آراء

بكر السباتين: حصاد الخيبة والانحسار الفرنسي في أفريقيا

على الرغم من وفرة الموارد الطبيعية، إلا أن إفريقيا لا تزال هي الأكثر فقراً وتخلفًا بين قارات العالم. ويرجع ذلك إلى مجموعة من الأسباب التي بذرها الاستعمار منذ أكثر من قرن، على نحو: انتشار الأمراض القاتلة والفيروسات فضلًا عن الحكومات الفاسدة الموالية للغرب والتي غالبًا ما ترتكب انتهاكات خطيرة ضد حقوق الإنسان وتربطها بالدول المتنفذة علاقات تقوم على المنفعة الشخصية من باب العمالة والولاء، ما يؤدي إلى فشل في التخطيط المركزي، وارتفاع مستويات الأمية، وعدم الحصول على رؤوس الأموال الأجنبية من باب الاستثمار العادل وترك الساحات للشركات الغربية الطفيلية، إلى جانب الصراعات القبلية والعسكرية المتكررة (بداية من حرب العصابات إلى الإبادة الجماعية). ووفقًا 'لتقرير التنمية البشرية لعام 2003 الصادر عن منظمة الأمم المتحدة، فإن الدول الخمس وعشرين الأشد فقراً من حيث الترتيب على صعيد عالمي، هي دول أفريقية.

في كل الأحوال فالتعامل مع أفريقا من قبل الدول المتنفذة يتم وفق رؤيتين وهما:

أولاً: الرؤية الاستثمارية العادلة وتبادل المنافع (روسيا والصين)

وتعتبر هذه العلاقة البينية الأكثر رواجاً في أفريقيا كونها تعتمد على الشراكة الكاملة ضمن حقوق غير منقوصة ضمن الاستثمار في قطاعات مختلفة صناعية واستخراجية وخدماتية (مصانع، مناجم لاستخراج لعناصر النفيسة، آبار للنفط والغاز، موانئ على المحيطين الأطلسي جهة الغرب او الهندي أقصى الشرق ناهيك عن الخدمات الأمنية) ، ويكون من مخرجاتها دعم التنمية المحلية وخاصة في قطاعي الصحة والتعليم بمستوياته بالإضافة إلى تطوير البنى التحتية في كافة القطاعات بما يتلاءم والظروف الجاذبة للاستثمار.

يحدث كل ذلك دون أن يتدخل المستثمر الأجنبي -مهما تغولت قدرته- في الشؤون المحلية للبلد المضيف؛ بل سيكون خاضعاً للقوانين المحلية.

أما بالنسبة لتوفير الحماية للمنشآت ذات العلاقة والمستهدفة من المليشيات الفاسدة- إن وجدت- فسيكون بالتعاقد مع شركات أمنية خاصة لا ينحصر دورها ضمن المنشآت المعنية بعقود الشراكة، بل يمكن إناطة أدوار أكثر اتساعاً لصالح الدول المضيفة من خلال التعاقد مع حكوماتها بغية تعزيز الأمن وتحقيق الاستقرار.

ومن أهم هذه الشركات على صعيدي روسيا والصين:

- شركة فاغنر الروسية العابرة للقارات..

حيث أبرمت إدارة شركة فاغنر عقوداً تجارية خاصة مع الحكومات والشركات المحلية أو الجماعات المسلحة في ليبيا والسودان وموزمبيق وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو.

وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، نشرت مجموعة فاغنر حوالي ألفي مرتزق منذ عام 2018 على خلفية الصراعات الدينية والتحول الدبلوماسي بعيدا عن فرنسا، وفي بوركينا فاسو، دعمت الكابتن إبراهيم تراوري، قائد الانقلاب في سبتمبر 2022.

وفاغنر تعمل في عشر دول أفريقية، فيما تستعد الآن لدعم انقلاب النيجر ضد ما يحاك ضدها من قبل فرنسا وحلفائها.

وزد على ذلك توغل روسيا أكثر في تقديم الدعم لأفريقيا مادياً وخاصة القمح كما وعد بوتين الأفارقة في مؤتمر بطرسبورغ الأخير، ناهيك عن الدعم العسكري من خلال التدريب وتقديم الخبراء والسماح لفاغنر بالقيام بأي دور يناط بها وخاصة حماية الانقلاب في النيجر انطلاقاً من بوركينا فاسو .

أما بالنسبة للصين فالحاجة إلى حماية المنشآت سيكون أكثر إلحاحاً من منطلق أن القارة تحتضن اليوم نحو عشرة آلاف شركة صينية وما يصل إلى مليوني عامل صيني يشاركون في تطوير البنية التحتية وبناء المساكن والإنتاج الصناعي والتعدين. وتتطلب الاستثمارات التي تقدر بمليارات الدولارات الحماية المادية والجسدية.

وعلى سبيل المثال، شارك في كينيا وحدها ألفا موظف من هذه الشركات في حماية بناء خط سكة حديد مومباسا- نيروبي- نيفاشا ويمكنك تخيل حجم الموارد البشرية في مثل هذه الشركات العاملة على طول مشروع الحرير العابر للقارات.

ثانياً: الوجود الاستعماري الطفيلي:

الذي يعتمد على نهب الثروات في شراكات غير عادلة مع الحكومات الفاسدة التي سيناط بها تقديم الخدمات للمستعمر مقابل عمولات شخصية ضخمة.

وذلك في إطار حكومات عميقة فاسدة كان لها دور رئيسيٌّ في إفقار الشعوب وجلب الفوضى التي ستؤمن لهم وجوداً أكثر رسوخا.

ولحماية مصالح الدول الاستعمارية فقد سُمِحَ لها ببناء قواعد عسكرية في الدول المضيفة من باب الوصاية على الأمن وحماية الديمقراطية والتصدي للإرهاب فتكون النتيجة خلاف ذلك تماماً.

وأسوأ مثال على ذلك النموذج الفرنسي في أفريقيا الذي تخلصت منه القارة السوداء نسبياً، كما فعلت بلد المليون شهيد، الجزائر.. إلا أن فرنسا استبدلت الوسائل التقليدية في السيطرة بالتحكم الاقتصادي المُسْتَنْزِفْ لثروات أفريقيا من خلال علاقات طفيلية، فقامت بصك عملة أفريقية ربطته بالفرنك الفرنسي وقد اعتمدته أثنا عشر دولة في غرب أفريقيا تحت اسم الفرنك الأفريقي، بدعم من البنك المركزي الفرنسي. وكان على كل دولة الاحتفاظ بنصف احتياطاتها من العملات في البنك الفرنسي.

ولترسيخ وجودها الاقتصادي في القارة السوداء ساهمت فرنسا في دعم التكتلات الاقتصادية الأفريقية على نحو مجموعة الإكواس التي أسست عام 1975.. ورغم أنها اقتصادية الأهداف؛ إلا أن العقلية الفرنسية الاستعمارية المتعالية تسعى في الوقت الراهن إلى توظيفها عسكرياً، من خلال مواجهات عسكرية بالوكالة في النيجر لإفشال الانقلاب الذي انبرى قادته إلى طرد فرنسا من البلاد بإيقاف جميع العقود الاقتصادية والعسكرية بين الطرفين وأهمها إيقاف تصدير اليورانيوم إلى فرنسا، والذي يشكل ما نسبته 10% من حاجة فرنسا الذي تستخدمه في توليد الكهرباء، التي تفتقر إليها النيجر في كثير من القطاعات.

وتجدر الإشارة إلى أن مشاركة الإكواس ستكون باستثناء دولتين داعمتين للانقلاب ومتعاقدتين مع فاغنر وهما مالي ووبوركينا فاسو ووقوف تشاد على الحياد.. وتصويت برلمان السنغال ضد المشاركة، وانحجاب نيجيريا عن دورها الموعود بضغط من الشارع النيجيري.

إن مردود التجربتين الروسية والصينية مادياً ومعنوياً أدّى إلى انتشارهما بترحيب أفريقي شديد، وذلك على على حساب الغرب وخاصة فرنسا، فقد دق الخبراء ناقوس الخطر حيث أوشكت فرنسا التي كان لها وجود تاريخي طاغي أن تخرج من القارة السوداء وهي تجر أذيال الخيبة، لذلك فهي الآن تقاوم للحفاظ على أهم وآخر معاقلها غرب أفريقيا، النيجر، وباستخدام "خجول" لشعار حماية "الديمقراطية" في النيجر التي باتت "منتهكة" في فرنسا نفسها.

وهو ما نبه الغرب عموماً وفرنسا بالتحديد إلى ضرورة استلهام التجربتين الآنفتين باعتماد النهج التنموي للعودة إلى القارة الأفريقية التي انقلبت على الغرب بعد عقود من الاستعمار الذي ادى إلى نهب الثروات الأفريقية وتسببت بإشاعة الفقر والجوع وإشعال الصراعات ما بين المناوئين والمؤيدين لفرنسا.

في سياق ذلك قال الصحفي في ـ"المركز الروسي الإستراتيجي للثقافات" أنطون فيسيلوف:

"إن الأنجلوسكسونيين يستعدون لخوض معركة جديدة للنفوذ في القارة السمراء، ذاكراً أن وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي كشف -قبل زيارة له إلى غانا ونيجيريا وزامبيا في 4 أوغسطس 2023- عن اعتزام بلاده تعزيز التعاون مع الدول الأفريقية في مجال الأمن وتنفيذ برامج تدريبية للوحدات العسكرية المحلية. ودعا كليفرلي إلى ضرورة تقديم الغرب الجماعي خيارات بديلة لأفريقيا للتنمية تختلف عما تقدمه روسيا أو الصين".

ويعزي كليفرلي أهم أسباب التمدد الصيني أو الروسي إلى اعتماد سياسة القروض والمشاريع الاقتصادية ذات العائدات الجيدة والمضمونة على الاستثمار ، التي "أصبحت كلفتها تتجاوز ربع الناتج العام المحلي لبلدان أفريقيا".

وهذا رسخ من الوجود الصيني في أفريقيا؛ لا بل وشكل مع الوجود التاريخي الاستعماري الغربي السيئ عقبةً كأداء في طريق العودة إلى القارة بعد استنزاف ثرواتها لعقود خلت دون تحقيق أي تقدم في التنوية في عالم يتغير وتتعدد أقطابه.. وهي محاولة غربية يبدو أنها جاءت متأخرة وفات أوانها.

***

بقلم بكر السباتين

7 أوغسطس 2023

في المثقف اليوم