قضايا وآراء

رياض الأطفال

أن نلعبوا دورهم بالشكل الصحيح، ويقوموا بتأهيلهم بالطريقة المناسبة لمعترك الحياة وإعطائهم الأدوات التي تمكنهم من الانسجام السريع مع أي مرحلة جديد من مراحل الحياة التي لكل منها مقدمات عليهم التعامل معها والإعداد لها بصورة مناسبة إذ هم أردوا أن يحصلوا منها على أفضل النتائج.

ومرحلة الطفولة هته من أهم مراحل حياة الإنسان، ففيها تنمو القدرات وتتضح المواهبه ويكون الطفل فيها قابلا للتأثير والتوجيه والتشكيل. لذا فإن العناية بالطفولة والاهتمام بأنشطتها من أهم المؤثرات التي تسهم في تقدم المجتمعات، كما نرى ذلك جليا مع أطفال المجتمعات المتقدمة الذين يتمتعون بنمو جسمي وعقلي وانفعالي سليم. كما أنهم أكثر تعليما وأكثر ثقافة بالمقارنة مع أطفالنا الذين لا تنقصهم القدرات ولا يعوزهم الذكاء ـ كما يتوهم البعض ـ لكنهم يحتاجون من القائمين بالعملية التعليمية التربوية لأطفال مرحلة ما قبل المدرسة والمرحلة الابتدائية العناية بتخطيط وتصميم البرامج التعليمية والتربوية المتوازنة المحتلة لقمة سلم الضروريات والمتشملة على مختلفة الخبرات الهادفة لنمو متكامل يلبي حاجاتهم الروحية إلى جانب حاجات الجسد، لأن ما يزرع في نفوس الأطفال في هذه السن سنجد نتائجه في سن الرشد.. لذا على الوالدين والمعلمين الإهتمام بها كمرحلة حساسة وخطيرة واستغلالها في تعليم الطفل القيم الوطنية والجمالية والأخلاقية والدينية لكي يستطيع أن يميز بين الخير والشر‏، وبين الجميل والقبيح من خلال مواقف سلوكية وأهداف بسيطة يتم تناولها كوحدة واحدة متناسقة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض ولا يمكن تفضيل هدف علي آخر حتى يتسنى تحقيق الهدف الكلي الشامل‏,‏، الذي وهو إسعاد الطفل وإعداده ليكون فردًا إيجابيًا في المجتمع وقد صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام حين قال:"أكرموا أولادكم وأحسنوا تأديبهم" فليس الهدف من مرحلة رياض الأطفال تعلم القراءة والكتابة أو إعطاء الطفل مواد تعليمية مثل اللغة العربية والدين والحساب‏ -فالقراءة والكتابة مسألة سابقة لأوانها خلال فترة رياض الأطفال وسيتم تحقيقها في المرحلة الدراسية اللاحقة‏-‏ حيث يكتمل نمو الجهازين العضلي والعصبي عند الطفل خاصة (العضلات الصغيرة‏)‏ التي تمكنه من مسك القلم والتحكم فيه. و(‏المراكز العصبية والبصرية‏)‏ للتركيز والقراءة. فعصب العملية التعليمية والتربوية في هذه المرحلة السنية، هو العناية بقدرات الطفل الحركية والعضلية وتنمية ملكة استخدام حواسه الخمس استخداما سليما‏، ورعاية وتنمية النطق والتعبير السليم وتدريبه على الانتباه والاستماع والتقاط المعلومات، لتكون بذلك رياض الأطفال، الأساسا الذي يجعل الطفل يندمج في محيطه الاجتماعي عبر تعويده على مصاحبة فئات من مختلف الأعمار يتفاعل معها يوميًا ويتبادل معها مفردات لغوية تساعده على التحاور بسهولة وعلى تكوين أفكار وآراء خاصة به يمهد لانتقاله إلى المدرسة الابتدائية بشكل سلس، نفسياً وعقلياً. وإلا سنكون كمن يجبر طفل الشهر الخامس من العمر على المشي والوقوف مستقيما علي قدميه.

فالتربية وبناء النفوس في هذه المرحلة من أشق وأعسر عمليات البناء واعقدها وتحتاج إلى جهود متواصلة من معلمين يتمتعون بمجموعة من الخصائص الشخصية و الاجتماعية و التربوية التي تميزهم عن غيرهم من معلمي المراحل العمرية الأخرى. لأن التعامل مع الطفل في هذه الفترة حساس من عمره، وهو أصعب من التعامل مع أي مادة جامدة أخرى يسهل تطويعها وتشكيلها حسب الرغبة، لما يملك من إحساس وحرية وإرادة وذكاء..

لذا أعتقد بضرورة إبعاد رياض الأطفال عن كل ما يتعلق بالعملية التعليمية التقليدية حتى لا تكون نُسَخاً ومَسخاً مكررةً عن التعليم العام (ابتدائي، متوسط، ثانوي) أفرغَت من أغلب مقومات العمل التربوي ولا تعتمد إلا على الحفظ والتلقين البليدة. بدل العملية التربوية الصرفة المبنية على التسلية والترفيه والتزويد بالثقافة والمعرفة المتدرجة نفسانيا واجتماعيا وديداكتيكيا في مجال الفنون والآداب والعلوم والقيم التي عزت في مجتمعنا المعاصر من القدرة على صناعة القرارات، وإحياء روح العمل الجماعي، مثلما هي المنهجية اليابانية في رياض الأطفال، التي تقوم أساسا على ألا ينفرد الطفل بأي قرار دونما الرجوع لمجموعته المنتمي إليها ضمن تقسيم المجموعات من البديهيات أنه لا يمكن الظفر بأي شغل أوظيفة في الدول المتقدمة، إلا عبر سلسلة من الامتحانات واثبات الجدارة العملية أيا كانت هذه المهنة، والقاعدة الراسخ والتقليد الثابت في ميدان العمل هو التأهيل والكفاءة واثبات الجدارة في فترات تجريبية قد تمتد لشهور. ولا يمكن الحصول على أية مهنة أو وظيفة بالشهادة كوسيلة أو أداة وحيدة للاشتغال. فالآلاف يحصلون على الشهادات نفسها ويبقى الفارق بين كل واحد منهم هو القدرات الإضافية التي يحملها الفرد لكي يكون أكثر جدارة من غيره. 

