قضايا وآراء

الشيوعي المريض .. للروائي والكاتب العراقي جاسم المطير / نبيل عبد الأمير الربيعي

والتي تحتوي على (220) صفحة من الحجم المتوسط، تعد إحدى الروايات التي تمثل الحقبة الزمنية الماضية التي مر بها مناضلي الحزب الشيوعي العراقي في زمان القهر والقتل والأغلال والعذاب في بلاد النهرين الذي لا تبصره الشمس والحرية منذ زمن بعيد، حيث لبث سكانه سنين طويلة صامتين واجمين من حاكم دكتاتور جثم على صدورهم ما يقارب (35) عاماً.

الرواية هي عبارة عن مذكرات المناضل جاسم المطير الذي اتخذ من اسم (يوسف العراقي) بطل الرواية بديل لاسمه، يوسف العراقي الشيوعي المريض والمقعد على كرسي متحرك والذي كرس حياته للنضال من اجل أن يستنشق شعبه نسيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، غير إن المرض الذي أصاب عظامه وعضلات جسمه بسبب التعذيب أيام الأنظمة السابقة قد أقعده، وبسبب الملاحقات والمضايقات فما كان منه إلا الهجرة وطلب اللجوء السياسي في هولندا، حيث بدأت الرعاية الطبية والاهتمام به كإنسان من قبل ممرضة تدعى (ماريّا) التي رعته وعاملته معاملة الطفل المريض بالتنزيه والحب والتجلي .

الرواية هي عبارة عن مقارنة بين واقع نظامين إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب،وبطل الرواية يوسف يتساءل من خلال الرواية عن واقع الإنسان في بلده وفي دول المهجر، قد يتبادر للقارئ من خلال الرواية إنها تمثل حياة الكاتب منذ دخوله المعترك السياسي ولحين هروبه كلاجئ، ولو كان عنوان الرواية (يوسف الشيوعي) كان الأفضل، فعند قراءة العنوان يتبادر لذهن القارئ إن بطل الرواية مريض بالفكر الشيوعي وليس مريضاً جسدياً بسبب معانات النضال والسجون والتعذيب، يذكر الكاتب المطير في ص12 حال الفقراء والمعوزين في بلاد النهرين والبترول: (أزمة خانقة جعلت الفقراء العراقيين يعيشون في الطرقات أو قريباً من المزابل . كل حاكم جديد في العراق يقول إن من أولى أحلامه أن لا يرى سكان بغداد إلا بأحسن حالٍ محميين من حر الصيف ومن مطر الشتاء في بيوت أو في شقق فاخرة تخلصهم من ضنك العيش) وواقع العراقيين يعيشون ما بعد التغيير 2003 في بيوت من الصفيح أو الخيام أو الطين وقد تهالكت سقوفها، كما أصبحت في بعض مناطق العراق حتى المدارس من الطين أو الخيام أو الكرفانات، فمتى يرتاح هذا الشعب الذي حلم بالسعادة والحرية، ولو قارنا ما قام به الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم الذي حكم العراق لفترة لا تتجاوز الأربع سنوات ونصف والمشاريع الذي قدمها للشعب العراقي حيث تم بناء أكثر من (250) ألف وحدة سكنية للفقراء والمحتاجين فيذكر الكاتب حال العراق أيام حكم الزعيم في ص 13: (من خلال شوارع مبلطة وبتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء والمستشفى والمدارس سميت باسمه، سكنها فوراً فقراء العاصمة لكنهم ما دافعوا عنه حين انقلب عليه أعداؤه وأعداؤهم قبل أن يكمل وعوده للفقراء)، قتل الزعيم قاسم قبل أوانه بسبب عداء القوى الرجعية والامبريالية وشركات النفط والرواية تذكر تلك الحقبة ودور الزعيم الوطني في بناء المشاريع في البلاد .

رغم بعد يوسف العراقي عن أرض بلده فهو رجل يعيش بلا وطن وبلا أهل حيث (تركهما في العراق البعيد بأمل واحد هو أن يحيا بحرية) ويعيش خارج وطنه لكي لا يُذل كإنسان بسبب أفكاره اليسارية المغايرة لأفكار رجال السلطة في العراق، لكن بعد عام التغيير (2003) يذكر الكاتب في ص90 من خلال اتصال عبر الهاتف مع شقيقه إبراهيم ليصف للمغترب يوسف بلده: (إن حرارة الأرض والحرب في بغداد يا يوسف ... احترقت الميكروبات والحيوانات الوحشية وأذناب القطط صارت مقطعة .. اختبأت نفسها في حفر غير معلومة،وديّس التمثال الصنم في الشارع .. غدت بغداد تحت أشعة الشمس من جديد.. ونعال أبو تحسين يقرقع بوجه الطاغية) كان هذا الخبر قد أسعد يوسف العراقي، حيث كان يعتقد أن صناعة الحرية في وطنه صعبه للغاية، لكن مكالمة شقيقه إبراهيم علمته أسمى حكمة في بلاد النهرين (إن الزمن طويل وصناعة الحرية صارت أمراً ممكناً) لكن بعد التغيير استمرت شرائع الاضطراب وأصبح إعراب كلمة الحرية ومعناها ولفظ نغمها وممارستها صعباً ومجنوناً في شوارع العاصمة بغداد، حيث دخلت قوى الإرهاب عبر الحدود ليمارسوا الجريمة بحق أبناء الوطن حيث يذكر الكاتب في ص 102: (يمارسون قانون إرهاب الناس في بيوتهم .. تعلموا ذلك من تجربة سيدهم نفسه حين ملأ البلاد بالرعب والخوف والاضطراب) العراق بلد يثير شهية الوحوش وغير الوحوش فقد ساد القبح لزمن طويل وانتشرت سيوف التقطيع لرؤوس توضع فوق جثث الضحايا، كان العراقي يبحث عن (رأس أخيه المذبوح أو أبنه المقطوع اليدين أو ابنته التي مزقوا فرجها بالاغتصاب الجماعي قبل فوران الرصاص داخل بدنها، عيونهم كعيون الصقور تبحث عن جثث يمزقونها) هذا وصف الكاتب لوضع العراق بعد دخول القوات الأمريكية.

من خلال هذه الرواية يبين الكاتب المطير واقع أبناء بلده كيف كان يحث خطاه بحزن هادئ ينبئ بقراءة عن نفس كريمة ظلت تبحث عن زهور الحرية والحياة الكريمة لشعب مغدور وبين بلاد المهجر وكيف يحافظ المعنيين على حياته وتهيئة ممرضة خاصة له تدعى ماريّا،من خلال قصة حب من نوع يرفض الاستسلام للحمية ويرفض العقاقير المرّة التي تقدمها له الممرضة لكن النفس الحرة التي تحملها تنقذه من انقباض نفسه حتى العودة لزيارة الأهل والأصدقاء في مدينة البصرة، الرواية هي تجربة لمناضل عراقي يحمل الفكر الماركسي وعانا من سجون واعتقالات وتعذيب أزلام النظام، بسبب نضاله الوطني ودفاعه عن حرية التعبير عن الرأي، كآخر اعتقال له في تسعينيات القرن الماضي، إذ لا شيء ينمو في العراق غير حجم السجون كي يتوارى الإنسان عن إنسانيته.

يتذكر يوسف العراقي وهو مسند على كرسيه المتحرك خطاب صدام حسين في حروبه العبثية في ص46: (أنا قادم إليكم أيها الناس لأبقى إلى الأبد) هاتفاً بحروبه في إيران والكويت وكردستان، حيث أصبحت تمتد يده على رقاب الشعب وأصبحت مدننا رماد لحروب وسيوف معارك الطاغية مثلما شهدت رماد حرب الكترونية بطائرات الشبح وصواريخ الكروز في حرب الخليج الثانية، كان يوسف العراق يائساً من الحياة بسبب إعلان الأطباء بموته القريب فيحاور الممرضة ماريّا عن ساعة رحيله في ص47 (غطيني يا ماريا ..اسقطي عليّ تراب الأرض المنخفضة و إذ حُرمت من غطاء تراب رقد فيه الحسن البصري وشاكر محمود وسميرة البصري وبدر شاكر السياب)، لكن يوسف العراقي قد كتب عليه العيش في وطن جديد ليس متعفناً بقوانين الدكتاتورية والعبودية، وطن يحترم حقوق الإنسان، بلد تطالع فيها صباحاً الزهور بلا جثث القتلى التي تملأ الأهوار وحلبجة وأرياف الفاو .

يتذكر بطل الرواية رفاقه في الحزب و مدينته الجنوبية البصرة ففي ص51: (تصريحاتهم المتكررة يطلقها الرفيق عزيز محمد أو الرفيق أبو داود أو الدكتور علي إبراهيم أو الرفيق أبو أروى فأعصابه ملفوفة كلها بهذا الكرسي)، ثم يتذكر دور رفاقه من الأنصار الشيوعيين في كردستان العراق الذين صعدوا الجبال من المناطق الوسطى والجنوبية خوفاً من مخاطر بطش رجال النظام الذين يجلدون عظام الإنسان بالسياط فتحدث حالات الاختلال في الألياف العصبية المحيطة بالمعصم والمرفق والكتف والعمود الفقري كله والجهاز العظمي والعضلي، إنها حياة الكاتب المطيري الحقيقية التي تعرض لها من خلال رجال أمن النظام، يقارنها باهتمام ممرضة غريبة عن بلده بحياته وصحته لكي يشفى من مرض مزمن ترسخ وصار عطباً دائماً في جسده .

لهذه القسوة من قبل النظام الشمولي يتذكر يوسف العراقي هجرة أصدقاءه لمدينة البصرة بسبب الملاحقات الأمنية منهم (رفيقه القديم عبد داود الخشتي وعبد الملك الذي سكن الكويت وجبار الشيخ غادرها إلى السعودية وصالح الشايجي ...وعزيز وطبان اللاجئ المستريح في ألمانيا،حيث اقترنت أحلامه بأحلامهم فكان يشتد غيرة ودافع التحرر من القفص العراقي المكبل بحديده) لكن يوسف يبقى محافظاً على معتقداته وأفكاره التي ناضل من أجلها .

يتذكر الكاتب في الرواية مدينته التي ولد فيها الزبير عام 1934 ومعاناته عند الهروب من تلك المدينة الصحراوية التي فرّ هارباً من إرهاب السلطة وأجهزتها القمعية التي لا تقدم لشعوبها غير الاستبداد والموت والجوع متجولاّ في الدول العربية مثل الجزائر واليمن وسوريا، فهي مذكرات لحياة الكاتب جاسم المطير وما عاناه في ظل الحكم البعثي من ملاحقات ومعتقلات، فتمثل الرواية الحوار بين شخصيات معدودة هم (يوسف العراقي وماريّا وسلام عبد الله وابنة ماريا)، ثم يذكر التدهور الذي حدث في بلده بعد التغيير عام 2003 بدخول القوات الأمريكية والتفكير لبطل الرواية بالعودة إلى بلده للعيش بين أهله وأصدقاءه ورفاقه.

الرواية تمثل السيرة المبتسرة لحياة المناضل والكاتب والروائي جاسم محمد المطير التي تميزت بالموضوعية، فهي تمثل فترة عاصفة من تأريخ العراق السياسي، و عرض لأحداث كانت خافية عن دور المناضلين الشيوعيين في العمل السري وفي دول المهجر، ومزايا الرواية خلوها من الأخطاء المطبعية وهذا أمر نادر الحدوث في المطبوع العربي والعراقي، مع العلم إن تصميم الغلاف وإخراجه من عمل أمل عثمان، وقد أولى الكاتب بآراء سديدة حول الوضع السابق والراهن للعراق في ظل الأحداث الجارية رغم إن الرواية هي تسجيل لماضي وحاضر المواطن والسياسي العراقي، وقد اظهر للعيان في هذه الرواية إن مدرسة الشيوعيين العراقيين تمكنت من إبراز طاقة رائعة لكتاب وروائيين ومحللين بنهج سليم ومنهجية واضحة، ولعلي مدين بالجانب الأكبر من ثقافتي السياسية والأدبية والعامة لهذه المدرسة الوطنية التي أصبحت علامة بارزة في تأريخ العراق الحديث.

نبذة عن حياة الكاتب والروائي جاسم المطير:

*من مواليد البصرة عام1934 ويقيم حالياً في هولندا

*عمل في الصحافة الوطنية منذ نصف قرن

*له مؤلفات عديدة في السياسة والاقتصاد والآداب

*نشر العديد من الدراسات والأبحاث في عدد من المجلات العربية المتخصصة

* أصدر الكثير من القصص و الروايات قد تجاوزت الخمسة عشر بين رواية وقصة و قصة قصيرة.

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2183 الاثنين 16/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم