قضايا وآراء

بوشكين وغوغول في وصية المخرج ايزنشتين / ضياء نافع

واخرج عدة افلام معروفة منها – المدرعة بوتمكين (1925) و اكتوبر (1927) والكساندر نيفسكي ( 1938) وايفان الرهيب (الجزء الاول 1945 والجزء الثاني الذي ظهر بعد موته العام 1958). حاصل على شهادة الدكتوراه في علوم الفن، وهو بروفيسور في معهد السينما منذ العام 1937، وحائز على عدة جوائز فنية. منعه الاطباء قبيل وفاته من العمل بسبب النوبات القلبية الحادة، الا انه رغم اجواء الموت التي كانت تحيط به، كان متحمسا لافكاره وخطط عمله.

الحديث، الذي نقدم هنا مقاطع منه (الخاصة ببوشكين وغوغول) جرى بينه وبين ي. فايسفلد في الامسية التي سبقت وفاته، وقد كتبه فايسفلد بشكل تسجيلي دقيق في اليوم التالي مباشرة بعد الوفاة، ويعد هذا الحديث وصيٌة المخرج السينمائي الكبير سيرغي ايزنشتين ...

ض.ن.

......................

 

جرس الهاتف.

-اتستطيع ان تمرٌ علي الان؟

اذهب الى شقة ايزنشتين.

-اريد ان اتباهى. منحوني اليوم ميدالية.انخييف وانطونوف كانا هنا وشربا كأسا ... كانت حفلة رائعة، كم انا آسف لاني لم استطع ان اشاركهما ...

ننتقل للحديث عن امسية التكريم بمناسبة عيد ميلاده الخمسين، والتي اجٌلها ايزنشتين نفسه-

-اجلوا الاحتفال اليوبيلي اسبوعين .. ستكون حفلة (في ذكرى) ايزنشتين .. لقد حان وقت الموت، ان ذلك واضح من الفحص الاخير للقلب ...

ويبتسم ايزنشتين ويقول –

لقد انتهيت من تحضير الوصية الادبية، واستطيع ن اقدمها الآن، خذ، تقبلها ...

وينهض من الكرسي، ويقترب من الدولاب الموجود في الممر ويفتحه-

هذه هي رزم المخطوطات. هذه مثلا مشكلة اللون، هنا المذكرات، نظرية الاخراج، غوغول، بوشكين... واكثر الامور التي لا تقبل التأجيل- ايفان الرهيب. العمل في ايفان الرهيب جدي جدا، ولكنه ليس كثيرا، يجب اكمال بعض اللقطات وعمل المونتاج...ولكن كيف ساستطيع الخروج الى ساحة العمل؟ الشمس اللافحة – ليست لي... وهكذا،من اين أبدأ؟من الفيلم؟ من اللون؟ الاخراج؟ غوغول؟ بوشكين؟ .. انظر مثلا بوشكين ..اين يكمن موضوع كل الاشياء التي كتبها بوشكين؟ لنبسٌط الموضوع – هناك دائما عجوز يسد الطريق نحو السعادة.عشاق شباب وعجوز يعرقل حبهم. لنتذكر مؤلفات بوشكين –  يفغيني اونيغين، الغجر، بوريس غودونوف، ابنة الآمر...في (الفارس البخيل) لا يوجد حب،لكن يوجد عجوزيغرق في الغنى والثروة ولا يعطي شيئا لاحد.لماذا لم يكتب اي شخص عن هذا الموضوع لحد الآن؟ .. ولكن اكثر الاشياء طرافة هنا، ان المواضيع التي تبدو متشابهة ورتيبة لا تقف حائلا دون انتقال بوشكين نفسه من العمل في مختلف المجالات الفنية .. عند بوشكين توجد سعة عبقرية للافكار .. ولكن خلال كل نتاجاته تمرٌ حالة واحدة – عجوز يعرقل الحب، حب لم يتحقق لانسان شاب، حلم عن حب لم يتحقق .. من اين كل هذه؟ان بوشكين، كما تعلم، احب زوجة كارامزين عندما كان تلميذا في المدرسة، وكتب لها رسالة يشرح فيها حبه لها ويرجوها ان تأتي لموعد . زوجة كارامزين عرضت رسالة التلميذ بوشكين لزوجها، وجاءت مع زوجها الى المكان الذي حدده بوشكين .. ولم يستطع الشاعر ان يتخلص من هذه الصدمة العنيفة طوال حياته... وجاءت زوجته نتاليا غانجروفا، ومن اجلها سامح بوشكين الجميع  .. هل تذكر الحادث المشهور – ليلة زفاف بوشكين، في الصباح،عند نوافذ شقته يمر الامبراطور ويلوح لنتاليا غانجروفا بمنديله .. كل الاشياء الاخرى معروفة بشهادة العشرات – فقدان الاحساس الكبير عند نتاليا و معاناة بوشكين...لقد تحمل الشاعر كل شئ. لماذا؟ لان نتاليا غانجروفا كانت تذكر بحبه الاول – زوجة كارامزين. لاحظ، في الحادثة الاولى والثانية يوجد عجوز يعرقل الحب. ان هذه الصدمة العنيفة في حياة بوشكين اخترقت كل نتاجه، انها نغم يتكرر باستمرار، وقد استطاع هذا النغم ان يصل الى الاعماق، ثم ينعكس باشكال مختلفة – اسطورة او رواية او مسرحية تاريخية...لكنه لم يختف، انه موجود في كل اعمال بوشكين الجدية...يمكن الظن – فرويد؟ كلا، ليس فرويد. ان فرويد هو مدينة صغيرة وغريبة وبعيدة جدا. العمل الوحيد لفرويد، والمكتوب بشكل واضح، كان عن اليوناردو، ولكن حتى هنا، فرويد ادخل الجنس، وعزل حياة الفنان عن الواقع. ان ادخال الجنس في كل شئ قضى على فرويد، اما تلاميذه فلا يستحقون شيئا. كلا، فرويد هنا لا علاقة له بالموضوع. ان حب بوشكين لا يحمل بصمات الجنس، انه تراجيديا الحياة، تراجيديا طبعت آثارها على كل نتاجه .. ومن هنا ظهر الموضوع الرئيسي .. صدقني، وسترى انك لا تستطيع التخلص من هذا الرأي. لقد حاولت من وجهة النظر هذه ان افسر شارلي شابلن، ولكن – يقول ايزنشتين ذلك بمرح- تذكر، لا تقل لاي انسان اية كلمة عن كل ما احدثك به الان، اذ انهم سيسرقون الافكار رأسا .. شابلن طوال حياته كان يحب زوجة هيرست، وكل ارتباطاته وتغييره للنساء كان من اجل البحث عن تلك التي تشبه حبه الوحيد...وكما هو الحال بالنسبة لبوشكين الذي بحث بين العشرات ووجد نتاليا غانجروفا .. شابلن ايضا مررن نساء كثيرات في حياته، ولكنه اراد ان ينساهن،يمسحهن، يحذفهن من تفكيره .. وهكذا ولد مسيو فيردو، الذي يدمر النساء باسم واحدة فقط، ولكن انت تعرف، ان فيردو سقط ليس فقط عندهم، وانما عندنا ايضا. ان هذا الشئ مفهوم جدا، لان فيردو لم يستطع ان يخرج من حياة شابلن الخاصة ولم يمتلك قيمة اجتماعية واسعة كما عند بوشكين. ان فيردو لم يمس احاسيس الملايين، بل كان موجها للداخل، ويتكلم عن شئ قريب من شابلن ومن اصدقائه المقربين اليه فقط.

ويستمر ايزنشتين قائلا-

اني اقرأ واعيد قراءة غوغول ..علاقة بوشكين بغوغول ليست مسألة جديدة...صداقتهم معروفة. بوشكين اعطى لغوغول موضوعي (الارواح الميتة) و(المفتش) .. لم يكن بوشكين بحاجة اليهما، لانهما لم يكونا مرتبطين بموضوعه المركزي ... هذه مسألة صغيرة، لكنها نموذجية. أليس كذلك؟ عند غوغول كان يوجد موضوع آخر- استحالة الزواج. تشغل المرأة مكانا خاصا في حياة غوغول، الذي لم يتزوج ولم يعرف الحب.اول اصدار مطبوع لغوغول كان بعنوان – (المرأة)، وقد عاد غوغول مرات كثيرة الى موضوع استحالة الزواج.

أراد غوغول ان يخلق تراجيديا مثل (بوريس غودونوف) عند بوشكين واعلن في الصحف عن قرب صدور تراجيديا تاريخية، ولكنه لم يستطع تحقيق ذلك. ان غوغول (حتى بدون وعي مباشر) كان يغار من بوشكين بشدة...الغيرة الشديدة من بوشكين عذبته دائما...لقد بدأت افكر، ماذا يعني (المفتش) وكيف ظهر؟وتوصلت الى فكرة، تبدو للوهلة الاولى مضحكة. عندما يأس غوغول من كتابة تراجيديا، كتب محاكاة لبوريس غودونوف. ان المفتش هي تلك المحاكاة بالذات... انت تبتسم. وانا ابتسم معك ايضا، ولكن قارن بعض المسائل والايماءات الصغيرة – العرض في (غودونوف) هو خليستيكوف نفسه في (المفتش)، قبعة مونوماخ وقبعة حاكم المدينة، المشهد الصامت للمفتش والشعب الصامت في غودونوف، مارينا؟ مارينا توجد في المفتش، وحتى انها تحمل نفس الاسم- ماريا انطونفنا .. انني ابحث واجد كثيرا من المسائل الصغيرة التي تبين ان غوغول اراد ان يكتب محاكاة ساخرة لتراجيديا بوشكين (بوريس غودونوف). انظر الى هذه المقارنات المتشابهة .. انها مسالة مسلية حقا، ولكنها صحيحة. لم يكن باستطاعة غوغول ان يخلق تراجيديا، فكتب كوميديا عبقرية والتي تحاكي وتسخر من بوريس غودونوف.

قل لي، الا يستحق هذا الموضوع العمل؟ انه شئ ممتع، أليس كذلك؟ انني احصل على الكتب وأقرأ واقارن... ولكن ما الذي علي ان اعمله اولا؟ قل لي؟ سأموت في الربيع...

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2272 الأحد 11 / 11 / 2012)


في المثقف اليوم