قضايا وآراء

قراءة في كتاب أوثان القديسين .. جدل المعرفة والحضارة والوجود للكاتب سعدون محسن ضمد

كما يحدث بالنسبة لبعض المفاهيم المتعلقة بكائنات يسمع بها الإنسان ولا يراها، فهنا سيضطر الإنسان لأن يشكل المفهوم معتمداً على خياله وعلى الأساطير المتعلقة بنفس الموضوع .

كان هذا مقدمة لكتاب (أوثان القديسين.. جدل المعرفة والحضارة والوجود) للكاتب سعدون محسن ضمد الصادر عن دار ميزوبيتاميا، وقد احتوى على (165) صفحة من الحجم المتوسط، وقد أشار الكاتب ضمد إلى تورط الوعي البشري وهو يخوض غمار تجارب إدراكية تفوق قدرات المنظومة المسؤولة عنه، ولنأخذ مثال على ذلك (السِعّلات)، فهذا الكائن الخرافي كثيراً ما يكون مركباً جملة من الأوصاف، وسبب كونه مركب من أوصاف هذه الكائنات، إن الإنسان عندما يريد أن يشكل صورة إدراكه عن (السِعّلات) فإنه سيضطرّ لجمع بعض الصفات الحيوانية المخيفة من ذاكرته، على هذا الأساس سيكون مفهوم (السِعّلات ) مفهوماً مصنوعاً في وعي الإنسان ولا علاقة له بواقع هذا الحيوان إن كانَ لهُ واقع.

وهنالك نوع من الفلسفة التي أبدع بها الإنسان واضطر لها ومنها ما يؤكده الكاتب ضمد في ص 17" الأيام السبعة التي هي تقسيم لما يعرفه الزمن محضّ اقتراح الإنسان وحده فرض هذا الموضوع وقبلَ به، فرضه على الآلهة، التي هي صنيعة أخرى لوعيه "، أين كان الرب قبل خلق الوجود ؟ وإذا كانَ الرب هو خالق الزمان فمتى تمَ لهُ خلق هذا الزمان.. ولهذه الأسئلة الشرعية تحتاج لإجابات قد عرضها الإنسان بسبب موضوع الإدراك خارج نطاق الزمان والمكان

ولهذا فإنَ غياب وعي الإنسان الذي يسير وفق الزمان والمكان، لا يستطيع أن يوصل الإنسان بلا زمان ومكان، ولذلك جَزّأ الزمان إلى مجموعة من مقاطع، ونجد إن الزمن الإنساني لا ينطبق على البيئة الموجودة في الكواكب الأخرى، كما يؤكد الكاتب في ص20 إن" حدود وعي الإنسان ومن ثم وعي حضارته .. لا يستطيع إلا أن يكون تقطيعياً، الأشياء يجب أن تكون مقطعة إلى أجزاء .. الزمان مجموعة مقاطع تبدأ باللحظة ولا تنتهي بالسنة، المكان أيضاً مجموعة مقاطع تبدأ ولا تنتهي "، ولذلك اهتم الإنسان بنفسه لمعالجة المعلومات بعضها بالبعض الآخر للأرشفة وأهمية تقطيع الزمان والمكان، وهذا ناتج عن تراكم الخبرة من خلال تجاربه اليومية والموروث الاجتماعي من قبل الجماعة .

ثم يعرّج الكاتب على إدراك الوعي ومضمونه، الوعي المركب بشكل يملّي سلفاً مفهوم الحدود في عملية التقطيع، وإن حدود الكون تلقت بمفردتي البداية والنهاية الموجودات في منظومة الوعي الإنساني ، لذلك قد عجز الإنسان عن إدراك وتخيل اللانهاية المخيفة ، من هذا يعلق الكاتب ضمد في ص25" فكل محاولاتنا التي تنصب في إطار البحث عن تخليص الإله من محدوديته (الزمان والمكان) هي بتعبير واضح وصريح عن سلطة هذه المحدودية وكيف إنها تشكل الممكنات الصادرة لحدود وعينا" لذلك نلاحظ محاولة الإنسان بالإقناع إن الله قد خلق الكون في سبعة أيام قد فشل في الوصول لقناعاته بسبب مفهوم البداية والنهاية اللامحدودة، لكن الآية الكريمة من سورة آل عمران تؤكد "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً" ولذلك يدخل طرف آخر إضافة للزمان والمكان هو الحدث، ويعبّر عنه الكاتب في ص28 " هو عبارة عن ضفيرة إدراك مكونة من جمع بعدي المكان والزمان اللذين يشكلان حاضنة للحدث أو الواقعة، فبداية الحدث ونهايته ومكنته ونوعه، أركان أساسية ليست في الحدث فحسب، بل في فهمه واستيعابه وإدراكه " وهذا ما يؤكد على المعنى الحقيقي للتأريخ الذي هو وعي الإنسان الفرد والجماعة باعتباره يسجل وقائع الحدث في الماضي، وهو عبارة عن ما سجلته الذاكرة الإنسانية ولذلك اهتم الإنسان بالتاريخ عبر الحدث التاريخي من خلال مفردة الوعي، أي إذاً نحاول فهم حدث ما علينا أن تقطع الحدث التاريخي إلى عدة مقاطع لمقاطع الفلم التاريخي والذي يرتبط كل حدث بزمان ومكان خاصين، يضاف إليهما الفعل وهذا يمثل الأرشيف المعلوماتي لمنظومة الوعي الإنساني، أي الحدث له بداية وله نهاية مما يدل على إنها تمثل مجموعة مقاطع التي حفزت على ذلك الحدث وقد مثلها الكاتب في ص29 بـ" ضفيرة وعي مكونة فقط من مكان" ولكن تفاصيل أي حدث بأن الزمان يتجزأ ليرافق كل جزء من الحدث أو عدة أحداث وهذا يخص الحدث الملموس، لكن هناك أحداث ووقائع لا تستطيع منظومة حواس الإنسان أن تتحسسها أو يتعامل معها إدراك بصورة مباشرة، لكن نلاحظ إشراك الخيال في عملية الإدراك .

ثم يطرح الكاتب موضوع الخيال وما يقع من أحداث لأسباب مجهولة تدفع بالإنسان اتجاه ص31 " الخيال باعتباره آلية في الإدراك تستطيع أن تتعامل مع الغائب أو الماوراء طبيعي" وهذا ما يدركه الإنسان من خلال حدث الزلزال التي تحصل لأسباب مجهولة، ولكن من خلال حواس الإنسان لم يستطع أن يتحسس أسباب هذا الحدث إلا بدافع الخيال الذي يعتبر الصورة الذهنية الغير ماثلة أمام الحواس، لكن الصورة الخيالية قد تكون صوراً محدودة جزئية أو كلية واسعة المدى و ويؤكد الكاتب في ص33 "لو لم يملك الإنسان القدرة على التخيل لما أدرك كل المفاهيم المتعلقة بالغائب أو وراء الحدث، لأن الخيال هو الباب الوحيد الذي يمكن له أن ينفتح على تلك المديات الإدراكية" لذلك يفسر الإنسان القديم كل الأحداث الكبيرة والعنفية التي تحدث في الأرض هي غضب الآلهة وعدم رضاها، وهذا يعود لخيال الإنسان حول الحدث، لكن الحدث مهما كان الإنسان واسعاً لا يستطيع أن يطور معارفه إلا بتجاربه وحصيلته المعرفية، من هنا يستطيع الإنسان من خلال الخيال أن ينتج الأسطورة والخرافة ويطرح الكاتب سؤال كالآتي: لماذا يلجأ الإنسان إلى الخيال؟) .. الجواب على هذا السؤال بشروط ثلاث هي :

1-   وجود موضوع للإدراك تستطيع الحواس أن تتحسسه.

2-   تكامل الحواس وقابلتها على أداء مهامها.

3-   وجود خلفية معلوماتية أو قاعدة بيانات تناسب الموضوع المدرك وتعتبر بيئة مناسبة له .

ثم يعقب الكاتب على حالة إذا تخلف احد الشروط الثلاث فإن منظومة الإدراك تفزع على الخيال لينسج لها موضوعا للإدراك تسد به هذا الفراغ الحاصل، مما يضطر الإنسان لخلق الموضوع من خلال تخيله، ولذلك جاء دور الخيال ليصور ويبدع في الأسطورة المليئة بالوهم والخرافة، أما الغياب الجزئي للشروط أعلاه ما يجعل الإنسان يتخيل الأجرام المضيئة أو الآلهة أو الكائنات البشرية التي ارتقت مصاف الآلهة ، إضافة إلى الإدراك أثناء الليل والذي يجعله مُدْرَك غير تام مثل شبح يظهر للمتلقي يكون مخيفاً.

لذلك يؤكد الكاتب إن غياب الشرط الأول بسبب عدم حضوره المباشر عند الحواس وخاصة التواصل عبر الانترنيت فلا حاسة العين تكون فعالة ولا الأذن و لا اللمس، فيعمل الخيال على تشكيل هذه المعدلات ليرحم بها الصورة الذهنية الناقصة، لكن الاتصال عبر الانترنيت يُنجي المرسل من الكثير من الضغط الأخلاقي وهذا ما يعانيه الفرد الشرقي من الكثير من الحدود والضوابط الأخلاقية تحت ستار من الخجل والانضباط كما أن الإنسان لا يستطيع أن يتخيل موجوداً ما، لا يسمع ولا يرى، لكن السمع مرتبط بالأذن البشرية كذلك الرؤية مرتبطة بجهاز الإبصار البشري.

يؤكد الكاتب لموضوع دائرة الوعي المغلقة وحالة رسالة الكائنات الفضائية من قبل الوكالة الفضائية (ناسا) باعتقادها وجود كائنات بشرية في الفضاء الخارجي وقد تضمنت الرسالة قرص من الذهب الخالص يحتوي على تسع وخمسين لغة من لغات البشر وبعض الانجازات الموسيقية التي أبدعها الجنس البشري، إلا أن الكاتب كان يعلق على هذا الموضوع بان الرسالة كانت تنقصها قابلية التواصل مع كائنات أخرى، غير أن الكائن البشري بمعنى علماء الفلك ص53 " يتخيلون دائماً بأن الكائن الحي بعينين وأذنين وأنف وحنجرة ؟ وصاحب حضارة شبيهه بالحضارة البشرية ، وهذا الوهم يجد تأكيده في السعي الدائم للعلماء المهتمين بالحياة خارج الأرض لاكتشاف كواكب تحتوي على بيئة شبيهه بالبيئة الموجودة على كوكبنا " وهذا خير دليل على عجز الإنسان عن الخروج عن ضائقة منظومتنا الإدراكية، واحتمال توسط الخيال مكنّ الإنسان من توقع وجود كائنات في الكواكب الأخرى، كما إن البشر لا يستطيع أن يفكر خارج إطار اللغة التي تطورت لاحقاً وأصبحت عبارة عن منظومة هائلة من المفاهيم والمفردات التي يستخدمها الإنسان في إدراك الواقع ونقل خبرته الإدراكية ومن هذا نخرج بصيغة إن الخبرة التاريخية للإنسان أثّرًت على طبيعة إدراكه للأشياء ويؤكد الكاتب ضمد في ص60 "فإنَ الحصيلة المهمة من وراء رحلتنا مع الخيال الجامع، أنها كشفت لنا مقدار ضيق وقسوة الدائرة التي تقيّد قدرتنا على الوعي والإدراك، فنحنُ لا ندرك إلا الأشياء التي يمكن لنا أن ندركها".

أما حول الحاجات وعلاقتها بالأخلاق وضبطها، ومن خلالها قد حكمت تاريخ الأخلاق البشرية أشار الكاتب في ص63 منها"تحريم الزواج من لأقارب أو من نسميهم بالمحارم " وهكذا وجدت المجمعات البشرية نفسها أمام خيار أحادي، هو تحريم زواج البناة من الأخوة والآباء، وقد اتفقت على هذه الحرمّة جميع الثقافات تقريباً، كما هو وارد في صفات البدو واللصوصية المفرطة والتعامل مع السرقة بتساهل مفرط أو اعتبروها معياراً للرجولة والشجاعة ومن باب آخر يكرمون الضيف بشكل مفرّط، وهذا يدل على إن الوعي الإنساني لهذه الفئة داخل إطارها الضيق الذي نشأ عن الأسباب الطبيعية والبايولوجية ووعيهم وفق الزمان والمكان وآلية الخيال.

لذلك يتطرق الكاتب ضمد إلى حكم الوعي والحكم ففي ص 72 يذكر"إن حضارة الإنسان مرتبطة بالطبيعة المحيطة به، وإن هذه الحضارة أثرّت بالهيئة التي تكون عليها هذه الطبيعة " مع العلم إن الحضارة هي نَبْتت لوعي الإنسان الذي يحدد بالحواس وتجربة الجسد الإنساني، الذي عبرّ عنهُ الكاتب بـ " جراب الحضارة للمجتمع الإنساني " ولذلك بدون الإنسان من غير الممكن لوجود الحضارة ولا معنى لوجودها فهي تُمثل الفن والقانون والأخلاق والعرّف والعادات والقدرات التي يكتسبها الإنسان من واقعهُ داخل المجتمع، ولذلك للوعي دور مهم في خلق الحضارة الإنسانية كسلطة هائلة على وجود المحيط بها وهي حضارة مملوكة من قبل الإنسان، لكن الكاتب ضمد يطرح سؤالاً مهم وهو ما معنى قولنا إن الأشياء موجودة ؟ أو ما معنى قولنا بأن الأشياء معدومة ؟ ويفسّر الكاتب ذلك بأن العدم اللاوجود، كما أن الوجود هو اللاعدم وطرح أسئلة فلسفية كونها خُلق إنساني بحت، من هذا يدرك الإنسان الألوان بسبب طبيعة التحسس للألوان الموجودة في عينية ومنظومته الإدراكية، أي بمعنى اللون الأحمر غي موجود بانقراض الحضارة الإنسانية فإن هذا اللون سينتهي وجوده وتفسيره وفي ص 78 يؤكد بأن" يدخل الضوء لشبكية العين فيحدث تأثيرات تنقَل بواسطة الأعصاب وعلى شكل نبضات كهربائية للمخ، فينتقل الجزء المخصص للرؤية في المخ بهذه النبضات وهذا الانفعال يولد انطباعاً يسميه الإنسان أحمر " ومن هذا يؤكد على أن مفهوم الوجود عبارة عن خبرة إنسانية، وهنالك تساءل هل يمكن أن نقول بأن المكان والعدم بالنسبة للجنين والنملة والبكتريا واحد ؟ كذلك الزمان ؟ مما نستدل إن الوجود مفهوم إنساني ولا يجب أن يُنسَب لغير الإنسان، والوجود موجود في الساحة التي يمتد بها الإدراك فقط لأنهُ أنتجهُ الإدراك الإنساني، في هذا ما يُحيلّنا إلى الحواس واختلافها في الكائنات الحية وحرارة الجسد والتاريخ التطوري بين الكائنات الحيّة مما جعلَ كل منظومة إدراك تعتمد حواساً مختلفة وهذا ما ينعكس على بقية الحواس من البصر والشمّ الذي يؤثر على مفاهيم متعلقة بالجمال الجسدي، هي الأخرى أشياء تؤثر بعملية الوعي والبعض منها لا تتأثر بها مع العلم إن الهدف الرئيسي هو معرفة منظومة الإدراك البشرية والسكة التي تسير عليها واسعة أم محدودة.

لقد طرح الكاتب ضمد من خلال هذه المواضيع عدة أسئلة فلسفية تتعلق بالوعي البدائي، منها ما هو مؤثر بين الخيال والأسطورة من جهة والدافع والمعرفة من جهة أخرى، والمعايير التي من خلالها يمكن تمييز المرحلة، كما عرّجَ الكاتب على نظريتي المسخ والتطور وتطور الوعي الإنساني والمقارنة بين الإنسان كإنسان والقرد الذي لم يتمكن لاختلاف رؤيتنا الحقيقية للشبه سبباً تقنياً، أي الإدراك ومنظومته العلمية والتعارف على الأشياء، ثم يطرح مفاهيم الحياة والموت وتأثيرها على التحكم بمصير الإنسان والدراسة الكيفية لها، ولم يتوقف هذا الكائن في عملية صناعة الحياة ما بعدَ الموت مما يخلق مفاهيمهُ عن الواقع .

ولو سألنا أنفسنا هل للموت مشكلة؟ أوليس الموت واقعة ضرورية كلية لابد لكل فرد أن يعانيها يوماً ما؟ أو لسنا نعرف جميعاً هذه الواقعة، لأننا نشاهدها لدى الآخرين؟

 

لكي يكون في مقدور الباحث الجاد أن يتحدث عن "مشكلة الموت"، وأن يتبين على أي نحو يمكن أن تكون للموت مشكلة حقيقية، عليه أن يبدأ بتحديد معنى "مشكلة" من ناحية، وأن ينظر نظرة ـ إجمالية من غير شك ـ إلى معنى "الموت" من ناحية أخرى. حتى إذا ما استطاع أن يتبينه، تيسر له أن يحدد عناصر هذه المشكلة ومداها، سواء من الناحية الوجودية العامة ومن الناحية الحضارية.

 

أوثان الوعي الفكري:

هنالك الكثير من الأسئلة التي تتعلق بالوعي الفكري للكائن الإنساني وتوضع الوعي بأنهُ حضارة الإنسان وجسَد له ُ الوجود المحيط به، والعالم الماوراء ومنظومة هذا العالم ومفاهيمها بين ثلاث هم ( الله، الدين، الإنسان) مفردات مسؤولة عن خيط العلامة بين الإنسان من جهة والإله أو الرب من جهة أخرى، وخلال رحلة المفهوم للتاريخ، فقد عرف الإنسان ( الإله) منذ العصور القديمة والطقوس الدينية فترة العصور الحجرية ، وممارسة الشعائر تجربة المقدس، مما خلق بين مفهومين العلة والمعلول ، والعلة هو الإله الذي لا تدركهُ الحواس لأنهُ مغاير بطبيعته لمظاهر العالم، من هذا نلاحظ الإنسان في الألفية الثالثة يستعمل نفس مفهوم الألوهية المطلقة التي تتجاوز جميع الحدود الزمانية والمكانية والإدراكية، وقد شكل مفهوم الآلهة التمييز بين الجمادات التي كانت يعبدها والحيوانات كذلك، في أوقات متقدمة من مراحل تطور ثقافة الجنس البشري، فقد واجهة هذا الكائن الصواعق والبراكين والزلازل وهي القوى الطبيعية، فكان يبحث عن كيفية أن يتقيّ هذه الظواهر ومواصل لمفهوم الإله الذي هو تجريد للقوى المتحكمة بهذه النشاطات الطبيعية، ثم الخوف من الموت وهل هنالك حياة ما بعدَ الموت ومقارنة الجسد، فيمر عبرَ رؤى تشبع لديه الحاجة لنفي فكرة العدم المؤلمة مما اتخذَ الإنسان فكرة تقديس الأجداد وثقافة عبادتهم ثم تعددت الآلهة على مواصفات شكل الإنسان، وهذا ما كان في العصور القديمة ثم تقديم القرابين لها بمثابة الرشوّة لدفع غضب الرّب المخيف وحماية النفس الإنسانية، مما سبب لهذا السلوك إلى تعدد اللآلهة في تلك العصور وما تتحدث عنها أساطير بابل حول الخلق والصراعات السماوية، مما نشأت فكرة الدين بمنظومته المتكونة من التفسير للظواهر وعبارة من الضوابط الأخلاقية لضبط سلوك الفرد داخل الجماعة، ثم تطور الدين وتحول من معادلة بين القائد وجماعته البشرية إلى كونهُ معادلة بين الإله والبشر وهذا ما أثبتتهُ أسطورة ( اينوما آليش) في أساطير بلاد ما بين النهرين، وبتواجد الرب والدين لا بدَ من تواجد الوعي كمفهوم، وفي أعلى مسلة حمورابي نجد أن الرسم المنحوت يشير إلى أن هذا الملك قد شرعته الآلهة، وقد أكد ذلك الكاتب ضمد في ص 147 وهي أهم التظاهر للعبقرية التي صنعت الحضارة وسُنَتّ قوانينها من أناس مميزين وقد أدانت لهم البشرية بالجميل وقد فسرت الحضارات القديمة البطولة بالخيالية واعتبرتها دليلاً على ألوهية الإنسان أو كونهُ نصف إله ومنهم الملك (سرجون الأكدي) الذي تشبه قصتهُ قصة موسى في كتاب (موسى والتوحيد ) لعالم النفس فرويد، الذي تلخص إلى قصص الأبطال الأسطورية، وهي عبارة عن طفل يولد و يوضع في سلّة مع مجرى تيار النهر، ويفسر فرويد ذلك بأن الطفل يرمز للسائل المنوي والسلة حكاية عن البويضة أما النهر فهو عنق الرحم أو السائل السابيائي، مع هذا إن أغلب الأساطير تدلل على أن الأبطال والملوك إضافة إلى الإنسان القديم كانت لأحداث مخيفة غير مفهومة نازلة من السماء وقد دللَ لنا التأريخ في دولة الفراعنة باعتبارهم أبناء السماء وعند الأغريق كان هرقل، أما في حضارة وادي الرافدين كان حمورابي وهذه الأمور تتكرر مع ظهور الدول في العصور القديمة وقد تنتقل كذلك في أم البطل وهي الأم الهامشية إلى مرتبتها الاجتماعية العليا لإضفاء هالة من القدسية على البطل والأم، لذلك كانَ معظم الملوك القدماء أما أبناء آلهة أو أنصاف آلهة أو آلهة مما دفعها لاستخدام كلمة المقدس لتجعل منهُ منبعاً خارقاً، ولو تمعنّا في كل ما طرح إن المسؤول الوحيد عن الجدّل بين الدين والإنسان هو الإنسان بسبب إعطاءه الأوصاف القدسية للأفراد، وقد عرّضَ الدين عن التطرف ووصلَ به الأمر إلى الزيّ الذي يجب أن يرتديه الفرد لديانة ما وهذا ما يؤكدهُ الفكر السلفي، ولو دققنا جليّاً المفهوم للكتاب السماوي لكل الديانات السابقة للديانة الإسلامية وكتبهم المقدسة، والتي تعتبرها الديانة الإسلامية بأنها مقدسة وقد أوقعهم في الخطأ والحيرة، باعتقادي أن تلك الكتب لا تحمل بين دفتيها لا كلام الله ولا كلام الرسول، فهي مرويات الحواريين عن عيسى، وقد استغلت المؤسسات الدينية (الدين) وكرستهُ لمصالحها مما تحولَ الدين إلى مجرد مطيّة نصل من خلالها لغاياتنا الخاصة.

فلاسفة الضرار ومُحترفو التبرير الديني دائمو التأكيد على أن انحطاطنا المُخيف محض كبوة، وارتداد عن كمال إنساني، بلغه أسلافنا! وأن محاكاة ـ تجديدية وتحديثية ـ لهؤلاء الأسلاف، تُبلغنا حتماً كمالهم الإنساني، وتُعيد لنا إمرة الأرض اغتصابا، حاجتنا ماسة لتأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، كخطوة واعدة على طريق بناء صرحنا الفلسفي! لم يعد مقبولاً أن نلوث بتخلفنا نقاء الحياة وطُهرها! صحيح أن الصروح الفلسفية لا تُشيد إلا بقلوب وعقول عاشقة للحرية، عارفة بأهمية النضال من أجل الحقيقة! كل هذا وأكثر صحيح، غير أن الأمل يظل قائماً في قيام مدرسة أنسنية في الفكر العربي، تُعبد الطريق نحو تفكيك البنية التحتية لفلسفة الضرار! خنوثة التخلف العربي تُحتم التمكين للفلسفة في ثقافتنا!

العالم المُعاش شديد الخضوع للأفكار الصحيحة والزائفة على السواء ـ للأسف الشديد ـ، لدرجة دفعت بعض الظرفاء للقول بوجود تناسب طردي بين الأثر الذي تُحدثه أية فكرة في حياة البشر وبين درجة الخطأ الكامنة فيها! أصحاب البصائر النفاذة هم وحدهم القادرون على إدراك الفاصل بين الصحيح والزائف!

 

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2251 الأحد 21 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم