آراء

بينما كان معاوية يشدد ملكه في الشام

بليغ حمدي اسماعيلعنوان هذا المقال إما أن يدفعك فضولك المعرفي لقراءته، أو تعتقد أنه يتناول حكاية تاريخية منسية، وهو ليس الاختيار الأخير بالقطع، و قد يبدو العنوان غريباً بعض الشئ، لكنني لم أر مواضعة تصلح لوصف تحرك بعض القوى والتيارات الدينية في بعض دول الشرق الأوسط لجعلها دولة راديكالية محضة في السنوات المقبلة . ولقد سئمت من بعض الأقلام والأصوات المرتفعة بالسرادقات الثقافية هذه الأيام والتي تؤكد أن الفكر الليبرالي يريد فصل الدين عن السياسة فصلاً تاماً مطلقا وأن الأنظمة العربية الحاكمة والسائدة ترنو إلى هاوية سحيقة بفضل السياسات المدنية حسب زعم تلك التيارات وأصحابها.

ولأنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده كما جاء في القرآن (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )، وقوله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ورغم ذلك فبعض هذه القوى وتلك التيارات التي أزعم أنها صهيونية الصنع والتكوين والتأهيل والإعداد  تتيقن شيئاً غير موجود من الأساس، وطالما سمعت منهم هذه الدعاوى تذكرت مقولة الزعيم الهندي غاندي حينما قال : " إذا فقدت السياسة عن الدين فقدت معناها، كل طفل في مدرستنا يدري الأنظمة السياسية في الهند، ويعرف أن بلاده تتقد بإحساسات جديدة وبآمال جديدة ولكننا أيضاً في حاجة إلى الضوء الثابت المستقر ضوء الإيمان الديني " .

ويفزعني ما أقرأه وأتابعه من أصحاب بعض هذه الفرق التي انتشرت بشراسة في حشايا الشرق الأوسط التي وراءها خفايا هذه الحملة الشرسة تجاه الليبراليين والليبرالية تلك الكلمة التي تعني إعلاء العقل والحرية بغير مجون أو فسق أو عري أو فساد كما يزعمون أننا نريد فصل الدين برمته وقواعده وأركانه ودعائمه المتينة عن حياتنا وتفاصيلها اليومية .

ولكن نريد لوطننا العربي الكبير الذي لا يزال يمر بفترة مخاض خريف ثائر نسبيا على فترات متقطعة  أن تحكمه مرجعية توافقية وليست قمعية كما الوضع فيما يسمى بتنظيم الدولة، هذا سيجعل بالقطع أحد المتشددين ينبري بالهجوم بأن الدين سلطة قمعية، وفي هذا خلاف واضح وجلي طالما شددنا عليه كما يشددون هم على هوائنا ومائنا وموسيقانا أيضا.

لابد من التفرقة الحاسمة بين الدين كسلطة رادعة تحمل أوامر ونواهي شرعية لا يمكننا الفكاك منها، لأن الدين عميق ومتغلغل في الوعي الجمعي لدينا مسلمين بطوائف شتى سنة وشيعة أم أقباط متمثلين في الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، وبين الفكر الديني وخطابه الذي يتأرجح بين التشدد البغيض، وبين الاستنارة والاجتهاد والتجديد المقبول. فالدين يأمرنا بصلاة زكاة وصيام وحج و ممارسة فضائل سلوكية ومعاملات توجه حياته الفردية والاجتماعية .

وهذا كله لا يستطيع عاقل تجاهله، لكن الخطاب الديني المعاصر والمواكب لإحداثيات الحراك المجتمعي العربي صوب المدنية الذي يشهده الوطن العربي لا يزال يدفع الناس دفعاً لقبول مرجعيات توجه فكره وحياته بغض النظر عن احتياجاته، والزعم أنه خطاب ذو مرجعية دينية . وهذا خطأ واضح وكبير، فهو خطاب مصبوغ بلون ورائحة الدين لا جوهره الخالص، وهو خطاب قائم على فكرة تطويع النص الديني الثابت لخدمة أغراض وأهواء خاصة .

وحينما تظهر أصوات معارضة لهذا الخطاب المدجج والمدغدغ للقلوب والأسماع وربما العقول، نجد من يصادر علينا الرأي بأن ما نسطره من أوجه اعتراض هو مرض عضال يصيب النخبة فقط لأننا غير قادرين على الاتصال بالجماهير والمواطنين .

وهكذا تبدو الصورة في أذهان أصحاب هؤلاء الذين يصرون على تشديد ملكهم وسط ما تعاني منه بعض الدول العربية كالعراق الممزق ولبنان المشتتة واليمن الذي لم يصبح سعيدا وليبيا التائهة من مشكلات تبدأ بالإجابة عن سؤال ماذا سنفعل براهننا الآني وتنتهي بالفوضى التي أصبحت شعاراً لهذه الأوطان المفتتة نسبيا وسط صراعات حزبية وطائفية، وكأننا حينما وقف الثائرون في الميادين التاريخية بهذه البلدان يعلنون في صراحة بأن الشعب يريد إسقاط النظام، لم يكونوا على وعي وعمق دراية، بل النظام ليحل محله الفوضى.

وكم أنا أسخر جلياً من الكثير من المفكرين وأرباب التوجهات الليبرالية في الوطن العربي بل الشرق الأوسط الكبير؛ لأنهم شغلوا أنفسهم بقضايا ألقاها التيار الديني بمسمياته المتعددة في طريقه، فنسيوا الطريق ونسيوا المهمة ونسيوا الهدف وراحوا يتيهون بين الصيدليات بحثاً عن علاج للقضايا الوهمية التي فجرها الخطاب الديني مثل الدستور أولاً، لا بل الانتخابات، لا بل حقوق المرأة العربية، لا بل البحث عن شرعية المبادئ الدستورية، وغير ذلك من القضايا والظواهر السياسية التي أرهقت المواطن العربي منذ سنوات مضت .

بينما القوى والتيارات التي لا تريد بالوطن العربي دولة مدنية حضارية تشدد ملكها في زوايا ومناطق شتى، ومن خلال وسائل وقنوات اتصال تقليدية ألفوها وألفناها على مر عهود وعقود طويلة، لعل أبرزها إلقاء التهم والتخوين ونزع الوطنية بالإضافة إلى سرد القصص والحكايا العجيبة التي تؤيد فكرتهم في اقتناص السيادة، وهم بذلك لا يفطنون إلى كارثة محققة، فماذا سيحدث إذا ما هب الناس ثانية كما هبوا في وجوه الأنظمة الحاكمة المنصرمة حتى أسقطوها، فهل بصنيعهم المرتقب يكونوا قد ثاروا ضد النظام أم ضد الدين نفسه؟ .

وأنا شخصياً لا أظن أن التثوير يكون ضد الدين أبداً، فالفطرة لا ترفض سلطة إلهية فوقية توجه السلوك والقيم والمعتقدات الشخصية، ولكن تأبى وتمقت وجود مرجعية لم يشارك المرء فيها و لا تحمل صدى لأحلامه ومطامحه الفريدة والاجتماعية .المرء لا يهرب بعيداً عن دين يرقى بسلوكه وفكره وآليات حياته اليومية، لكنه يهرب بعيداً عن سلطة تتحدث باسم الخلافة، وهي على الشاطئ الآخر تشدد ملكاً عضوضاً، بالطبع لا أصير فيه وزيراً أو ملكاً أو حتى شاعره ..

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية المساعد

كلية التربية ـ جامعة المنيا

 

في المثقف اليوم