وإذا كان الحصول على شغل ما هو أصعب ما يمكن أن يحققه الفرد في الغرب، فإن الأصعب منه هو الانخراط في سلك التدريس، وخاصة منه رياض الأطفال الأكثر صعوبة من غيرها من الأسلاك. فالحصول على وظيفة مدرس في الجامعة وفي المدارس الثانوية أو الإعدادية هو أسهل بكثير من الحصول على وظيفة مدرس في الحضانات ورياض الأطفال التي يتصدر العاملين بها جداول الرواتب المجزية، حيث يحصلون على أجور مغرية، مقابل الأدوار العديدة والمهام الكثيرة والمتنوعة التي يقوم بها المربون والتي تتطلب مهارات فنية مختلفة يصعب حصرها، هم مسؤولون عن كل ما يتعلمه الطفل في مرحلة حساسة من حياته، حيث تبدأ هذه المرحلة بالتخطيط و تستمر بالتنفيذ و تنتهي بالتقويم و المراجعة كما أن للمعلمة دوراً رئيسياً في تطوير العملية التربوية لأنها على تماس دائماً مع الأطفال. بخلاف ما نسمع ونقرأ- في مجتمعنا- عن المشتغلين بالتدريس برياض الأطفال، الذي لايزال يُنظر إليهم بقدر غير قليل من الازدراء، والذين يعمل معظمهم بدون عقود عمل أو بعقود عمل تسري أثناء العام الدراسي فقط"، وبالتالي لا يتقاضون اجرا أثناء العطل، وما أكثرها.

 ما يطرح الكثير من التساؤلات بشأن واقع هذه المؤسسات في بلادنا، ومدى وعيها بدورها التربوي في ترسيخ قيمة الإبداع لدى الأطفال، ومدى آفاقها المستقبلية في إطار إصلاح منظومة التربية والتكوين؟ إلى جانب الوضع الوظيفي والقانوني والإنساني لمدرسي هذا القطاع التعليمي الحيوي الخارج عن مسؤولية الدولة والمتروك لمبادرات الأفراد والخاضع لتدبير أصحاب "الشكارة" وقدراتهم وخصالهم وأمزجتهم الشخصية تماما مثل أي استثمار آخر، لايهم المستثمرون فيهم إلا الربح؟. وعلى من تقع مسؤولية الاعتناء بالعاملين برياض الأطفال وتحسين أدائهم المهني وإعدادهم وتدريبهم ليكونوا مربيين ومربيات فضلاء و فاضلات  وإكسابهم المعارف والخبرات ذات العلاقة بطرائق التدريس  وبخصائص النمو المختلفة العقلية والجسمية والوجدانية والاجتماعية. وتنمية الاتجاهات الاجتماعية السليمة، والشعور بالمسؤولية والتعاون واحترام النظام إلى جانب تحسين رواتبهم -المتدنية- حتى تتماشى مع طبيعة رسالتهم النبيلة في بناء اللبنات الأولى في حياة الأجيال القادمة. فهل هي من مسؤولية الدولة أم القطاع الخاص؟

وبما رياض الأطفال قطاع مهمل، وأن منهاجه لا يقوم على أسس أكاديمية أو خبرات محددة وإنما يقوم على توفير مختلف الخبرات والتجارب التي تخدم الطفل وتكسبه الخبرة اللازمة وتعمل على تنميته في مختلف مجالات النمو، فقد تدهورت المقاييس فيه إلى ابعد الحدود وإختلفت المناهج من روضة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى حتى أصبحت يعيش فوضى عارمة حادت بالغالبية العظمى من مؤسساته عن الأهداف الأساسية المتعارف عليها عالميا، ولم يعد معها بإمكان آلاف الأطفال الذين دفع بهم أهلهم إليها سوى الإلمام بالقدرات الأساسية للكتابة وتهجئة الكلمات وحفظ القرآن والكثير من الأحاديث النبوية دون التمييز بين الكلمات ومعانيها. ما جعل تدخل الجهات الرسمية مطلبا ملحا وضروريا، لتطوير نظامها التربوي بما يتلاءم مع مستجدات العصر ومتطلباته، وتحديث وتوحيد مناهج رياض الأطفال بما يتناسب مع المستجدات التربوية والانفجار المعرفي الهائل المتلاحق حتى تخرجها من دوامة الفراغ والتفريغ..

وأكتفي بهذا الكلام كي لا أطيل المقال مع أن له تتمة في مقالات قادم  بحول الله نحدد فيها على من تقع المسؤولية، ومن هو الذي يجب أن يلام على تظهور هذا القطاع، المربون، أم المدرسة والمجتمع، أم الأسرة، أو الحكومة.

 

حميد طولست

[email protected] 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1277 الاثنين 04/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم