قضايا وآراء

ضرورة تحرير الإسلام من جماعات الإسلام السياسي

نُعرِف إجرائيا جماعات الإسلام السياسي بأنها: تلك الجماعات التي تقوم بالتوظيف الانتقائي وبالتأويل والتحريف والتلوين والتلفيق للنصوص المقدسة – قرأن وسنة - بما يبرر أفعالها بما فيها العنيفة والإرهابية من أجل الوصول للسلطة والحكم ولو على أشلاء الدولة الوطنية ووحدة المجتمع. لا شك أن الإسلام في جوهرة دين ودنيا، عبادات ومعاملات، كما أن الإسلام ثورة موحى بها سماويا على الجهل والفقر والعبودية. وطوال أكثر من أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام تفاوت حال المسلمين ما بين نهضة وكبوة، نصر وهزيمة، حضارة سيطرت على العالم ثم شعوب خانعة متخلفة، وطوال هذه الحقبة لم يتغير النص المقدس لا قرآن ولا سنة، معنى هذا أن المشكلة لا تكمن في جوهر الدين أو بالنص المقدس بل بالبشر وما يريدون وكيف يفهمون ويوظفون الدين.

ماليزيا واندونيسيا وتركيا مثلا دول إسلامية، وفرق حضاري كبير بينها وبين غيرها من الدول العربية الإسلامية، الأولون يمارسون الإسلام العملي الذي يدعو لإعمار الأرض ورفعة الإنسان بعيدا عن إسلام الشكليات والطقوس، بينما الإسلامويون العرب يهتمون بالإسلام الشكلاني، إسلام اللحية والحجاب والمسبحة وترديد نصوص وحفظها دون فقهها، وتوظيف الدين من أجل السلطة لذاتها، الأولون يدمجون الإسلام كجزء من الهوية والثقافة والدولة الوطنية، فيما الآخرون يؤدلجونه محولين إياه لهوية وثقافة ودولة موعودة بديلا عن الهوية والثقافة والدولة الوطنية وحتى القومية العربية.

 أينما يممت النظر في ربوع الشرق الأوسط وخصوصا في العالم العربي إلا واصطدمت بحروب أهلية وصراعات مذهبية وطائفية تهدد وحدة الأمة ووحدة الدولة الوطنية من الصومال إلى اليمن. فمنذ ظهور جماعات الإسلام السياسي لم تعد الأمة هي الأمة ولا الوطن هو الوطن ولا المواطن هو المواطن . انقلبت مفاهيم العداوة والصداقة، أصبح المسلم عدو المسلم والعربي عدو العربي والجار عدو جاره بل الأخ بات يناصب أخاه العداء، وأصبح (العدو القريب أولى بالجهاد من العدو البعيد)، وأصبح الأمريكان والغرب أهل كتاب يجوز التحالف معهم لمحاربة (المسلمين المرتدين) من قوميين ويساريين وعلمانيين !. بتنا نعيش زمن صعود جماعات إسلام سياسي استطاعت توظيف نفوذها المالي ودقة وسرية تنظيمها وسياستها البراغماتية التي تؤسس لتحالفات غير مبدئية من اجل الوصول للسلطة على حساب الدولة الوطنية والثقافة الوطنية والوحدة الوطنية، وأصبحنا نعيش زمن تجري فيه عملية أدلجة وتسييس فظ للدين الإسلامي بما يُخرجه عن روحانيته وجوهرة المتسامح والمنفتح.

ما كان كل ذلك يحدث لولا تراجع الأيديولوجيات القومية والماركسية والثورية، وأزمة الدولة الوطنية وفشل النخب الحاكمة وغير الحاكمة في عملية الانتقال الديمقراطي، ولولا الجهل والفقر، التربة الخصبة لترعرع التطرف والتعصب الديني . وحيث إن السياسة لا تعرف الفراغ فقد فرضت الجماعات الإسلامية وجودها على المشهد السياسي من خلال العمل الاجتماعي والإغاثي حينا، وبالعنف أحيانا، وبتواطؤ مع الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة حينا آخر، وبتوظيف آليات الديمقراطية أخيرا كما جرى في تونس وفي مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، مع تعاون وتنسيق خفي حينا وظاهر حينا آخر مع الغرب وعلى رأسه واشنطن وهو ما تجلى فيما يسمى بالربيع العربي .

يحدث كل ذلك على حساب القضايا الاقتصادية والتنموية المستعصية من فقر وجوع وتخلف معمم في قطاعات الصحة والتعليم والسكن الخ. خلال ثلاثة عقود تقريبا من حالة الفوضى والخراب التي تشهدها غالبية الدول العربية واستنزاف مقدرات وثروات الأمة في حروب ومؤامرات لم يستفد منها سوى أعداء الأمة من غربيين وإسرائيليين، تعيش الولايات المتحدة عصرها الذهبي وتنتشي إسرائيل فرحة لأنها لم تعرف هدوءا على جبهاتها مع العرب كما تعرفه اليوم، كيف لا وقد انشغل دعاة الجهاد والمقاومة بالصراع من أجل السلطة ومواجهة أنظمة وحكومات عربية لإسقاطها والحلول محلها، وانشغلت الأنظمة في حماية نفسها ومواجهة مناوئيها.المشكلة بطبيعة الحال ليست في الإسلام كدين بل في جماعات صادرت الدين الذي هو ملكية مشتركة لكل المسلمين لتحوله لملكية خاصة بها بعد أدلجته وتسييسه بما يتناسب مع مصالحها وتطلعاتها السلطوية ومع ثقافتها وفهمها للسياسة والحياة .

واهم من يعتقد أن الدين يمنح شرعية سياسية لأحد حتى إن حَكَم البعض باسم الدين لحين من الزمن، لأنه سرعان ما سيأتي بمن يسقطه من الحكم باسم الدين أيضا أو بخطاب علماني وديمقراطي يكشف زيف شرعيته الدينية .حتى في هذا الحين من الزمن لا يكون خضوع الناس للحكم الديني أو الثيوقراطي لقناعة بالصفة الدينية للحاكم بل نتيجة سلطة القهر والاستبداد الذي يمارسها الحاكم باسم الدين، ومن يرجع لتاريخ الأمم الإسلامية والمسيحية ماضيا وحاضرا والتي مرت بحكم جماعات وايديولوجيات دينية سيلمس بأن المراحل التي سادها حكم ديني كانت أشد مراحل الفتنة والفوضى والتخلف، لأنه كما يستطيع هذا الحاكم خداع الناس باسم الدين فسيأتي من هو أكثر خداعا ونفاقا منه ليعيد توجيه تفكير الناس ضد الحاكم وباسم الدين أيضا فتحدث مواجهات بين جماعات كل منها تزعم بأنها الأكثر فهما وتمثيلا للدين من غيرها، بينما في واقع الأمر هي جماعات تسعى للسلطة والجاه والدين منها براء لأن العلي القدير لم يفوض أحدا ليحكم البشر باسمه إلا الأنبياء والرسل الذين كانت لهم وضعية خاصة حيث كان الوحي صلة الوصل بينهم وبين الخالق، وهؤلاء لم يفوضوا السلطة من بعدهم لأحد.

الخلل ليس في الدين بحد ذاته، فحيث لم تتغير النصوص المقدسة في كل الديانات عبر مراحل صعود وهبوط الأمم والحضارات فهذا يعني أن الخلل ليس في النصوص المقدسة بل في البشر وكيفية توظيفهم لها، المشكلة في توظيف الدين من طرف كل طامع بالسلطة والجاه حيث يقوم ومن يلتف حوله من أبناء قبيلته وطائفته، واليوم من عناصر حزبه، بتفسير وتأويل وتلوين للنصوص الدينية وتحولها لأيديولوجيا ولوعي زائف تبرر هيمنته على البشر، وفي مجتمعات يسودها الجهل والجوع يصبح من السهل إغراء أو إكراه الناس بما يقوله الحاكم وكل طامع بالسلطة.

في التاريخ الإسلامي حدثت فتن وحروب دامية بين المسلمين وفي ظل وجود خليفة أو أمير مؤمنين، بل حدثت مواجهات دامية وجرائم تقشعر لها الأبدان بين جماعات على رأس كل منها من يدعي أنه الخليفة وأمير المؤمنين وهي مواجهات لها تداعيات حتى اليوم في أكثر من بلد إسلامي وعربي، ولم يختلف الحال في التاريخ المسيحي حيث كانت أشد مراحل الجهل وسفك الدماء تتم باسم الدين، وفي الحالتين لم تستقر طويلا شرعية دينية لحاكم.كان الدين غطاء يخفي حكم الاستبداد والطغيان وهو حكم يسيء للدين بحد ذاته ويسيء للأمة لأنه يدخلها في آتون فتنة تقتل شبابها وتستنزف إمكانياتها ويجعل الأمة تنشغل بهرطقات وسفسطات يتم نسبها للدين بدلا من الانشغال ببناء المواطن والوطن ومجابهة التحديات الأساسية من تعليم واقتصاد وتنمية ومواجهة الأعداء الخارجيين.

المطلوب تحرير الإسلام من هذه الجماعات الدينية والاتفاق على موضعة الدين في المجتمع بما يحفظ له قدسيته وتقديره ويحرره من سفاهات ومناورات السياسة بما هي صراع على السلطة والمصالح، ويعيده لمكانته السامية كعلاقة بين الإنسان وربه وليس لأحد أن يُنَصِب نفسها بديلا عن الرب في التحليل والتحريم وفي تكفير البشر، وعلى من يريد الاشتغال بالسياسة أن يلتزم بالقوانين والشرائع الدستورية التي تتفق عليها الأمة، ومن البديهي أن ما تتفق عليه الأمة وفيه خيرها وصلاحها سيرضى عنه رب العالمين (وما اتفقت أمتي على ظلال)لأنه رحيم بعباده ويريد لهم الخير .

 

في المثقف اليوم