قضايا وآراء

المرابطي سعيد، والتابوت، والينبوع، والدائرة الحديدية

 ولنسمِّه ماشِئنا من تسمياتٍ فهو " شيء ٌما!" مستوحى من أفكارٍ علِقت بذهني من مصادرَ ثلاث لاعلاقة بينها إلا مادار في ذهني عند قراءةِ نصِّ الأديب القاصّ المرابطي سعيد "التابوت" والذي نُشِرَ في "المثقف" في اليوم الثاني من أكتوبر، 2009

http://almothaqaf.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=5975:2009-10-02-12-54-36&catid=35:2009-05-21-01-46-04&Itemid=55

 

اما "الينبوع" *(1) و"الدائرة الحديدية"**(2)، فهما عنوانان لفلمين سينمائيين أمريكيين من النوع الذي لايستمتع بمشاهدته إلا من استعذبَ تعذيبَ النفس بما يتطلب شدَّ الحواسِّ كلّها، واستعارةَ حواسٍّ أخرى من مصادرَ مجهولة، لكي يتابعَ كلَّ قولٍ وكلَّ حركةٍ وكلَّ إشارةٍ دون أن يرِفَّ له جفنٌ أو ترمشَ له عينٌ، أوأن يحرِّكَ يدأ لينشَّ عن حاجبهِ ذبابةً أو بعوضة طاب لها التوقفُ عليه في لحظةٍ حرجة، لكي يفهمَ كلَّ مادار من سيرياليةِ وعمقِ الفلسفة التي احتواها الفلم.

 

 "الدائرة الحديدية" أنتج في أواخر السبعينات وعلى وجه التحديد 1978، وملخَّصُه أن شعباً من الشعوب في عصرٍ يشبهُ العصرَ الرومانيّ والإغريقيّ القديم ممن يهتمُّ بسلامةِ الجسمِ والعقلِ يقيم احتفالاً سنوياً يتقدم فيه أكفأ الشبان بعد تدريب وتهيئة لسنوات للتنافس بألعاب الفرسان والمصارعة ومن يفوزُ بالبطولة ويثبت جدارتَه ولياقتة البدنية يُرسَلُ في المهمَّةِ التي فشل فيها الكثيرون من قبل ممن فازوا باللقبِ في السباقات المتعاقبة الماضية. المهمَّةُ هي الذهاب في رحلةٍ تحفُّها الصعابُ والمغامرات للإتيان بكتابِ الحكمةِ والمعرفة، والهدف من الرحلة هو أن يتعلم الشاب الحكمة وتكونَ له اللياقةُ الذهنيةُ والروحية لترافقَ لياقتَه البدنية. الفائز باللقب واسمه "كورد" وهو شابٌ نزقٌ كثيُر الثقةِ بقدراتِه معتمداً على لياقتِهِ البدنية، يبدأ رحلتَه، وفي الطريقِ يلتقي بشيخٍ حكيمٍ أعمى يرافقُه الرحلةَ و يتكرَّرُ ظهورُه له أثناءها ليوحِي له بإشاراتٍ حكيمةٍ ويعينُه على التخلص من المآزقِ التي يتعرَّضُ لها في رحلتِه الشاقّةِ والتغلبِ على صعوباتِها واجتياز العقبات. هذا الشيخ الحكيم، بمرافقتِه للشاب "كورد"، يتمكَّن من مراقبةِ تطوُّرِه وقياس مدى أهليَّتِهِ للوصولِ الى كتابِ الحكمةِ والمعرفة...، وفي آخرَ الرحلةِ يحققُ هذا الشابُّ مالم يستطِعْ تحقيقَه أيٌّ من الشجعانِ قبله. فبعد أن زوَّده الشيخُ الحكيمُ بما في جعبتِه من حِِكََمٍ وتأكَّدَ من أهليتِه، يصلُ الشابُّ الى المكان حيثُ يحفظ ُكتابُ الحكمة... فيشيرُ حامي الكتابِ الى منصةٍ وفوقَها حجابٌ ثم يشيرُ له أن خُذ الكتابَ فهو لك ... وحين يرفعُ الشابُّ الحجابَ ويفتح الكتابَ لا يجدُ إلا مرآةًً يرى فيها وجهَه واضِحاً جليّاً، وكذلك مرآة في كل صفحة من صفحات الكتاب، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ سَّر المعرفةِ والحكمةِ هو في داخله، يخرجُ الشاب بعد ذلك ليكونَ مرشداً للآخرين الذين يحاولون الوصولَ لكتابِ الحكمةِ والمعرفة.

 

"الينبوع" فلم آخر انتج في سنة 2006 ولم يحقق أرباحاً كبيرة، والسبب واضحٌ، فهو فلم ذو مستوى فلسفيٍ عالٍ ولا يمكن لفلمٍ كهذا أن ينافسَ الأنتاجاتِ التجارية. توقف الأنتاج فيه قبل بدء التصوير بسبب صعوبة التمويل ثم تم إحياؤه نتيجةَ إصرار الكاتب "دارين آرنوفسكي- Darren Aronofski" أنَّ المُشاهِدَ يتوق الى الفِكرِ مع المَشاهِدِ المثيرة التي تبعثُ به للتعمق بالتفكير.

 

دعاني أحدُ الأصدقاءِ لمشاهدةِ هذا الفلمَ الذي استأجره على قرص " دي. في. دي." ولكنّه حذّرَني بقولِه أنه سيشاهدُه للمرّةِ الثالثةِ وإنه مازالَ يحاولُ فهمَه لاختلاطِ المشاهدِ المركزةِ فيه، وأني قد أحتاج لمشاهدته أكثر من مرةٍ لكي أستوعبَ ماجاءَ فيه.   كنتُ قد سمعتُ عن الفلم هذا، وسمعتُ الكثيرَ عن مستواه ولم أسمعْ الكثيرَ عن محتواه.   رحَّبتُ بالفكرةِ وكنتُ بحاجةٍ الى تمرينٍ ذهنيّ. من عادتي أن أحضر إبريق شاي وسُكّر وفنجاناً وكأساً من الماء حين أشاهد فلما يتطلب مني الجلوس من أوله إلى آخِرِه دون فتراتِ الاستراحةِ التي تهيئها لنا فواصلُ الدعاية.   جاءَ صديقي بإبريقِ الشاي وسكبَ لي كوباً، ولم أذكرْ شيئاً عن الشاي أو الصديقِ بعد ذلك حتى نهابةِ الفلم.

 

 

الفلمُ يتكوَّنُ من ثلاثِ قصصٍ متداخلةٍ في أحداثِها ومشاهِدِها ووكذلك في فلسفتها، وحتى أنَّ الممثلين الرئيسيين يقومون بالأدوارِ الرئيسيةِ في القصصِ الثلاث، إلا أن حوادثَها تدورُ في أزمانٍ مختلفةٍ على مدى ألف عام.. الأولى سنة 1500 ميلادية، والثانية في الحاضرِ القريب سنة 2000 ميلادية، والثالثة في المستقبل سنة 2500 ميلادية.   الشخصيةُ الرئيسيةُ في القصةِ التي تدورُ احداثُها في القرن ِالحادي والعشرين هو طبيبٌ شابٌّ يدعى (تومي كريوس) يقومُ ببحوثٍ لعلاج ورمِ الدماغِ الخبيث الذي تعاني منه زوجته الشابة (إزي) وإيقاف نموِّه. كانت الزوجةُ خائفةً جداً من الموتِ وذلك أدى  الى أن يركّزَ الزوجُ الطبيبُ كلَّ همِّه وجهدِه في محاولةِ أيجادِ العلاج لها، حتى دفعَهُ ذلك لكسرِ البروتوكول الطبّي باستعمالِ عقارٍ لم يسبقْ استعمالُه وهو مستخلصٌ من نسغِ شجرةٍ تنمو في غواتيمالا. ولكنه لاينجح في إيجادِ العلاجِ وتموتُ الزوجة قبل أنتهاء بحثه . قبل موتِها أعطته كتاباً كانت تكتبُه وهو عبارة عن روايةٍ بعنوان "الينبوع" تدورُ أحداثُها في عصرٍ الفاتحين الأسبان وتظهر فيه شخصيةُ الملكةِ الأسبانية "أيزابيللا" وبطلُ القصة أحدُ الفاتحين (Conquistadors) الشجعان المخلصين لها . كتبت الزوجة كلَّ فصولِ الروايةِ عدا الفصل الأخير الذي طلبت من زوجها أن يكتبه ويكمل الكتاب. كما أنها أشارت الى غيمةٍ سديميةٍ ذهبية (Golden Nebula) في السماء قالت له أن اسمها "شيبالبا" *** (3) وهي تمثلُ العالمَ السُفلي لدى شعب "المايا"****(4) وتحكمُه الأرواحُ الشرّيرة للمرضِ والموت.   قرأ الكتابَ وغفا، وعندما صحا وجد أنَّ زوجته قد ذهبت للمتحف فلحِقَ بها، وهناك أشارت لكتابٍ يشرحُ أسطورةَ الخلقِ لدى "المايا"، وفحواها أن الأبَ الكبيرَ لهم هو أولُ الخلقِ في الكونِ ولكنّه ضحّى بنفسِه لكي يُخلق العالم، وفي الكتابِ يظهرُ التوضيحُ على صورةِ شجرةٍ تقولُ الزوجة أنها الأبُ الكبير، وقد أصبح جسدُه الجذورَ للشجرة، وروحُه تفرّعت لكي تُخلق السماواتِ ومن الفروعِ تعلّق الأطفالُ حتى تكونت "شيبالبا" وفيها المرض والموت .. والمغزى أن التضحيةَ بالنفسِ والموتَ هو الطريقُ لحياة أخرى جديدة.  ثم بينت له أنها لم تعُد تخشى الموت بعد أن فهمته على أنه بداية الحياة. ولكنّه لا يقتنعُ بالموتِ ويقرر:

 " أن الموتَ مرضٌ كسائرِ الأمراضِ وله علاجٌ وإنه سيجدُ ذلك العلاج ."

 ثم مضى بتصميمٍ وعزمٍ في بحثِه هذا.

 

 

القصة الثانية تدورُ احداثُها في القرنِ السادسَ عشر ميلادي وتتداخلُ مشاهدُها وأحداثُها ورمزيتُها مع القصتين الأخريتين. الملكة أيزابيلا (الممثلة هي نفس الممثلة زوجة الطبيب)  متّهَمة بالهرطقةِ ومحقّقُ الدولةِ،  الذي يطمعُ بالاستيلاءِ على الحكمِ، يقتُل الموالين لها، الا أن سندَها وقائدَ الفاتحين(The Conquistadors) الموالي لها واسمه (توماس) يقِفُ للدفاعِ عنها (الممثل هو نفس الممثل لدور الزوج الطبيب تومي) .. الملكةُ ايزابيللا تعطيه خاتماً ليذكّره بالوعدِ أن ينجزَ المهمةَ التي كلّفته بها وهي أن يأتي بشجرةِ الحياةِ التي زرعها "المايا" والتي تظهرُ خارطةِ الطريقِ اليها على خنجرٍ سُرِقَ من "المايا" و يُعتقد أن من يشربُ نسغِها يعيشُ أبداً بقولها : " حين تجدُ جنةَ عدنٍ وتأتي بالشجرة، إلبسْ هذا الخاتم وعُدْ لي وسأكونُ انا حواءَك .. أنا وأنت معاً الى الأبد" .. ويتكرر هذا المشهد والقول " معاً الى الأبد" ويتداخل مع مشاهدٍ مع زوجةِ الطبيب تومي وهي تكرّرُ "إفعل ذلك ... أكملها" ...

 

أما القصةُ الثالثة والتي تتداخل أحداثها ومشاهدها مع القصتين الأخرتين، فهي السفرُ الى المستقبل (ألف عام الى سنة 2500) بمركبةٍ فضائيةٍ حيوية بحثاً عن سر الحياة .. ويظهرُ فيها المسافرُ الفضائي (واسمه توم) على متنِِ المركبةِ المتجهة نحو السديم الذهبية "شيبالبا" وهو يؤدي العبادةََ التأملية وممارسةَ ال (تاي تشي) ويعينهُ على الحياة والاحتفاظِ بشبابِهِ مركَّبٌ استخلصَهُ من نسغ شجرةٍ صغيرةٍ كانت على متنِ المركبةِ توشك على الموتِ وهو يؤمِّلها بعودةِ الحياةِ لها عند الوصولِ الى شيبالبا، ولكن الشجرةَ تموتُ من كثرِ ما استنفذه من نسغها.  الزوجة (إزي) تظهرُ له في الطيفِ تحثه على إكمالِ المهمةِ والوصولِ الى شيبالبا للقائِها.

 

 وفي النهاية .. توماس قائد الفانحين يكملُ المهمةَ التي كلفتهُ بها الملكة إيزابيللا، ويصلُ الى الأرضِ الموعودةِ وفيها شجرةُ الحياةِ إلا أنَّ قسّيسَ "المايا" يطعنُه قبل الوصولِ للشجرة، غير أن القسّيسَ يتراجعُ عن قتلِه ويعلنُ أن توماس هو الأبُ الأولُ للمايا الذي لولاهُ لما كانَ الخلقُ ويقدِّم نفسَه قرباناً ويطلبُ من توماس أن يقتلَه كي يُفتح له الطريقُ الى شجرةِ الحياة .. وهكذا فعلَ توماس ووصلَ الى شجرةِ الحياة. وهناك يستعملُ خنجرَ المايا الذي أعطته له الملكة إيزابيللا ليحدِثَ شقاًً في الشجرةِ وحين ينسكبُ نسغُها على الأرضِ تنمو نبتةٌ صغيرةٌ ثم تكبرُ وتخضر وتزهر مما يبشِّرُ بالحياة والخصوبة.   وبقليل من النسغِ يداوي توماس جرحَه فيلتئم الجرحُ ويختفي أثرُه. فيطمعُ توماس ويشربُ من نسغِ الشجرة بشراهةٍ ولا يتوقفُ حتى يرى "شيبالبا" تقتربُ منه وهو يتلوى ألما حين تنمو شجرة وتبدأ الأوراق والزهوربالظهور من كل جزءٍ من أجزاء جسده حتى تغطيه تماماً وتبتلعه...، أما توم المستقبل المسافر بالمركبة الحيوية وقد شاب وعمَّرَ بعد موت الشجرة الصغيرة، فيظهرُ وهو يلبسُ خاتمَ الملكةٍ أيزابيللا ـــ الذي أعطته الى توماس قائد الفاتحين ـــ ليخترقَ شيبالبا راضيا ومقتنعاً بحتمية الموت حين تنفجَُّرشيبالبا و يتناثرُ جسدُهُ على الشجرةِ الميتة فيعيدُ لها الحياة ...هذا المشهد يخلطُ شخصياتِ القصصِ الثلاث (خاتم الملكة ايزابيللا 1500م، في يد توم المستقبل 2005 م، و طيف إزي زوجة الطبيب 2000)،،

 

 أما تومي الطبيب فيقتنعُ أن الموتَ لامفرَّ منهُ ويرضى بموتِ زوجتِه ويكمل روايتها (الينبوع) ويختمُ قناعتَه بزرعِ شجرةٍ على قبرِها.

 

هل كانت هذه القصصُ الثلاث والأحداث المتشابكة لتومي وتوماس وتوم هي هذياناتِ الطبيب نتيجةَ الصدمة التي ألمَّت به بسببِ وفاةِ الحبيبة؟ أم كانت نتيجة للخوفِ من الموتِ والأملِ بحياةٍ أبدية؟ هل هي فصولٌ من الروايةِ التي كتبتها زوجتُه؟ أم هي الفصلُ الأخيرُ من الروايةِ الذي كتبه تومي الطبيب؟ هذا مايُترك للمُشاهدِ وتفسيراتِه .. وانتهى الفلم!

 

 صحوتُ ولم أجد شاياً في فنجاني .. لم أدرِ ماحدثَ له لا أذكر اني شربتُه، وإن كنتُ قد شربتُه، فربما كان ذلك بعد أن تسرَّب اليه بعضٌ من نسغِ شجرةِ الحياة! لأنّي مازلتُ أصحو أحيانا من نومي وكأنَّ شجرةَ تنمو وتزهرُ من كلِّ جزءٍ في بدني ..

 

السؤال الآن... ماذا عن التابوت؟

 قد يظن القارئ أني نسيتُ التابوتَ في خضمِّ أحداث الأفلام حين استرسلَ بي السردُ وأخذني معه الى مشاهدها وغيبوبتي فيها...

 

نص التابوت يأخذنا في رحلةٍ فلسفيةٍ من رحلاتٍ قلمِ الأديبِ القاصّ "المرابطي سعيد" الذي يداعبُ الفكرَ ويستفزُّه ُكلما حاولَ الأغفاءَ أو التغافلَ أو المرورَ السريعَ على الكلمات.. فالنصُّ، كما في "الينبوع" أو في "الدائرة الحديدية"، ينسيكَ إن كنتَ قد شربتَ الشايَ أم أنَّ الشايَ قد اختفى بقدرةِ قادر!

 

والنصُّ يشتركُ مع هذين الفلمين في كونِهِ رحلةٌ للبحثِ عن أجوبةٍ تشغلُ العقلَ اليشريِّ منذ الخليقة ... البحثُ عن المعرفة،ِ بعد كارثة أو دمار أو فقدان ماهو عزيز وغالٍ، البحثُ عن شجرةِ الحياة، البحثُ عن الحياةِ الأبديةِ، والبحثُ عما وراءَ الغيب ... الكلُّ يبحثُ عمن يجيبُ، والأجوبةُ قد تكونُ نصبَ الأعينِ ولكن ماتراهُ العينُ قد لا يريدُ العقل أن يراه .. والبصرُ قد لايكونُ على اتفاقٍ مع البصيرةِ .. الكلُّ يمضي في رحلته ابتغاءً لمن يجيبُ على ما يشغلُهُ من الأسئلة ..

 

البحرُ كان يحدُّهم والآنَ هو طريقُهم الى ما انفصلَ عنهم ... البحرُ كان قيدُهم والأنَ هو منفذُهم للحرية ـــ الحريةُ للبحثِ عن النفس في البحثِ عمَّن يخبرُهم مالا يعرفونَه عن أنفسِهم .. فهذا الغريبُ، الذي جاء َ من حيثُ لايعرفون، يقودُهم الى مايريدونَ معرفتَه، ويتبعونَه كما تبعت الفئرانُ عازفَ المزمارِ السحريّ... هذا الزائرُ، أهو بشرٌ؟ أهو طيفٌ؟ أهو نبيٌّ من بينهِم لم يبصروهُ ببصيرَتِِهم من قبل، والآنَ يتجلّى لهم ليريهم أنفسَهم ؟ كما في "النبي " لجبران خليل جبران ــ المصطفى يعيش في "أورفليس" غريباً إثني عشر عاماً، ويوم أن أزفَ موعِدُ رحيلِِه بوصولِِ سفينتِه التي ستقلَّه الى وطنِه الأم يتجمَّع حولَه أهالي أورفليس يرتَجون الحكمةَ من أقوالِه ! ــ أهو ملاكٌ ؟ أهو وحيٌ؟ أم هو شيءٌ من تخيُّلِهم؟

 

هذا الذي جاءهم من حيث لايعلمون، أنسيا ًكان أم جنياً، يرى سجنَهم في أنفسِهِم ويبعثُ بهم في مهمّةٍ ليخلّصَهم من قيدِهِم الكبير .. الماضي الذي عاشوا تحتَ وطأتِه .. ذلك المدفونُ في التابوت.. وذلك السرُّ الذي يشدُّهم إليه...

 

يأخذُنا المرابطي سعيد معه في الرحلةِ ويتأكّدُ من أنَّنا لن تأخذَنا "إغفاءةٌ طويلةٌ" ...

 

يأخذنا معه ومع الغريبِ الزائر ليرينا حالةَ هذه الجزيرةِ المنكوبةِ بالزلزال، وكلُّ جملةٍ تصوِّرُ الجدبَ والوحشةَ التي ألمَّت بالجزيرةِ وأهلِها .. وحتى المعزوفةُ على البيانو القديمِ التي انحدرت تتهادي في الشارعِ وبين الحارات  فيها غموضٌ يتجانسُ مع الوحشةِ التي تسودُ جوَّ الحكاية ... مع شيءٍ من الغموضِ المخيفِ الذي يُشعِرُ القارئَ أن التابوتَ الذي جاء في عنوانِ النصِّ سيظهرُ في أيِّ لحظةٍ ويقفزُ منه عفريتٌ ! لكنَّه يشيعُ الهدوءَ بعد قليلٍ بالتحدُّثِ عن هذا الغريبِ الذي أسَرَ أهلَ الجزيرةِ "بطلاقةِ وجهِه" وفصاحةِ صمتِه، وهم يتبعونَه في الطريق بحثاً عن التابوت وما فيه من  أجوبةٍ كانو يبحثون عنها ليستدِلّوا بها بحثاً عن طريقِ الخلاص...،

 

ماذا وجدوا في التابوت؟ ليس مهماً ما وقعَ نظرُهم عليه.. فأهمَّ ما وجدوه هو معرفةَ مافي التابوتِ.. ثم العودة ولملمة بقاياهم ليهتدوا بها .. العودة للذات وفيها النجاة "تعالوا نرجع ببقايانا لعلنا نهتدي بها فننجو من الأسر."

إذن ما رمزية المنجل والخرقة الخضراء والكتاب الذهبي؟

 كلٌ يفسرُّها بمنظارِه، والكاتب له منظاره، وأنا لي تفسيري، ولكني أقول:

كان عليهم أن يفتحوا الكتابِ لأن الأجوبةَ لن تجدَها بالنظرِ للكتاب، والكتابُ لا يُقرأ من غلافِه!

 

حرير و ذهب (إنعام)

الولايات المتحدة

http://goldenpoems.wetpaint.com/

 

.......................

الهوامش:

*(1) The Fountain فلم أمريكي /2006

**(2) Circle of Iron فلم أمريكي/ 1978/ والتسمية الأخرى له هي الناي الصامت Silent Flute

***(3) Xibalba : الترجمة من لغة المايا = مكان الخوف...

****(4) شعب المايا : The Mayans

 

المايا هو اسم حضارة قامت شمال جواتيمالا وأجزاء من المكسيك وهندوراس والسلفادور، وهذه المناطق هي موطن شعب هنود المايا، بلغت أوجها سنة 700ق.م.، و كان وصول الأسبان والأوروبيين إلى الأمريكيتين سببا في تدمير هذه الحضارة.

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1194 الاحد 11/10/2009)

 

في المثقف اليوم