يغتفر، لا بمعنى الشرف العربي المعهود، بل كخطيئة تقترف تجاه الله.

 

ويؤكد المؤلف ان العامل الديني في فتح المدية كان اساسيا، لكن العوامل الاخرى الاجتماعية والاقتصادية هي الاخرى كانت من المحفزات في الفتح مستندا الى الكثير من الرويات التاريخية التي اوردها الطبري، كون ان التفاوت الاجتماعي والأقتصادي بين العرب والفرس كان حاضرافي ذلك الوقت.

 

ونحن أذ نتفق مع الباحث القديرفي هذا الأمر، لكون ان المنطقية التاريخية تؤيد هذا التوجه.تبقى نقطة مهمة كان على الباحث ذكرها وهي ان الأمة الفارسية في ذلك الوقت قد سئمت نظام الطبقات البغيض والعنصرية الكريهة في الدولة والتي ما طبقتها دولة في القديم والحديث الا وكان الزوال مآلها.

 

وفي فصل اخر ينتقل المؤلف الى عقد مقارنة جادة ومهمة ورائعة بين معركة القادسية ومعركة اليرموك الذي يرى في القادسية بعدا استراتيجيا حطم القوة الاساسية للدولة الفارسية وافقدها صوابها كدولة منفردة في المنطقة، بينما كانت معركة اليرموك الخلاصة والازمة القصوى لحملة طويلة وشاقة استمرت ثلاثة سنواتً مما اكسب الشام اهمية كبيرة في نظر القيادة السياسية الاسلامية على المدى البعيد.

وفي معرض تعليقةعن اسباب السقوط للقيادة الفارسية يعزيه الى الازمة الداخلية المستمرة في الدولة وتناحر الساسيبين القياديين وابراز السلوك العشوائي الذي ساد الجيش والقيادة العسكرية وجعلها جسدا هامدا بلا روح ولا دوافع ولا أيمان بالوطن والدولة.

 

ونحن نقول ان معركة القادسية واليرموك فيما بعد والقيادات المحكمة الشجاعة التي قادتهما كان في ذهنها تجاوزمصير العراق والشام لتطرح نفسها بديلا كأحد أحداث التاريخ الأقوى دلالة في تاريخ الامم فيما بعد.وهذا ما تحقق فعلا بتكوين الدولة العربية الاسلامية التي عاشت قوية لولا ابتعادها عن القانون والعدالة الاجتماعية التي جاء بها الاسلام، مما افقدها قوة الاستمرارفيما بعد.

 

ويبدو ان فكرة أنشاء مدينة الكوفة وخططها عائد الى التجمع الهائل من القبائل العربية الكبيرة والقوية من امثال قبيلة قضاعة وتميم التي وصلت المنطقة نتيجة الفتوحات، مما جعل لها مكانا ساميا ًللتاريخ المضطرب في جزيرة العرب بعد الحركات المناوئة لحكم الدولة والتي سميت فيما بعد بحركات الردة والمرتدين.

 

وتناول المؤلف نشأة المدينة من حيث، تطبيق نظرية الأستيطان فيها وظهور وظيفة المدينة كقضية حضارية. ويخلص المؤلف في هذه النقطة المهمة على وجود نية تمدينيةواضحة عند الفاتحين تفي بالأطار الأساسي لوجود الكوفة وتطورهاوالرسم الذي أنطلق فيه بناء المدينة ونشوئها، وهي بداية حركة بناء المدن والتطور الاجتماعي في الدولة الأسلامية. ورغم ما بذل فيه من عناية التخطيط، لكنه كان بحاجة ماسة الى الأدامة والتطوير.

 

وللمستشرقين أراء كثيرة تتهم بناء المدينة بالعشوائية وعدم التخطيط المسبق كما عند المستشرق كايتاني، لكن المؤلف يرد على هذه الأتهامات فيقول :بأن العرب عرفوا تنظيم المدن والشوارع العريضة منذ بداية الدعوة ويستشهد ببناء المدينة المنورة بعد الهجرة اليها، ويقول ان قضية أنشاء مدينة الكوفة هي قضية تاريخ شمولي اكثر من ان تكون قضية تمصيرية ام معمارية لمدينة أسلامية مستحدثة.

وفي احدى ابواب الكتاب يعالج الكاتب التأثيرات والجذور من بابل الى مكة ويقول:ان الحفريات الاثرية في المدينة أظهرت الكثير من التأثيرات الشرقية الهلينية في بنائها وخططها على ان المعالم العربية الاساس في المحور المشع فيها.ويتابع المؤلف شرحا تفصيليا للتطورات الحضارية فيها فيما بعد حتى غدت عاصمة تليق بدولتها في التنظيم.

 

ولا يغفل الباحث دور المدينة كمركز للقبائل العربية التي استقرت فيها وبين موقعها الأسترا تيجي الذي مكنها من ان تلعب دورا في نشر الاسلام، مذكرا ان مدينة واسط التي بناها الحجاج الثقفي ما بين سنة 78-86 للهجرة في العهد الأموي نشأت كنتيجة حتمية لبناء الكوفة وحماية طرق المواصلات بينها وبين البصرة المركز التجاري الهام للدولة.

ويسرد المؤلف الكثير عن التطور الاجتماعي والاقتصادي للمدينة واهميتها السياسية فيما بعد.ويؤكد على ان المدينةكانت النوذج الأفضل للمدن الاسلامية كونها بنيت قبل مدينة بغداد.

 

لكن الكاتب مع الاسف قد أهمل سبب أختيار الأمام علي(ع) الكوفة كعاصمة له، وهل كان في ذلك تقصير في الأبتعاد عن المدينة المنورة، أم كان هناك بعدا أستراتيجيا في الأختيار.بعد ان كانت المدينة المنورة عاصمة الدولة منذ عهد الرسول(ص)، ولها جلالها الذي كان جديرا بأن يجعل الأمة كلها تلتف حول خلافته، ونلمس في نهج البلاغة تذمرا من الامام بعد ان استقر في الكوفة ووجد نفسه وسط رجال لم يعرفوا قدره، لان المسلمين فيها كانوا من المتأخرين ممن لم يعرفوا قدر الامام واخلاصة وعظم مكانته، هنا نحتاج الى بحث مستقل لتقييم هذه التجربة التاريخية الفريدة .

 

وفي نهاية الدراسة يتحدث الباحث عن الوجه المديني للكوفة والتي تمثل في أهميتها كونها نقطة عبور وتحول من العروبة القديمة الى الاسلام، وفي هذه النقطة بالذات كانت الحضارة العربية الاسلامية تبحث عن نفسها في ظلام الولادة والتكوين للأمة ككل على ما أرى.

 

لقد أختار المؤلف موضوعاً مهما من موضوعات التاريخ الأسلامي، ولازالت المكتبة العربية بحاجة الى المزيد من هذه الدراسات الحضارية لنقصٍ فيها.من هنا تتجلى قيمة البحث العلمية التي اتبع فيها الكاتب وطبق أركان المنهج العلمي بجدارة ونجح في ذلك.

 

ان في هذا الكتاب جهد كبير، واضافة علمية جيدة، وابداع وأبتكار، أضافت للدراسات العربية والأسلامية رؤية جديدة في دراسة المدن العربية القديمة بعد ان توصل الى عدة نتائج علمية طيبة.

 

عرض: الدكتور عبد الجبار العبيدي


العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2061 الجمعة 16 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم