قضايا وآراء

قوّة الكلمات وسحرها في "الليالي العربية" بلندن / عدنان حسين أحمد

على خشبة مسرح "سوهو". وقد ساهم في تأليفه ستة كُتّاب وهم العراقي حسن عبد الرزّاق، واللبنانية تانيا الخوري، والفلسطيني رجا شحادة، والفرنسية شيرين الأنصاري، والسورية غالية قبّاني إضافة إلى كاتب إيراني يخشى البوح باسمه لأنه لا يستطيع مغادرة إيران.

قبل الخوض في تفاصيل هذا النص المسرحي لابد من من الإشارة إلى أن مسرح "ميتا" يعتمد كثيراً على الرؤية الخيالية، والخطاب البصري الذي يجمع بين الكلمة، والموسيقى، وعرض الصور المتحركة على الشاشة، وفن تحريك الدمى، وألعاب السيرك لخلق عمل "ميتا-مسرحي" يأخذ الجمهور بنظر الاعتبار، ويُشركه، بقدرٍ أو بآخر، في عملية السرد التي تكون غالباً مقتضبة ولا تتجاوز بضعة كلمات، لكنها تتيح للبطل أن يواصل عملية السرد أو التمثيل التي يبتغي من ورائها تحقيق المتعة والفائدة والحضّ على التفكير وإعمال الذهن. اشتركت في تجسيد أدوار المسرحية ثلاث شخصيات وهي الفنانة البريطانية من أصول عراقية دينا الموسوي التي تألقت على مدار العرض المسرحي، والممثلة البريطانية ناتالي ديّو، والممثل الفرنسي من أصول مغربية لاشين رزوقي، وقد أدى هؤلاء الثلاثة كل الأدوار في الحكايات الست التي استوحوها الكُتّاب من قصص "ألف ليلة وليلة" بعد أن أضفوا عليها بصماتهم السردية التي تنسجم مع رؤيتهم الفكرية، خصوصاً وأن خلفية العمل قائمة على فكرة "الربيع العربي" الذي تفجّر في عدد من الدول العربية، وأسقط بعض طغاتها، بينما لايزال بعض الطغاة يترنحون تحت ضربات المقاومة التي يتكوّن جُلّها من الشباب الثائر.

لا يمكن بطبيعة الحال الوقوف عند الحكايات الست بالتفصيل، ولكننا سنشير إلى جوهر كل حكاية كل على انفراد ودورها في السياق السردي من جهة، والتصعيد الدرامي من جهة أخرى. تستهل المخرجة بوبي بورتون مورغان العرض المسرحي بالهتاف الشهير: "الشعب يريد إسقاط النظام" ثم تبدأ العرض بحكاية تمهيدية تتيح للجمهور إمكانية الولوج إلى المناخ الفنتازي لحكايات "ألف ليلة وليلة" فتطرح سؤالاً جوهرياً على لسان البطلة شهرزاد مفاده: "هل بإمكان حكاية أن تنقذ حياة إنسان ما؟" ثم تطلب البطلة من الجمهور، الذي سيشترك في العرض، كما أشرنا سلفاً، أن تروي حكايتها. وحينما يستجيب الجمهور تقول بأنّ اسمها شهرزاد، وأنها تروي لزوجها الملك شهريار كل ليلة حكاية كي تتفادى الموت المحقق، وحينما تنتهي من كل حكاية تطلب من الجمهور أن تسرد الحكاية الثانية كي تظل على قيد الحياة. فالجمهور سيكون المعادل الموضوعي لشهريار، أو أنها تفترض في الجمهور بعض الشخصيات الشهريارية التي تمارس القمع، والظلم، ومصادرة حقوق الآخرين كلياً أو جزئياً. أسسّ حسن عبد الرزاق قصته على "الرحلة الخامسة" من رحلات السندباد السبع الذي يترك زوجته الوفيّة "ياس"، ويشرع برحلة بحرية طويلة عبر البحار بغية الوصول إلى إيطاليا، لكن عاصفة هوجاء تقذفه إلى جزيرة نائية، وهناك يصادق رجلاً غريب الأطوار يحمله على ظهره حينما يعبران النهر، ثم يتحول هذا الرجل إلى معزى كبيرة تظل ملتصقة بكتفي السندباد حتى أنها تقضي حاجتها على رقبته. وحينما يقرف من الوضع المزري الذي هو فيه يستعمل حيلته ودهاءه فيسقي المعزى شراباً مُسكِّراً يجعلها ترخي ساقيها فيتخلص منها إلى الأبد. لا شك في أنّ السفينة في النص الأصلي تتحطم بعد أن هاجمها طائر الرخ لأن التجار كسروا بيضته، لكن الكاتب هنا أبدل الطائر العملاق بالعاصفة الهوجاء، كما جعل بحوزة الرجل الكبير مذياعاً يلتقط به أخبار الثورة التي حدثت في بلاد السندباد التي غادرها بسبب الظلم والقمع، والقصة في مجملها تحذيرية من عودة القديم وسيطرته على الأوضاع الراهنة. في حكاية "زوجة الدكتاتور" للبنانية تانيا الخوري كانت الزوجة تتمنى طوال حياتها أن تكون زوجة دكتاتور، فهم ينعتون زوجها بالدكتاتور، لكنه، في حقيقة الأمر، ليس كذلك، فهي الدكتاتور الحقيقي، وليس زوجها. لقد استوحت تانيا فكرة حكايتها من "أسماء الأسد" التي اقتنت حذاءاً عبر الإنترنيت من محل كريستيان لوبوتان وأوضحت لنا بأن هذه السيدة مهووسة بشراء الأحذية، لكن الحكاية انحرفت قليلاً لتشكف لنا الجانب "الفيتشي" سواء بالأعضاء غير الجنسية أو بالأحذية والجوارب وما إلى ذلك. ربما يكون الشيئ اللافت للنظر أن حكاية "الجنيّان والجدار" لرجا شحادة هي التي أمدّت المسرحية ببعدها السينوغرافي المعبِّر، فالجدار الأمني أوالعازل كان مُشيّداً من علب الأحذية الفارغة، وقد استعملت هذه العُلب الكارتونية كمذياع، ولابتوب، وبندقية، وحاوية لأشياء كثيرة. وعلى رغم من أهمية هذه الحكاية، إلاّ أنها كانت طويلة جداً حتى أنها بعثت الملل في الجمهور الذي التقط مغزى الحكاية، وعرف حجم الظلم الذي يتعرض له المواطن الفلسطيني في نقاط التفتيش الإسرائيلية. تعتمد حكاية المصرية شيرين الأنصاري على قصتين متواشجتين، الأولى قصة "السلطان والصياد" التي تفضي إلى اكتشاف صاعق على ضفة النيل، وقصة النساء المصريات اللواتي أصبحن أرضاً لمعارك جديدة. الكاتب الإيراني الذي ظل اسمه محتجباً سرد لنا "الحكاية التي تستوطن رأسه" فهو يعتقد أن هناك أشياء كثيرة متشابهة منها "الأحلام والثورات"، ودعانا لأن نجرّب الاحتجاج في مسيرة ليلية، نغمض فيها أعيننا، ونمسك بأيادي بعضنا بعضاً، ونستمع إلى دقات قلوبنا التي تزداد تسارعاً كلما اقتربنا من النهاية. أما القصة السادسة والأخيرة فهي الأنضج من حيث البناء والدلالة، وربما يأتي هذا النضج لأن كاتبة الحكاية ومبدعتها السورية غالية قباني هي الأكثر خبرة على الصعيد الإبداعي، فهي قاصة وروائية معروفة، وتزاول العمل في الصحافة الثقافية منذ سنوات طويلة، هذا إضافة لفهمها العميق لما يدور في الأروقة السياسية لعالمنا العربي. تبني قباني قصتها "ست الشام" على كاتب دمشقي يتواصل مع صديقته في الخارج بهدف الحصول على نسخة إليكترونية من "ألف ليلة وليلة" لأن الأطفال في مدينته يريدون تحويلها إلى عمل مسرحي، ولأن النسخ المتاحة محرّفة تلجأ قباني لكتابة حكاية "ست الشام" التي تقوم في جوهرها على طفل الحائكة الذي اختطفه الجن، لكنها تستعيد طفلها المُختطَف عن طريق زهرة النرجس التي كانت توقِّع بها قماش البروكار، هذه الصناعة السورية العريقة، فتصل إلى أولادها المُختطَفين لتلامس البراءة الأولى، وتطفئ عطشها من النبع الأول، ثم نسمع في ختام المسرحية صوت الأطفال العائدين الذين لم يطأؤوا خشبة المسرح مع الأسف الشديد. لقد حررت قباني شخصية شهرزاد من خوفها اليومي المتواصل على حياتها، وأنقذتها من العبء التاريخي في كونها فدية للنساء الأخريات، ولعل المساحة المشتركة التي خلقتها قباني بين شهرزاد من جهة، وسوريا من جهة أخرى، هي القهر والخوف والأطفال، ولا أظن القارئ الكريم بعيد عن هذه المقاربة المنطقية التي تكشف ما يتعرض له السوريون جميعاً من قمع وظلم ومصادرة في وضح النهار.

لابد من التذكير بأن الملك شهريار في "ألف ليلة وليلة" قد تزعزت ثقته بالنساء بعد أن خانته زوجته، لذلك أراد أن ينتقم من عذارى مملكته جميعاً، وحينما طفح الكأس زفّت شهرزاد نفسها إلى الملك بناء على رغبتها، وأرادت أن تستعمل فطنتها وذكاءها الحاد كي تنقذ نفسها وبنات جنسها من ظلم الملك ووحشيته المفرطة.

إن ما يلفت الانتباه في شخصية شهرزاد أنها امرأة مُلهِمة تؤمن بقوة المنطق، وليس بمنطق القوة، وأنها تستعمل قوة الكلمة وسحرها بدلاً من القوة الوحشية لجمالها أو لسطوتها الجنسية في مواجهة ملك قامع استمرأ الظلم والطغيان بسبب انعدام المعارضة، وغياب نبرة التحدي لظلمه وقسوته وجبروته اللامحدود. لقد أثبتت شهرزاد في نهاية المطاف بأنّ حكاياتها التي تعج بالمغامرات، والمفاجآت، والعوالم الغريبة قد نجحت في أن تُنسي شهريار مأساته وأن تُصرف انتباهه إلى عوالم فنتازية مدهشة قد لا تحدث إلاّ في أحلام اليقظة والمنام.

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2305 السبت 15 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم