قضايا وآراء

شطرنج: "المربع المتعادل"، أو "طريقة بغداد"

حينما يقترب الدست من المرحلة النهائية، وتعاني من ضيق الوقت، ويكون لدى كل طرف حصان، فيل أو أثنين، ربما قلعة ووزير، مع بيادق متناثرة لا تكفي لصد المفاجآت. في تلك المواقف عليك ان تحسب الكثير من الإحتمالات الخطيرة والتهديدات مثل الكش المزدوج أو الطلب المزدوج للقطع، ذلك الكابوس الذي يطارد أي لاعب شطرنج ليس له من العبقرية ما يكفي لدرئها. حينها يبدو الشطرنج اقرب الى لعبة الروليت الروسي منها إلى لعبة تخضع للحسابات، حيث يبقى قلبك ينبض بقوة حتى يلعب الرسيل نقلته، لتطمئن أنك لم "ترتكب" النقلة التي ستحطم جهدك الطويل. هذه المعاناة لم تكن تقتصر على اللاعبين الإعتياديين، بل أيضاً، وكما تبين الدسوت المسجلة في البطولات، لاينجو منها حتى أقوى اللاعبين الدوليين.

 

كل هذا كان كفيلاً بتحويل لعبة الشطرنج لدي من متعة إلى معاناة، فأين الحل؟ السؤال كان: كيف يمكن أن نتعامل مع المواقف كثيرة الإحتمال وننقل نقلتنا ونحن مطمئنين، ولو بدرجة ما، إلى أننا حسبنا ما يكفي لتجنيبنا كارثة في النقلة التالية؟ من الواضح أنه من المستحيل حساب كل الإحتمالات، فالسؤال يصبح: كيف نتعرف بسرعة على الإحتمالات الهامة التي يجب حسابها، من تلك التي يمكن تركها باطمئنان؟

 

شيئاً فشيء، تبلورت مجموعة أفكار لزيادة كفاءة البحث عن الأحتمالات الخطيرة والمهمة، بالنسبة لي كلاعب، وبالنسبة لرسيلي إيضاً طبعاً، واهم تلك الأفكار كانت فكرة: المربع المتعادل، اي المربع الذي يتعادل الضغط عليه من الجانبين. ولحقت الفكرة أفكار تكميلية أخرى، بعضها جديد، كما افترض، والآخر قديم اضفته للتكملة، وثالث خليط بينهما: قديم وضعت له محتوى جديد يبسط الإستفادة منه.

فكرة "المربع المتعادل" والتي اسميتها فيما بعد "طريقة بغداد"، هي أساس كتابي، وهي هدية مني إلى مدينتي الحبيبة، ولأن الدافع الذي أدى الى تلك الفكرة تكون لدي في بغداد، وإن كانت لم تتبلور إلا في أوروبا، حيث يسهل تبلور الأشياء.

 

جربت "المربع المتعادل" والأفكار الملحقة به على المسائل الشطرنجية في البداية، ودهشت للنتيجة! ثم جربتها في اللعب, ووجدت أن مستوى لعبي قد ارتفع خلال فترة قصيرة ارتفاعاً كبيراً. وربما أهم من كل ذلك أن متعتي باللعب زادت بشكل كبير، وازدادت ثقتي بنقلاتي واستعدادي للدخول في المخاطرات وتقديم التضحيات دون قلق، فقد كان كل شيء يبدو اكثر وضوحاً بكثير، ولم تعد المواقف الشائكة، لعبة روليت روسية في الظلام. لأجل كل هذا كتبت "المربع المتعادل، أو طريقة بغداد"، وبرغم علمي أن كتاباً في الشطرنج يصعب ان يكتب له النشر، في زمن يتوفر فيه، ومجاناً، امكانية اللعب مع الحاسبة واستعمالها لتحليل المواقف والدسوت بشكل أبعد كثيراً مما كان متوفراً حتى في أحلام الماضي. وهكذا نمت الفكرة التي كان هدفها تحسين مستواي الشخصي في اللعبة، وصارت شيئاً يبدو من الممكن ان يستفيد منه الآخرون، وهكذا نشأ الكتاب.

 

كما قلت، "المربع المتعادل" هو الفكرة الأساسية. فإن اعتبرنا المربعات التي يسيطر عليها الأبيض، هي "المساحة البيضاء" والأخرى "المساحة السوداء" فأن المربع المتعادل، هو المربع الذي تتساوى عليه الضغوط من الطرفين، على أن يكون له أهمية ما، كأن تقف عليه قطعة لأحد الطرفين، أو أن يكون قريباً من الملك، أو يكون مربعاً يمكن من خلاله تهديد أكثر من قطعة من قطع الرسيل. وتأتي أهمية هذا المربع من كونه "يغير لونه" خلال نقلة واحدة! لذلك فما يسمى "مهاجمة قطعتين في نقلة واحدة"، او "شوكة" (fork)، اصبح عبارة عن "مهاجمة مربعين متعادلين" في نقلة واحدة. الفرق هو أننا نتعامل مع "مربعات متعادلة مهمة" وليس بالضرورة القطع التي عليها. في هذه الحالة من السهولة أن نكتشف نقلة تهاجم قطعة للخصم، ومربع يمثل "شوكة" لقطعتين أخريين! إن اعتبار المربعات أهدافاً، مفهوم أكثر كفاءة من اعتبار القطع التي عليها، وهذا يسهل علينا رؤية الأهداف التي لا تمثل ربحاً "مادياً" (قطع) مباشراً، بل مربعات هامة، تهدد الرسيل بشكل أو بآخر.

 

لذلك فأن "طريقة بغداد" او "المربع المتعادل" تبدأ بعد الإنتهاء من نقلات الإفتتاحية مباشرة، وتبدأ بمسح لـ "المربعات المتعادلة" (الهامة) في الموقف للجانبين، ومراقبتها. وعندما نفكر في كل نقلة قادمة، لنا أو للخصم، فأننا نبدأ بفحص تأثيراها على "خارطة" المربعات المتعادلة. ونبدأ بالبحث عن نقلة تستطيع ان تستفيد من المربعات المتعادلة الموجودة في الرقعة، بمهاجمة اثنين منها مباشرة مثلاً. فإن لم يكن فنبحث عن النقلات التي تزيد من المربعات المتعادلة في ساحة الرسيل، (أو تلك التي تقلل مربعاتنا المتعادلة، لأنها نقاط ضعف وتهديد)، وعندها نتساءل: هل أن أي من المربعات المتعادلة المضافة يشكل مع أحد المربعات القديمة ما يمكن مهاجمته بشكل "شوكة"؟

سرعان ما ستكتشف أن فكرة المربع المتعادل ستجر عدداً من الأفكار الأخرى، مثل فكرة "المدافع الوحيد". لنفرض أن للخصم حصاناً على مربع ما، يهاجمه فيل لنا، ويدافع عنه رخ للخصم. أي أنه يقف على مربع متعادل (مهم). وإحدى طرق "إزعاج الخصم" ستكون ليس فقط إضافة ضغط إضافي على الحصان بقطعة جديدة، وإنما أيضاً قد يمكن مهاجمة القطعة المدافعة عنه. رخ الخصم هنا مربوط إلى الحصان الذي يدافع عنه، إنه يقوم بمهمة "المدافع الوحيد" عن المربع المتعادل، ووجوده ضروري لإبقائه متعادلاً، لذا لا يستطيع ترك مكانه بحرية، وهذا يجعله عرضة للهجوم. وهكذا فأن المربع المتعادل، نقطة الضعف، تخلق حولها نقطة ضعف اخرى، هي المربع الذي يقف عليه الرخ، المدافع الوحيد عن المربع المتعادل.

لنلاحظ أيضاً أنه لو كان للخصم ثلاث قطع تدافع عن المربع المتعادل، ولدينا نفس ذلك العدد من المهاجمين (لكي يكون المربع متعادلاً) فأن كل من القطع الثلاثة للخصم سيكون وكأنه "المدافع الوحيد" رغم أنه ليس وحيداً! فابتعاد أي من تلك القطع، سيجعل تعادل المربع ينهار، ويسقط الحصان الذي يقف عليه ضحية. أي أن المربع المتعادل، نشر حوله نقاط ضعف مثيرة لإهتمامنا، وبحثنا عن طريقة لمهاجمة الخصم.

سرعان ما سنرى بأن "المربع المتعادل" سوف يلعب دور "محور الصراع" في الموقف، وحوله ستدور رحى المعارك التكتيكية في النقلات التالية. والحقيقة أنني لم أجد خلال كل ممارستي التالية للشطرنج، إلا القليل من المواقف التي لم يمثل فيها "مربع متعادل" مهم، مركز الصراع ومحوره!

كمدافع، عليك أن تهتم فقط بـ "مربعاتك المتعادلة" لكي تأمن أن نقلة الرسيل القادمة لن تسبب لك كارثة. ويكتسب هذا أهمية في اللعب الخاطف، أو حينما يكون لديك ضيق وقت. لكنه يبقى مفيداً جداً حتى في الأوضاع الإعتيادية.

 

ربما يبدو هذا تكتيكاً قديماً، قيل بكلمات أخرى، لكن تلك الكلمات والمفاهيم الأخرى تلعب دوراً هاماً وحاسماً كما اكتشفت في كفاءة البحث عن النقلة المناسبة والخطة التكتيكية المناسبة في الموقف، وخاصة في تحويل التركيز من القطع إلى المربعات. فمفهوم الصراع على المربعات، ليس مطروقاً حسب علمي في التكتيك الشطرنجي، وإن كان قد أشبع بحثاً وتمحيصاً في الشطرنج الستراتيجي، حيث تكون هناك مربعات يكون احتلالها من قبل قطعة اللاعب تفوقاً استراتيجياً هاماً له، إلا أن الصراع على "مربع متعادل" لم يدرس حسب علمي من قبل.

 

أفكار أخرى عديدة لحقت بـ "المربع المتعادل" لإكماله، مثل فكرة "غير العالم ثم اقبل التضحية"، وفكرتها أن تضحية ما من قبل الخصم قد تكون غير مقبولة بشكلها المباشر، لكن قبل رفضها، من الجدير بالنظر إمكانية "تغيير العالم ثم قبولها". وتغيير العالم، يكون بتغيير قسري لمواضع القطع على الرقعة. فمثلاً ربما يلقي خصمك بحصان في تضحية مخططة لتكون فخاً، وأن وزيره الذي يقف قريباً، يلعب دوراً في تنفيذ ذلك الفخ. عندها قد يكون ممكناً الرد على التضحية، بمهاجمة الوزير أولاً ودفعه بعيداً عن مكانه الهام، ثم قبول التضحية. طبعاً انت ايضاً يجب أن تأخذ مثل هذا الإحتمال قبل أن تقدم على تضحية.

 

هناك أيضاً فكرة "ميدان الملك"، والتي يفترض أن تسهل "رؤية" التهديدات بالـ "كش مات" من أول نظره. فالتهديد بالـ كش مات، وليس بالضرورة الحصول عليه، يمثل نقطة توتر هامة في الموقف، ويفترض حسابها دائماً. لذلك يحسب اللاعب دائماً إن كانت لديه فرصة لمثل تلك التهديدات، أو كان للخصم مثلها. لكن هذا الحساب يصبح أسهل لو أننا حددنا المربعات التي يمكن للملك الحركة إليها بحرية في موقفه الحالي (ميدان الملك). فإن كان ذلك الميدان محدداً بمربعين على خط واحد إلى جانبي الملك، أو أمامه وخلفه، نعرف فوراً أن ما يمكن ان يهدده بالمات هو رخ الخصم ووزيره فقط، فإن لم يكن أحد هذين حاضراً وقريباً، أمكن إهمال هذه الإحتمالات مهما تكاثرت حول الملك الحصن والفيلة، فليس هناك على الأقل أي تهديد بالـ كش مات في النقلة التالية. يكتسب هذا أهمية أثناء حسابات الإحتمالات أكثر مما هو في حساب تهديد مباشر للنقلة القادمة الفعلية.

 

مما لا شك فيه أن الإستفادة من أي اسلوب جديد للتفكير تتطلب التمرن من أجل السيطرة عليه وتنفيذه بسرعة وكفاءة وهذا يتطلب بعض الوقت. لكن تجربتي القصيرة نسبياً مع هذه الطريقة تقول بأن المتدرب لن يحتاج أن ينتظر طويلاً ليرى نتائج جهده على رقعة الشطرنج. وطبعاً فأن امنيتي هي أن أرى لاعباً (احد الشباب الموهوبين مثلاً؟؟)،  (أو فريقاً، وهذا أفضل حيث يمكن تبادل الأفكار وتطويرها بفعالية أكبر!) يرتقي في مستوى لعبه من خلال الإستفادة من الأفكار الواردة في هذا المفهوم، وتطويره أيضاً وإغنائه بأفكاره الخاصة التي يستنتجها من تجاربه من تطبيق الأسلوب في الدسوت الحقيقية، وهي بالضبط الطريقة التي استعملتها واكتشفت من خلالها الأفكار المساعدة التي أسهمت في إغناء الموضوع واستكماله.

 

إذا كنت قد وصلت حتى هذه النقطة في قراءة هذه المقالة يا قارئي العزيز، فيبدو أن الموضوع أثار اهتمامك، وربما تريد أن تعرف المزيد. إلا أن الكتاب، وفيه كم كبير من الأمثلة الشارحة وتحليلات دسوت عديدة، بعضها لأبطال اللعبة العالميين، بهذه الطريقة، هذا الكتاب لم يطبع (بعد) لذا أقترح عليك تجربة زيارة الموقع الذي شرحت فيه الأمر ببعض التفصيل وبالأمثلة وأشكال رقعة الشطرنج لمواقف معينة بعضها أخذ من مباريات عالمية تشرح التبسيط الذي تقدمه الفكرة لحل الإشكالات والوصول إلى النقلة الصحيحة، وتجده على العنوان التالي، متمنياً لك المتعة والفائدة:

 

http://www.khalils.info/ns/

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1227 الجمعة 13/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم