قضايا وآراء

قراءة نقدية في نص (رغوة شامية) للشاعرة العراقية جوانا أبلحد / هيام مصطفى قبلان

بأن يأتي اليوم وأزور سوريا،، ولم أكن أعلم أنّ الأحلام من الممكن أن تتحقق حتى ولو كانت افتراضية،، هذه القصيدة جعلتني أعود الى التاريخ القديم كي أستطيع أن أتناول النص الذي اعتمد في لغة السرد على المكان والزمان، على التصوير، وعلى الأسطورة، والرموز التاريخية .

قلت من قبل وأقول الآن أنّ المبدع الحقيقي يستطيع مزج التاريخ والأساطير بالدراما وبلغة تصويرية ابداعية بعيدا عن المباشرة وهنا في قصيدة رغوة شامية أحسست ولأول وهلة بهالة مضيئة من هالات الرب تسمو بي الى الأعالي لأنهض بسموّ وبرغبة جامحة أتسلّق غيم التاريخ وأساطير لم أعرفها من قبل تؤكّد أنّ الأماكن في التاريخ لم تسمى بأسمائها صدفة ولا هباء وانما سميت نسبة الى حدث أو شخصية تاريخية أو دينية أو أسطورية،، وهذه القصيدة التي نحن بصددها تحوّلت الى أسطورة لمدن تاريخية سطّرها التاريخ وتشهد لها الأماكن .اسمحوا لي أن أتناول الرموز التاريخية والأماكن بعد عودتي لمصادر تاريخية كنت قد تركتها جانبا منذ أن أنهيت دراستي في التاريخ العام  للعصور القديمة والوسطى والحديثة،، وسأحاول الربط بين جماليات اللغة الحسيّة والادراكية للشاعرة والتي حبكتها بقدرة واتقان وسرد مدهش .

 

هذا الضوء الذي يطلّ على القارىء في مستهلّ القصيدة برغوة شمس يانعة من " صيدنايا " حتى تصل الى رعشة الضوء في " قاسيون" مع اختلاج للمشاعر العاشقة زندا حنطيا برعشة جسدين تجولا في الحارات العتيقة والأماكن التي ألبستها الشاعرة حلّة قشيبة من جمال الطبيعة والتكوين الرّباني،، لهذه الرغوة نكهة ورائحة،، رائحة المكان وعبق الطبيعة الخلابة التي رسمتها لنا أثناء رحلتها،، الرغوة تحمل اسقاطات عاطفية ودينية وأسطورية لها علاقة بتاريخ الأمكنة وسأبدأ بمنطقة " صيدنايا" والتي كان لها تأثيرا دينيا مرتبطا بأسطورة دراماتيكية وسأتحدث عن النافذتين ليتسنى لنا الربط بين هذه الملامح وتناصها في القصيدة .

" صيدنايا" : من أهم مدن الشرق والعالم المسيحي بعد مدينة القدس،، هي بلدة تعود لعصور قديمة، فيها آثار أهمها الأديرة والمقدسات المسيحية مثل دير سيدة صيدنايا ( دير السيدة) وبناه الامبراطور البيزنطي " جوستنيان"،وأثناء رحلته للصيد يقال ظهرت له غزالة وطاردها حتى وصلت الى تلّة وظهرت له السيدة مريم العذراء وأمرته ببناء دير في المكان نفسه فاستجاب لرغبتها،، هذه احدى الحكايات القديمة المرتبطة بالمكان،، التناص الثاني لهذا المكان التاريخي الديني يقول : أنّ مدينة صيدنايا  مرتبطة بأعجوبة دير سيدة صيدنايا وهي السيدة العذراء والتي آمن بها أهالي المنطقة بعد قصة لامرأةأنجبت طفلا معاقا، التجأت الى الدير هناك وكانت كل يوم تصعد الدرج وتحمل تنكة زيت حتى تعبت ذات يوم ووضعت التنكة على الدرجة وحين همّت بمغادرة المكان حملت التنكة وشاهدت مكانها رسما، فصاحت الراهبة الكبيرة وما أن لمسوا الرسم حتى وجدوه ينزّ زيتا، حين رجعت الى البيت وجدت ابنها المعاق انسانا طبيعيا معافى ببركة العذراء .

لمدينة " صيدنايا " رمز آخر ورغوة درامية حيث للمكان علاقة بسجن صيدنايا والمجزرة التي حدثت هناك حيث مارس الحكم التعذيب بالسجناء وأطلقت الشرطة عليهم الرصاص أثناء تفتيش العنابر في السجن ومنهم من مات ومنهم من اختفى وهي من أكبر المجازر التاريخية في هذه المنطقة، ورغوة شاعرتنا تحمل الألم والحزن ورائحة الدم، ومن هذا المكان الذي جسّدته لنا جوانا واحتوى اسقاطا عاطفيا جميلا صورته لنا بشفافية واسقاطا تاريخيا دينيا وأسطوريا ترك في النفس تأمّلا وعودة الى الماضي البعيد الذي تركت فيه هذه الأماكن ملامح لا يمكن أن تمحوها الذاكرة .

تنقلنا الشاعرة الى شفافية الحرف في " قاسيون" بساعة من غسق ورعشة جسدين لتمدنا بأهمية هذا المكان لتطل من " جبل قاسيون" الأشم على مدينة دمشق تلك الجبال الممتدة بسلسلة جبال لبنان وجبال القلمون الممتدة الى منطقة حمص، هذا الجبل الذي يعتبر من أبرد المناطق السورية، وكأني بالشاعرة تتزنّر بحنطة من زند عشقته وبرعشة أسرتها من قاسيون، لتسير في الحارات العتيقة تصوّر لنا " سوق الحميدية" : والذي يعتبر من أشهر أسواق سوريا والشرق الأوسط، وصفه المؤرخون بأنّه مدينة تجارية صناعية في قلب دمشق القديمة وقال عنه الدمشقيون " من زار دمشق ولم يزر سوق الحميدية كأنّه لم يزرها"،، بني في عهد السلطان عبد الحميد الأول عام 1780 م وتباع فيه البضائع والصناعات التراثية والمطرّزات والأقمشة والسجاد والذهب والنحاس والديباج، وعلاقة هذا المكان بالنص أنه يبدأ في دمشق عند نهاية شارع النصر مع شارع الثورة عند منطقة الدرويشية ويمتد لمسافة تقارب الميلين والجزء الأول يقع بجوار قلعة دمشق وبه المساجد والمباني التاريخية وينتهي سوق الحميدية عند بوابة معبد " جوبيتر" الدمشقي ومنه الى الساحة أمام الجامع الأموي في قلب المدينة القديمة .هذه الحدقة توسّعت " بمغارة موسى في بلودان " وتضيف جوانا " وفي الحلقة العاشرة"، تعود بنا الى الأخيلة الأسطورية والحلم حيث تعتبر " مغارة موسى " التي تقع على سفح جبل بلودان غربي دمشق وحفرت بسواعد رجال المنطقة على مدى أكثر من 100 عام صرحا سياحيا رائعا في المصيف السوري الشهير، اذ كان الرجال يجتمعون يوميا تحت ضوء مصابيح الكيروسين لاستخراج الرمل ونقله الى ورش البناء ويقال أنّ المستثمر صفوان مرعي على مدى 15 عاما من جهده الشخصي حوّل المغارة الى صرح كبير يؤمه السياح العرب والأجانب وأوصل اليها الكهرباء والطرقات والممرات حيث تتميز المغارة بالبرودة والاعتدال صيفا والدفء في الشتاء،، ومن الجميل بمكان هذا الاسقاط العاطفي الجمالي للشاعرة حين تصل بنا في المغارة الى الخيال الدرامي الأسطوري، ففي المغارة بحيرة تسمى ( بحيرة التمنّي) هناك يقوم الزائر برمي قطعة نقدية ويضمر أمنية وتجزم الأساطير أنها ستتحقق ومنها الى بحيرة أخرى ( بحيرة البركة) تيمّنا بالسيدة العذراء .

أما " في الحلقة العاشرة / قصاع يؤجج / قصَّاع يأتلق

قصَّاع يَتَضوَّع وَشْماً بِهَيْئة فراشة

قصَّاع يُؤلِّب نرجسيَّة الخاصرة

وهي عِندَ مَشارف الحَلقة الأخيرة

مَنْ لها بسُكريَّة رِضاب لاماديَّة

تضمن تواشج الفضة مِنْ الحاجبيْن

 

والقصّاع : حيّ من أحياء مدينة دمشق القديمة يعتبر مركزا تجاريا وسياحيا، يرتبط بحيّ " باب توما" و" حيّ القيمرية" وهو من أكبر تجمّعات الكنائس في مدينة دمشق بعد باب توما، و" باب توما" سوق يخترق منطقة القصّاع وسمي بهذا الاسم نسبة للقديس توما أحد رسل السيد المسيح الاثني عشر، حيث كان مقصدا ومنطلقا للرسل والقديسين على مرّ التاريخ، وبني أول مرة في عهد الرومان وأعيد ترميمه في زمن الملك الناصر داوود وكانت بقربه كنيسة حوّلت الى مسجد بعد الفتح العربي لدمشق وترتفع على الباب مئذنة، كما توجد سوق صغيرة لحوانيت يمكن اغلاقها حين تحدث غارات أو حصار وأعيد بناء باب توما بشكل جيد زمن الملك الناصر داوود سنة 1228 م وأزيل المسجد في بداية عهد الانتداب الفرنسي على سوريا، ويعتبر باب توما من المنشآت الأيوبية حيث يعلوه قوس وشرفتان بارزتان لهما دور عسكري وتزييني،، وينسب باب توما كما أورد ( ابن عساكر) الى كوكب الزهرة حيث كانت أبواب دمشق كل باب عليه مجسّم لكوكب من الكواكب وسمي باسمه .

وهنا تتوقف الشاعرة في حلقتها الأخيرة لتصل بنا الى نهاية الرحلة لتختتم بوشم فراشة تركت بصمتها هناك على جدران وأقواس النصر، تركت عشقا على شرفتين لتعود تحمل الأمنية " بسكريّة رضاب لا مادية " ..!

النص كاملا:

أرغو برحيقهِ شَمساً يانعة
صيدنايا تُؤَبْجِد صَنْجاً مَشْرِقيَّا
إليهِ رِضاب الياسمين تقاطرتْ
وهوَ في غفلة عَنْ تَكَسُّري..
أضواؤك آسرة بِرَعشة مِنْ قاسيون
رعشة تَعَشَّقَتْ زنداً حِنطيِّ المَجاز
رعشة تُسافر بجسديْن مِنْ غَسَق
الحَارات العتيقة تُعتِّق نُحاسيَّة النَهار
والنهار مِنكَ مِلحاح الزواجل
كحَدقة الباعة بسوق الحميدية
كحَدقة تَوَسَّعتْ بمَغارة موسى في بلودان
وفي الحلقة العاشرة
قصَّاع يُؤَجِّج
قصَّاع يأتلق
قصَّاع يَتَضوَّع وَشْماً بِهَيْئة فراشة
قصَّاع يُؤلِّب نرجسيَّة الخاصرة
وهي عِندَ مَشارف الحَلقة الأخيرة
مَنْ لها بسُكريَّة رِضاب لاماديَّة
تضمن تواشج الفضة مِنْ الحاجبيْن

 

يا سيدة الحرف والشعر،، يا أغنية المطر،، وزائرة التاريخ،، أيتها القديرة المميزة الشاعرة جوانا أبلحد،، كنت معك اخترقتني الأماكن،، سكنتني فهل لي بأن أحمل نصف نشيجك،، وحلمك،، وأمنياتك، وآمالك ورغوة شامية تقف بكبرياء وشموخ على أعتاب الشام،،، سوريا المجد والاباء والعزة والكرامة،، هنيئا للشآم بمن يناشدها الرجوع وهنيئا لنا بشاعرة تحمل همّ الوطن في رحلة من جنون العاصفة وتحقيق الحلم من أخيلة لدراما أسطورية،، أحييك . 

(هيام .م.ق)

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2251 الأحد 21 / 10 / 2012)


 

 

في المثقف اليوم