قضايا وآراء

قانون البنى التحتية (2) كم نستطيع الإستدانة وما هي البدائل؟ / صائب خليل

وأهميته القصوى، ودعا إلى قبوله، ولكن بشرط أن يتم تجاوز الإشكالات الكبيرة في شكله الحالي، فقال أن "مسودة القانون تمثل النمط السائد في الدوائر الحكومية وهو يفتقد للجانب الفني"، كما ذكر أن "بناء البنى التحتية في العراق الجديد يجب الا يكون عشوائيا بمعنى عدم ارتباط مشاريع الاعمار بخطة متكاملة" (مثلا تشييد ميناء الفاو الكبير دون مراعاة للمشاريع التكميلية المتعلقة بالطرق والسكك الحديدية او تشييد منطقة سكنية دون الالتفات الى المشاريع الخدمية المتصلة بها ... الخ)، وتساءل البصري: هل ان مسودة القانون قد كتبت وفق خطة محددة؟

وحذر من "أن الوزارات الحالية منهكة تماما وعاجزة عن تنفيذ المشاريع الاستثمارية للموازنات الاتحادية اذ لم تتجاوز نسب التنفيذ المالي للوزارات هذا العام 51 بالمئة ناهيك عن التنفيذ الحقيقي كما ونوعا."، مؤكدا ان تبعات هذا القانون بحق ستكون عبئا ثقيلا اضافيا على الوزارات او الجهات الفنية المكلفة بادارة متطلبات هذا القانون.

وتحدث البصري عن "غياب المفاوض الذي يجيد لغة التفاوض الفنية والاقتصادية" وأن "مشكلة الاعمار في العراق لاتتوقف على توفر التخصيصات المالية، بل على ادارة المال والمشاريع." وعن ضرورة "اعطاء اولوية توزيع المشاريع حسب الجدوى الاقتصادية للمشاريع قبل اعتماد التوزيع حسب النسب السكانية (مثلا الموانئ والمطارات ومعامل الحديد والصلب ومستشفى تخصصي عالي المستوى)." (1)

ويؤيد جميع الإقتصاديون هذه النقطة فيرى الأستاذ كامل العضاض أنه "لا يمكن أن تُقام البنى التحتية بكفاءة بمعزل عن معرفة وتحديد حجوم الإستثمار والتوسعات المتوقعة في جميع مفاصل الإقتصاد العراقي، فلو رغبنا مثلا في بناء طرق أتو ستراد واسعة لابد من تصورات لحجم الحمولات وكثافتها ومن اين الى أين، اي لابد من تحديد المواقع الجغرافية للمنشئات الصناعية وحجوم مخرجاتها وتوسعاتها المستقبلية وغيرذلك من معلومات تكاملية . وكل ذلك لتأتي الإستثمارات متوافقة مع حاجات النمو الإقتصادي المتوقعة بحصافة خلال العقدين القادمين مثلا". وهذا التوجه ينسجم مع بيانات سابقة للأستاذ العضاض حول ضرورة تخطيط الثروة النفطية من أجل تعظيم البناء الشامل للإقتصاد وليس تعظيم موارد النفط.

 

ويرى الوزير السابق السيد رائد فهمي أنه :"لا توجد ضمانات حقيقية في أن التعاقدات المقترحة بموجب هذا القانون ستخلو من أسباب التعويق التي رافقت التعاقدات الكبرى الأخرى للدولة"، وأن "اللجوء إلى الدفع بالآجل هو طريقة لمعالجة العجز في التمويل، وسيكون اللجوء إليه مفهوماً ومقبولاً إذا ما كانت جميع العناصر اللازمة الأخرى للاستثمار والتنمية مستنفذ استخدامها وتوظيفها بكفاءة، والحال ليس كذلك".(2)

 

رغم أنتقاداته، يرى البصري كمعظم الدارسين الجديين للموضوع، أن القانون تضمن العديد من الاسباب الموجبة لاقراره، بل يذهب إلى أن اقراره في الوقت الحاضر بات ضرورة متناهية الأهمية ويجب ان يتم وضع سقف زمني لايتجاوز هذا العام لاقراره، اذ ان عدم اقراره يشكل كلفة انسانية واقتصادية لايستهان بها وعيبا كبيرا في العملية السياسية.  واشار إلى تقرير لوزارة التخطيط يؤكد ان االموازنة لا تستطيع الايفاء باكثر من 43 بالمئة من هذه النفقات وعلى ان يتم توفير المتبقي 57 بالمئة من خلال القروض والاستثمار.

 

إذن يريد البصري تغيير المشروع تغييراً أساسياً، وعندها فهو يقر بضرورة القبول بالإستدانة، لكن كم يمكننا أن نستدين؟ ماهي كلفة ذلك وما هي مخاطره؟

في دراسة مهمة له بعنوان " جدلية البنية التحتية في العراق :التمويل والضمانات "، راجع د. مظهر محمد صالح هذا السؤال وبين العلاقة بين "ثروة الأمم" وعلاقتها بقدرتها على تحمل الديون وأرباحها. وبدأ بالتنبيه إلى أن "البنية التحتية المادية" من شبكات طرق وكهرباء وإتصالات وغيرها هي جزء من هذه الثروة وكذلك "رأس المال الإجتماعي" من مؤسسات صحية وتعليمية وقانونية وغيرها، وأيضاً ما تمتلكه من صناعة وزراعة، إضافة إلى الثروة الطبيعية التي ربما تزيد في العراق عن 12 ترليون دولار من النفط وغيره، وقارنها بأنها تزيد مرتين عما تمتلكه أستراليا، أما الولايات المتحدة فتقدر ثروتها بـ 118 ترليون دولار. وأوضح د. مظهر أن العراق الغني بالعنصر الأخير، يفتقر بشكل شديد إلى بقية العناصر، وأن حصة الفرد من البنى المادية الحالية لا تزيد عن خمس تلك التي كانت له عشية اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، حين قدرت تلك البنية بـ 35 مليار دولار، وأن النقص الحالي في البنية يقدر بـ 250 مليار دولار.

 

ويرى د. مظهر أن وضع العراق الذي يدفع به إلى "الدفع الآجل"، يتطلب التعرف على مقياس "طاقة تحمل الدين العام" والتي تعتمد في كل بلد على "الناتج المحلي الاجمالي"، وأن هذا المقياس يمكنه أن يساعدنا على استشفاف قدرة البلد على "ادامة الدين"، اي "تحمل الدين ومواجهة التزاماته دون ان يؤثر على صحة او سلامة النمو الاقتصادي في البـلاد"

او الحاجة الى اعادة جدولة الدين او تراكمه بما يعيق النمو الاقتصادي .

 

ويبين الدكتور مظهر المقياس المعتمد لدى المؤسسات المالية الدولية والمسمى (DSA) والذي يبين السقوف القصوى لذلك الدين، لضمان اقتصاد مولّد للنمو والفائض الاقتصادي، بأنه يجب أن لا يزيد عن 60% من الناتج المحلي الاجمالي، ولا عن 150% من صادرات البلاد ولا عن 250%  من ايرادات البلاد من العملة الاجنبية ، وأن لا يتعدى نمو الدين السنوي 3% من الناتج المحلي الاجمالي .

وفي حسابات هذه الأرقام على الإقتصاد العراقي والديون الباقية في ذمته، يصل الدكتور مظهر إلى أن تلك الديون تمثل 35% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي يتبقى لدى العراق قدرة لإستدانة 25% (60% - 35% = 25%) من ناتجه المحلي الإجمالي البالغ عام 2012 ، 140 مليار دولار، اي 35 مليار دولار، وبذلك فأن مبلغ الـ 37 مليار المطلوب للبنى التحتية يتجاوز الحد الممكن، ولكن بدرجة طفيفة.

 

وبين الدكتور مظهر أن وضعية العراق تضيق من فرصه في الحصول على تمويل بكلفة معقولة، بسبب استمرار فرض الفصل السابع عليه (والفضل يعود طبعاً لـ "أصدقاءنا" الأمريكان ومن صدقهم ووقع الإتفاقية معهم دون شروط محددة، وكذلك ذيولهم المتمثلة بأياد علاوي وهوشيار زيباري كما بينت في مقالات سابقة، والتراخي العام في الحكومة العراقية). ويفرض الفصل السابع وتداعياته إضافة تقدر حسب الدكتور مظهر بـ " ( 35 - 45)% من كلفة تنفيذ المقاولة الاجنبية في الظروف العادية" .

ويقترح الدكتور مظهر أخيراً كحل بديل "انشاء صندوق سيادي غاطس"، يصرف منه على مشاريع البنى التحتية، ويمول دورياً من الموازنة الاتحادية ويعوض باستمرار عند السحب منه.

 

لقد وضعت دراسة الدكتور مظهر المسالة بشكل أرقام تبين كم يمكن للعراق أن يستدين دون ان يدخل منطقة الخطر، وأوضحت الأرقام أنه سيقف على الحافة الخطرة من تلك المقاييس، حتى بحساب إمكاناته النفطية الكبيرة.

 

ويجب هنا أن نتذكر ونحن نطبق هذه الأرقام بضعة حقائق خطيرة الأهمية. الأولى هي أن المبلغ 37 مليار ليس سوى مبلغ تقديري، وأنه تمت زيادته في إحدى التعديلات على القانون إلى 40 مليار، كما بينت في الحلقة الأولى من المقالة، وبالتالي فإننا دخلنا منطقة الخطر بشكل واضح. كذلك من المعلوم في مثل هذه المشاريع طويلة الأمد أنها تكلف دائماً أكثر من المبالغ المخصصة لها، وأحياناً بشكل كبير، وهذا يدخلنا أكثر في منطقة الخطر.

وإذا أخذنا في الحساب ما يسمى "كلفة العراق" المتمثلة بـ ( 35 - 45)% المذكورة والناتجة عن بقاؤنا تحت الفصل السابع فأن هذا يعني أننا سنكون في "الدرك الأسفل" من منطقة الخطر!

 

وإذا حسبنا ظروف العراق الخاصة الأخرى من مستوى سيطرة الفساد، وتشضي الوحدة الوطنية والسياسية غير الطبيعي وانتشار الطائفية الخطر، ومستوى الشفافية المتدني بشكل غير اعتيادي، والإرهاب الذي يخترق أجهزة أمن الدولة إلى حدود كبيرة غير معلومة (علينا أن لا ننسى أننا الدولة التي اشترت قطع حديد فارغة على أنها أجهزة كشف متفجرات، وأنها لا تزال تستعملها بعد فضيحتها بسنوات!) ، ويتحكم في اقتصادها بنك (جي بي موركان) يفرض عليها مع من تتعامل ومع من تمتنع حتى لو كانت كلفة ذلك مضاعفة أسعار ما تشتري، والجهل الشديد لمسؤولي الحكومة في التخطيط والإقتصاد متمثلاً بغياب أي تخطيط مستقبلي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بتقديمهم مثل هذه الورقة على أنها مشروع إستراتيجي، رغم أنه لا يشمل على اية حسابات من أي نوع، وكذلك المعارضة التي همها ومهمتها في الحياة إفشال أي مشروع، والتي تهتم بسلامة إرهابيي خلق أكثر من الوطن، والبرلمان الذي تعشعش فيه أمثال لجنة النفط والطاقة واعضاؤها الذين يعملون لخصخة البلاد للشركات الأجنبية والمحلية بحماس يزيد بأضعاف حماسهم لبلادهم، ولدينا أيضاً إقليم يمثل نوابه الكثر، مصالح الشركات والحكومات الأمريكية والإسرائيلية، ولا يتورع عن أي ابتزاز لبلاد وشعب لا يشعر بأي انتماء لهما، ولا يتردد في أية سرقة لمواردهما المشتركة من كمارك ونفط وتهريبه حتى عندما لا يكون في تلك السرقة فائدة للإقليم كما بين الأستاذ حمزة الجواهري، ولا يمتلك ساسته أية مشاعر تجاه البلد إلا اللهم العداء الصريح، ويحضى بدعم أميركا وتركيا في كل طموحاته غير المشروعة، التي وصلت إلى الإستيلاء بالقوة على أراضي وثروات المحافظات المجاورة له وفرض ذلك كأمر واقع، كما فعل في النسبة التي يفرضها على الحكومة والتي لا تمثل نسبة سكانه أبداً، وباعترافه، وما أنتج كل ذلك من خلل مدمر على بنية البلاد الإجتماعية... إذا حسبنا كل ذلك، فسنكون موقنين بأننا نسقط في فخ إقتصادي كبير إن لجأنا إلى الإستدانة والدفع بالآجل بهذا الحجم، بل حتى بنصفه!

