قضايا وآراء

الإمام عليّ بن أبي طالب يؤسس لعلم التحقيق الجنائي بعد نبي الله داوود / قاسم خضير عباس

فقد جاء في تفسير الإمام الحسن بن عليّ العسكري عليه السلام عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، قال: كان رسول الله (ص) إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي: ألك حجّة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها ويعرفها، أنفذ الحكم على المدّعى عليه، وإن لم يكن له بيّنة حلف المدّعى عليه بالله ـ إلى أن يقول ـ وإذا جاء بشهود لايعرفهم بخير ولا شرّ، قال للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان، أين سوقكما؟ فيصفان، أين منزلكما؟ فيصفان، ثمَّ يقيم الخصوم والشهود بين يديه، ثمَّ يأمر (فيكتب أسامي المدّعي والمدّعى عليه والشهود، ويصف ماشهدوا) به، ثمَّ يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار، ثمَّ مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه، ثمَّ يقول: ليذهب كل واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما وأسواقهما ومحالّهما والربض الذي ينزلانه، فيسأل عنهما، فيذهبان ويسألان، فإن أتوا خيراً وذكروا فضلاً رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبراه، أحضر القوم الذي أثنوا عليهما، وأحضر الشهود، فقال للقوم المثنين عليهما: هذا فلان بن فلان، وهذا فلان بن فلان، أتعرفونهما؟ فيقولون: نعم، فيقول: إنَّ فلاناً وفلاناً جاءني عنكم فيما بيننا بجميل وذكر صالح أفكما قالا، فإن قالوا: نعم قضى حينئذ بشهادتهما على المدّعى عليه، فإن رجعا بخبر سيّيء وثناء قبيح دعا بهم، فيقول: أتعرفون فلاناً وفلاناً؟ فيقولون: نعم، فيقول: اقعدوا حتى يحضرا، فيقعدون فيحضرهما، فيقول للقوم: أهما هما؟ فيقولون: نعم، فإذا ثبت عنده ذلك لم يهتك (ستر الشاهدين)، ولا عابهما ولا وبّخهما ولكن يدعو الخصوم إلى الصلح، فلايزال بهم حتى يصطلحوا، لئلاّ يفتضح الشهود، ويستر عليهم. وكان رؤوفاً رحيماً عطوفاً على أمّته، فإن كان الشهود من أخلاط الناس، غرباء لا يُعرفون، ولا قبيلة لهما، ولا سوق، ولا دار، أقبل على المدّعى عليه فقال: ماتقول فيهما؟ فإن قال: (ماعرفنا) إلا خيراً، غير أنهما قد غلطا فيما شهدا عليَّ أنفذَ شهادتهما، وإن جرحهما وطعن عليهما أصلح بين الخصم وخصمه، وأحلف المدعى عليه، وقطع الخصومة بينهما.

وهكذا عند سماع الدعوى يكون المدعى عليه إما مقراً بما قاله المدعي، أو منكراً، أو ساكتاً. فإذا أقرر فيلزم، وإذا أنكر كان على المدعي البيّنة، فإذا لم تكن له بيّنة عرفه القاضي أنّ له اليمين. ولا يحلف المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي، لأنه حق له فيتوقف استيفاؤه على المطالبة، أما إذا سكت المدعى عليه ألزم الجواب، فإن عاند حبس حتى يبين. وقيل يجبر حتى يجيب، وقيل يقول الحاكم: إما أجبت وإلا جعلتك ناكلاً ورددت اليمين على المدعي، فإن أصر ردّ الحاكم اليمين على المدعي .

ولذا فإنَّ السكوت لا يفسر على أنه إقرار أو رضا، لأن الفقه لم ينسب الى الساكت قولاً، وا ستثنى من ذلك عرفاً عقد الاستصناع وعقد الفضول وهما حكمان عرفيان وبشروط حددها الشرع لكي لاتضيع حقوق الناس، فلا يمكن أن يفسر السكوت على أنه قبول إلا بوجود قرائن تترجم نية الرضا المعتبرة في المعاملات، مما يدل على عظمة هذا القانون الإلهي وإحاطته بكل التفاصيل. والمعروف أنّ قاعدة (لا ينسب للساكت قول والسكوت في معرض الحاجة بيان) من القواعد المهمة في القوانين الوضعية كالقانون المدني العراقي .

والغريب أنَّ القانون الدولي العام قد طبق قاعدة لا تعرفها القوانين الداخلية الوضعية وهي (قاعدة السكوت المفسر على أنه رضا) في العلاقات الدولية، مما عرض المجتمع الدولي للوقوع بمحاذير خطرة وحساسة . ولذا فإنَّ الحاجة تدعو إلى تغيير هذه القاعدة، أو ضبطها بشروط حتى لا تخسر دول (العالم الثالث) وبضمنها الدول الإسلامية مصالح وحقوق كثيرة في النظام الدولي الجديد .

وقد روي عن عطا بن السائب عن زادان قال: استودع رجلان امرأة وديعة وقالا لها: لا تدفعيها إلى واحد منا حتى نجتمع عندك ثم انطلقا فغابا فجاء أحدهما إليها فقال: أعطيني وديعتي فإن صاحبي قد مات فأبت حتى كثر اختلافه ثم أعطته، فجاء الآخر وقال: هاتي وديعتي. فقالت المرأة: أخذها صاحبك وذكر إنك قد مت، فارتفعا إلى عمر بن الخطاب فقال لها عمر ما أراك إلا قد ضمنت، فقالت المرأة: اجعل علياً بيني وبينه، فقال عمر: اقض بينهما، فقال عليّ للمدعي: هذه الوديعة عندي وقد أمرتماها أن لا تدفعها إلى واحد منكما حتى تجتمعا عندها فأتني بصاحبك، ولم يضمنها وقال: إنما أرادا أن يذهبا بمال المرأة. ومن يطالع قضاء عليّ بن أبي طالب عليه السلام في القضايا والمنازعات المختلفة يجد كم هذا الرجل عظيم في فكره وعلمه، الذي استقاه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويروى عن قضائه (ع) أنَّ شاباً قال له: إنّ هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر، فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عن ماله؟ فقالوا: ماترك مالاً، فقدمتهم إلى شريح، فاستحلفهم، وقد علمت أنَّ أبي خرج ومعه مال كثير، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله لأحكمنَّ بينهم بحكم ما حكم به خلق قبلي إلا داود النبي عليه السلام، ياقنبر ادع لي شرطة الخميس، فدعاهم، فوكل بكل رجل منهم رجلاً من الشرطة، ثم نظر إلى وجوههم، فقال: ماذا تقولون؟ تقولون: إني لا أعلم ماصنعتم بأبي هذا الفتى؟! إني إذاً لجاهل، ثم قال: فرقوهم وغطوا رؤوسهم.

ففرق بينهم وأقام كل رجل منهم إلىإسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم، ثم دعا بعبيد الله أبي رافع كاتبه،فقال: هات صحيفة ودوات، وجلس أمير المؤمنين في مجلس القضاء، وجلس الناس إليه، فقال لهم: إذا أنا كبّرت فكبّروا، ثم قال للناس: اخرجوا، ثم دعا بواحد منهم، فأجلسه بين يديه، وكشف عن وجهه، ثم قال لعبيد الله: أكتب إقراره وما يقول، ثم اقبل عليه بالسؤال، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: في أي يوم خرجتم من منازلكم، وأبو هذا الفتى معكم؟ فقال الرجل: في يوم كذا وكذا، فقال: وفي أي شهر؟ فقال: في شهر كذا وكذا، قال: في أي سنة؟ فقال: في سنة كذا وكذا، فقال: وإلى أين بلغتم في سفركم حتى مات أبو هذا الفتى؟ قال: إلى موضع كذا وكذا، قال: وفي منزل من مات؟ قال: في منزل فلان بن فلان، قال: وما كان مرضه؟ قال: كذا وكذا، وكم يوماً مرض؟ قال كذا وكذا، ففي أي يوم مات؟ ومن غسله؟ ومن كفنه؟ وبما كفنتموه؟ ومن صلى عليه؟ ومن نزل قبره؟ فلما سأله عن جميع ما يريد، كبر أمير المؤمنين عليه السلام، وكبر الناس جميعاً، فارتاب أولئك الباقون، ولم يشكوا أنَّ صاحبهم قد أقر عليهم وعلى نفسه، فأمر أن يغطى رأسه وينطلق به إلى السجن، ثم دعا بآخر فأجلسه بين يديه، وكشف عن وجهه، وقال: كلا زعمتم أني لا أعلم ما صنعتم؟! فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا إلا واحد من القوم، ولقد كنت كارهاً لقتله فأقر، ثم دعا بواحد بعد واحد كلهم يقر بالقتل وأخذ المال، ثم رد الذي كان أمر به إلى السجن فأقر أيضاً فألزمهما المال والدم، ثم ذكر حكم داود عليه السلام بمثل ذلك.

إنَّ هذه الرواية تدل بأنَّ علياً (ع) كان أول من أسس (لعلم التحقيق الجنائي) بعد نبي الله داود عليه السلام، للبحث عن أدلة جنائية تدين المتهم، وجمع المعلومات عن الجريمة، والإيقاع بالمتهمين لأخذ إعترافهم.

فسلام الله عليك يا أبا الحسن لقد كنت حريصاً أن يأخذ الحق والعدل مجراهما، وأن تكشف الحقيقة التي أراد لها المجرمون أن تدفن في التراب، لكي يأخذ كل صاحب حق حقه، ويسود الأمن والأمان في المجتمع .

 

قاسم خضير عباس

كاتب وباحث قانوني متخصص

 في القانون الجنائي الدولي

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2273 الأثنين 12 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم