قضايا وآراء

إقليم كوردستان بين رهانات التحديث وتحديات المستقبل

saman soraniالحکومات الدكتاتورية السابقة التي حکمت علی العراق بسياسة الحديد والنار والأرض المحروقة قوؔضت فكرة المواطنة وألغمت المٶسسات الديمقراطية بإفراغها من مضمونها وتحویلها الی نظام إستبدادي أو الی جهاز مخابراتي مارست التفاوت والإقصاء بعد أن آمنت بأن التنمية لا تعني سوی النهب والسلب وأن حرية التعبير يجب أن تحجب وتضلل وتقمع بآليات مدروسة ومنظمة.

والدولة العراقية المصطنعة التي تشكلت بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولی وزوال الحكم العثماني وبداية الإحتلال والإنتداب ورثت نظام ديمقراطي طبؔق بعض التطبيق في ظل الحکومة الملكية، لكنها لم تكن قادرة لخلق وبناء الأشكال والطرز والمهمات المٶسساتية العادلة أو لفتح مجالات وآفاق ديمقراطية تضمن الحرية والعدالة وتصون الهوية والذاكرة. وهكذا بدأت بعد سقوط الملكية وهيمنة العسكر تلعب نظرية الوصاية دورها ليمارس كيان معين وصايته علی الآخر المخلتف غير مهتم بمبدأ المسٶولية المشتركة في البناء والحکم وتشكيل مجتمع مفتوح ومرن يٶمن بالتعدد والتنوع بقدر ما يعمل علی الإستيعاب والدمج لتفعيل الوحدة. وهكذا لم تسنح للإختلافات أن تتجلؔی علی نحو تواصلي أو بصورة فعؔالة ومثمرة، فوضع المجتمع أمام خيارين أحلاهما مرؔ: إمؔا نظام فاشي أو مجتمع طائفي، إمؔا وحدة القطيع أو الإرهاب القومي العقائدي.

لقد أصبح شعب كوردستان في الماضي ضحية هذا المنطق الأحادي التبسيطي المغلق وعاش أشد أنواع الإرهاب من قبل السلطة الحاكمة، التي مارست بحقهم سياسات فاشية  وقامت بتهجيرهم وتعريبهم وإبادتهم جماعياً.

اليوم وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمان يعيش شعب اقليم كوردستان حريته بعيداً عن سياسات الإستبعاد والإستبداد والإرهاب والبربرية، تمكن بفضل قيادة حکيمة بعد فترة قصيرة أن يشتغل علی ذاته ويبتكر إنسانيته من جديد، من خلال التمرس بأخلاقية الحقيقة وصناعة الحدث وتجاوز المشروطية وممارسة الإنفتاح الحضاري والتعايش الفكري.

الحرية لاتعني عند هذا الشعب مجرؔد الخلاص من قيود المركزية الفوقية التي كانت تجربة مرؔة أو العيش في عقدة الضحية بل تعني سوس الذات وصناعة الحياة عبر خلق الوقائع وصناعة الحقائق في المجالات المعرفية والتقنية والإقتصادية والسياسية بل وحتی الجمالية.

ممارسة الحرية يعني للفرد الكوردستاني تفكيك آليات العجز لتغيير قواعد اللعبة، بتشكيل عوالم ومجالات وإبتكار أساليب ولغات أو خلق موارد وفرص تحدث تحولاً في الفكر وتسهم في تغيير الواقع الكوردستاني نحو الأفضل لاإمتلاك وقائعيتها. أما التقدم العمراني وإرتفاع المستوی المعيشي في الإقليم والسعي الأكثر من قبل الحكومة الكوردستانية لإستثمار الموارد الطبيعية لغرض بناء البنية التحتية وإيجاد فرص العمل للجميع وتحقيق العدالة الإجتماعية وصنع المعجزة التنموية من غير تقليد وإحتذاء بنماذج ناجحة مسبقة، بل لإستثمار تلك الأعمال كإمكانات خصبة لإنتاج صيغ ومفاهيم جديدة فحـدِّث ولاحرج. لا يمكن اليوم بناء الوطن أو تدبير الدولة العصرية عن طريق مشاريع أصولية خانقة ومسبقات معيقة وثقافات عاجزة وحداثات هشؔة وشعارات مستهلكة وتقسيمات فقيرة وخادعة. فمن يريد ممارسة الشراكة الحقيقية مع شعب كوردستان لصنع المستقبل علی نحو إيجابي وبنؔاء علیه أن يتحمل المسٶولية المتبادلة ويتؔقن لغة الشراكة والمداولة برٶی ومفاهيم ومفردات المفاوضة والتسوية أو التعاون ويتجاوز النرجسية والمكابرة والمحافظة والتقليد والتحجر والذُعر من المتغيرات وتبرئة الذات لرمي المسٶولية علی الغير، فمن دون ذلك لا يمكن مجابهة الفوضی والإرهاب أو نشر قيم الحضارة والمدنية والديمقراطية.

فسياسة الإنفتاح علی الخارج التي تمارسها إقليم كوردستان عبر المٶسسات الإقليمية والهيئات الدولية، السلمية والمدنية، التي تهتم بالدفاع عن حقوق الإنسان ودعم الحريات الديمقراطية، تفتح للأحزاب الكوردستانية التي تٶمن بالديمقراطية آفاق جديدة ‌أمام الفكر السياسي في ميادين الممارسة أفقياً وعمودياً، داخلياً وخارجياً، مما يتيح للديمقراطية أن تغني وتتحدؔد أو تتعزؔز  وتتطور وتنفتح، سواء بالإنفتاح علی الفضاء الإجتماعي المحلي أو الخارجي عبر المشاركة في المناقشآت العالمية في الهيئات والمٶسسات الإقليمية والدولية . وهكذا ينفتح المجال للتحوؔل نحو ديمقراطية نوعية، غير منمؔطة، جديدة وأكثر فاعلية وديناميكية. مادام من المستحيل إلغاء الفروق الفكرية في السياسة إذن علی الأحزاب الكوردستانية أن تبحث عن الوسط الجامع، کفضاء للمباحثة والمحاورة أو المداولة والمبادلة لتشكيل صيغة للتعايش أو لغة جامعة أو مساحة مشتركة أكبر للوصول الی تحقيق الأهداف السامية لشعب كوردستان ولتتشكل حكومة وحدة وطنية تعكس كالمرآة الوجه الجميل لهذا الاقليم النموذجي وتغذي التواصل والتعايش بين الأطراف المختلفة لإطلاق طاقات وتحريك قوی وإستثمار رموز مبدعة ونماذج متفوقة في أعمال ومشروعات تعود بالنفع والنماء علی عموم المجتمع الكوردستاني بفئاته وشرائحه. إن تعامل الأحزاب الكوردستانية مع الواقع الكوردستاني الجديد بمنطق الجدؔ والإجتهاد والنقد بعيداً عن العُقَد والهواجس بات من الأمور والمُسَلمات الضرورية للخروج من السُبات الفكري والقوقعة التراثية. من غير ذلك لايمكن أن نصل الی حقؔنا في تقرير المصير أو نواكب الجديد والعصري في هذا العالم الرقمي المعولم.  وختاماً: "الواقع السيؔال لا يواجه بأسلوب المحافظة والتقليد، بل بمنطق التحويل الخلاق والإستثمار البناء"

الدكتور سامان سوراني

 

في المثقف اليوم