 

وإن كنا حقاً نهدف إلى خدمة البلد والشعب وليس إلى مشاريع "عملاقة" للتباهي، فعلينا أن نأخذ بنظر الإعتبار البدائل الأقل لمعاناً ولكن ربما الأكثر فعالية في استعمال الأموال، مثل إقتراح الأستاذ فاضل عباس مهدي بإنشاء صندوق للبنية التحتية، ولكن يركز على "الحفاظ على ما بناه أبناء العراق بعهودهم المختلفة وتطوير البنى التحتية الموجودة فعلا قبل بناء منشآت جديدة من الصفر فذلك أرخص وأجدى اقتصاديا". إنها وجهة نظر يجب أن تعطى ما تستحق من أهمية.

 

لماذا تريد الحكومة الدخول في مشاريع عملاقة، وهي لم تتبين بعد أن لديها الأدوات القادرة على إدارة حتى المشاريع الصغيرة والبسيطة، ولماذا تريد التورط في مشاريع مكلفة مع شركات كبرى في "غياب المفاوض الذي يجيد لغة التفاوض الفنية والاقتصادية"، حسب تعبير الدكتور البصري؟ ألا يدعو نواب كثيرون إلى خصخصة الكهرباء بحجة أن الحكومة ميؤوس منها؟ فحتى حين تعطي الأمر كله لشركة أجنبية كأية حكومة متخلفة تريد النتيجة فقط، فعليك أن تعرف كيف تدير العقود مع تلك الشركات وإلا أكلتك أكلاً. والحديث عن أن الشركات الكبرى لا تغش، كلام فارغ بل مشبوه! فالغش الأكبر هو في الشركات الكبرى والفضائح الكبرى كانت دائماً في الشركات الكبرى كما يشير تاريخ إنرون وهاليبرتون والمصارف الكبرى التي تسببت في الأزمة العالمية المالية من خلال تعاملات مشبوهة بالعقار وما تلاها، وغيرها كثير.

قبل يومين قرأت هذا الخبر عن "المشاريع المتلكئة في محافظة بابل" كمثال مخيف لطرق عمل الحكومة وما تمتلكه من أدوات، ويمكنكم أن تقرأوه وتحكموا بأنفسكم، إن كانت حكومتنا مستعدة لمشاريع إنشائية كبيرة بفوائد كبيرة.(3)

 

كذلك، لكي تستدين الحكومة بشكل سليم، ونأمن تصرفها بالدين بشكل سليم، يفترض بالحكومة أن تتصرف كحكومة "فقيرة" تحتاج إلى الدَين. فهل في التبذير في رواتب المسؤولين مثلاً، وصرفياتهم في سفراتهم، ما يوحي بحكومة مضطرة للإستدانة للصرف على بنيتها التحتية و "مساعدة الفقراء"؟ وكيف يمكننا أن نفهم تبرع حكومة لا تجد دولاراً واحداً لتبدأ به بناء بنيتها المحطمة سوى بالإستدانة، وتقوم "بمساعدة" دولة أخرى من خلال تخفيض النفط المصدر لها، وتلك الدولة لديها بنية تحتية أفضل منها بمئات المرات؟ الحكومة التزمت صمت القبور عن هذا الأمر، رغم صراخنا وصراخ الناس وتبياننا للفضائح المتعلقة بهذا الموضوع، ورغم حاجة الحكومة وتباكيها على الفقراء ومساكنهم، فهل نستطيع أن نأتمن مثل هذه الحكومة على الدخول بعمق في عالم الديون الدولية الخطر؟

هناك أيضاً موضوع "التعرفة الجمركية" والذي تتهرب الحكومة منه لتخوفها من ارتفاع أسعار المواد الإستهلاكية. والحقيقة أن هذا الرأي، إن لم يكن وراءه تجار لصوص، فهو في غاية الغرابة. فمن جهة تريد الحكومة أن تبني البلاد بالديون، ومن الجهة الأخرى تريد أن تتصرف كإمارة نفطية خليجية فتطلق الإستهلاك بكل حرية ولا تريد إزعاج المستهلك بأية ضريبة. وإن كان الحرص على الفقراء والسلع الأساسية، فيمكن إعفاء تلك السلع من الضريبة، وإبقائها على الباقي الكمالي الذي يستهلكه الأغنياء أكثر، كما تفعل حتى الدول الأكثر ثراء وأقل إشكالات من العراق.

 

ويشرح عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار النائب محما خليل: ان"التعرفة الجمركية لها أهمية كبيرة وتأجيل العمل بها له تأثيرات سلبية على اقتصاد الدولة، لأن له مردوداً جيداً، فإيرادات الجباية تقدر بمليار وسبعمائة مليون دولار". وقال أن"الحكومة تطالب بتطبيق القانون المذكور بعد سنتين،وهذا يعني بعد انتهاء الدورة البرلمانية الحالية".(4)

 

إذن هناك تبذير شديد وتبرعات لا مبرر لها من جهة، والإتجاه إلى ديون كبيرة من الجهة الأخرى! ألا يبدو أن الأمر مدبر من جهة ما، وأنه فخ إقتصادي للحكومة والبلاد، لإخضاعها لإرادة البنك الدولي وشركات النفط في نهاية الأمر، أكثر مما هي الآن؟ من الذي وضع هذا "الفخ الإقتصادي"؟ هناك مؤشر غريب يثير الريبة، وهو ما أشرت إليه في الجزء الأول من المقالة، من كون المشروع مقدراً بالدولارات وليس بالعملة الوطنية كما يفترض في مثل هذه المشاريع، وهو ما يوحي بأن مصدر هذا المشروع من "مستشارين" أجانب، يفترض انهم أمريكان، وهذا ليس غريباً، فجميع المؤشرات تقول أن من أهم أهداف الإدارة الأميركية وضع العراق تحت سلطة البنك الدولي ومؤسساتها المالية وإجباره على الخصخصة وحرية السوق وبيع ثرواته رخيصاً لشركاتها، كما حدث في كل مكان في ا لعالم تتواجد لها فيه سلطة كافية. هذا ليس سوى تخمين فقط، وسواء كان صحيحاً أو خطأ فأنه لا ينفي ما تقوله الأرقام والحقائق أعلاه من خطر الدخول في مثل هذه الإستدانة، خاصة في مشاريع البنية التحتية التي لا يتوقع أن تأتي بمردود سريع بسبب طبيعتها.

 

ما البديل إذن؟ الحقيقة أن البديل متوفر وجاهز ويضع نفسه أمام الحكومة، فلا تنظر إليه ولا تخبرنا عن السبب، رغم أن العديد من السياسيين والباحثين يصرخ به، حتى بفرض أنها مبتزة من قوة كبرى ولا تستطيع أستعادة أموالها لا من الأردن ولا من كردستان، فإنها تستطيع كما افترض استخدام بقايا تخصيصات السنوات الماضية التي اعيدت إليها! أن تستخدمها لتبدأ العمل حتى إن لم تبلغ تلك المبالغ رقم الـ 37 مليار أو الـ 40 مليار المطلوبة. فعلى كل حال نحن لا ندخل هنا في مشروع متكامل لا يمكن تجزئته، فحتى المشاريع لا تزال غير محددة ولا توجد هناك أية خطة حتى الآن باعتراف الجميع. الحكومة طلبت من الجهات تقديم اقتراحاتها للمشاريع، لكن أليس هذا العالم مقلوباً؟ هل تحاول معرفة ما تحتاجه من مشاريع بعد أن تحدد المبلغ اللازم لها أم العكس؟

كذلك لا أفهم لماذا لا ابدأ العمل بما أمتلك من مال؟ ما هو السر؟ لماذا الخيار البديل المكلف والخطر وحده هو ما تقدمه الحكومة؟ هل هناك رغبة بالإستدانة؟ إنها أحجية أخرى من أحاجي العراق الكثيرة....

 

لقد أشرت بشكل عابر في الحلقة الأولى من هذه المقالة (5) إلى خطورة الدَين ووعدت بمحاولة كتابة مقالة خاصة لذلك لأهمية الموضوع وإنارة السؤال الذي سيتكرر بلا شك في الفترة القادمة كثيراً عنه. وذكرت أن على العراق أن لا ينسى أن اقتصاده الريعي معرض للهزات الإقتصادية عند حدوث هبوط في سعر النفط، وأن عليه أن يبقى خطوطاً لتراجع سليم عند الحاجة. والحقيقة أن هذا الهبوط في الأسعار يمكن ايضاً التسبب به عن عمد عند الحاجة إلى تحقيق هدف سياسي، وهو ما فعلته أميركا من خلال دفع السعودية إلى ضخ كميات من النفط أكبر من حاجة السوق، للضغط على أسعاره وتحطيم الإتحاد السوفيتي، ثم كررت ذلك لدفع صدام إلى احتلال الكويت، وهو الأمر الذي ادى في نهاية الأمر إلى إنهيار عربي شامل، ولا شك أنها تريد ذلك الآن في مواجهتها لكل من إيران وروسيا في نفس الوقت، ويمكن أن تتسبب في مثل هذا الهبوط لإجبار العراق على بيع ثرواته بطريقة "القاتل الإقتصادي" التي أشرنا إليها في الحلقة السابقة.

 

وهنا أريد أن الفت الإنتباه أيضاً إلى نقطة مقلوبة المنطق جاءت في محاضرة الدكتور البصري حول هذا الأمر حين شجع على تنفيذ القانون وعاجلاً باعتبار انه "في حالة عدم اقرار القانون سوف يكون من المتعذر القيام بالمشاريع الحيوية المطلوبة على المدى القريب،  كما من المتوقع ان تنخفض اسعار النفط في الاعوام القليلة المقبلة ولغاية 2016 بسبب العرض الفائض (كما تشير الى ذلك الدوائر النفطية العالمية ذات الاختصاص)."(1) إنتهى الإقتباس من البصري.

فإذا كان المتوقع أن تنخفض أسعار النفط بسبب العرض الفائض، فيجب أن يحسب حساب هذا الإنخفاض وأن يعدل ما يتاح للعراق أن يستدينه على هذا الأساس، وأن لا يفترض أن الحكومات القادمة التي سنثقلها بدين إضافي، ستكون قادرة أن تدير ذلك الدَين إضافة إلى إلتزاماتها، وبدون التضحية بثروات العراق، في الوقت الذي ستعاني فيه من انخفاض في الدخل القومي! صحيح أننا يجب أن نستعجل استغلال الفرص، لكن بالمتوفر لدينا وهو ليس قليل، وليس بإثقال حكومة قادمة نعلم مسبقاً أنها ستعاني من أنخفاض الواردات!

 

في النهاية نقول، نحن نقف مع الخبيرين في ضرورة مشاريع البنية التحتية وعلى وجه السرعة، إنما نقف معهم ايضاً في ضرورة أن يبذل الكثير من الجهد التخطيطي أولاً، وأن يقدم مشروع حقيقي وليس ورقة يدعمها بقوة البعض وهي لا تحتوي أي شيء محدد، ويتظاهر مطالباً بها من لم يقرأها ولم يقرأ شيئاً عنها.

فإن تم تجاوز الإشكالات هذه، وهذا لا يتم بين ليلة وضحاها، فنحن نقف مع المشروع بكل قوة، وإن لم يكن فإنني لا اجد فيه سوى مادة دعائية إنتخابية، يمكن عبور الإنتخابات القريبة بها بسلام، لكنها لن تكشف لاحقاً إلا عن كارثة إقتصادية جديدة وطريقة لتجاوز الحكومة لصلاحيات البرلمان في توزيع أموال البلاد، وستذهب هذه الأموال هباءاً كما ذهب من سبقها. إذن يجب على الحكومة أن تؤدي واجبها بالبدء بوقف نزيف أموال البلاد للخارج ولكردستان وإضافتها إلى المبالغ المتبقية من ميزانيات السنوات السابقة والتي تقدر بأكثر من 20 مليار دولار، واستخدامها جميعاً لتنفيذ هذا المشروع، وإلا فإن الإصرار على العشوائية وطريقة التنفيذ غير الصحيحة يعني أن الحكومة غير جادة في تحقيق أهدافه، وأن وعدم تقديم أي تبرير لهذا الإصرار يثير الشبهات، ويجب في هذه الحالة أن يرفض المشروع!

 

(هذه هي الحلقة الثانية والأخيرة في الموضوع، ونأمل بكتابة مقالة مستقلة عن تاريخ وخطورة الإستدانة. الحلقة الأولى من المقالة كانت بعنوان "قانون البنى التحتية (1) الصراع السياسي وخلل القانون" وتجدونها على الرابط أدناه (5) )

 

(1) http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=35753

(2) http://www.iraqicp.com/2010-11-21-18-04-44/23911-2012-09-17-18-43-49.html

(3) http://www.iraqicp.com/madarat/24476-2012-09-30-08-00-45.html

(4) http://www.iraqicp.com/2010-11-21-17-49-26/24514-2012-09-30-19-54-47.html

(5) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&

;view=article&id=67667:---1-------&catid=34

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2236 السبت 06 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم