آراء

عبد الباقي قربوعه: دهاء الاستخبارات الغربية

دهاء الاستخبارات الغربية مقابل ما هو غباء حينا وما هو ديني حاف حينا آخر

أمريكا دعّمت حماس مصر في انتفاضة الربيع العربي، ثم تجنبت ما عودتنا عليه من تشويش على الانتخابات في العالم خصوصا العالم العربي، وكانت تعلم أن المرحوم محمد مرسي سيفوز رئيسا للبلاد في مصر، بعد ذلك أغرته بتجاوز الديون عن مصر ووعده بدعمها للنهوض باقتصاد البلاد، وانتشالها من أزماتها المتعددّة، وتحسين مختلف أوضاعها الاجتماعية بشرط تصدير الربيع العربي إلى سوريا وإلى دول أخرى لا يرغب فيها (المجتمع الدولي)، وقد لعبت دول الخليج المقتنعة بفكرة الشرق الأوسط الجديد دورا فعّالا في الحكاية، حيث بشكل مفاجئ استدعى الملك عبد الله محمد مرسي واستقبله استقبالا غير متوقّع، ولم يسبب ذلك إحراجا لأمريكا ولا لإسرائيل ولا حتى للمؤسسة العسكرية المصرية، بخلاف ما سببه إسماعيل هنية بعد فوزه في الانتخابات الفلسطينية.

بعد تدمير البنية التحية لسوريا اتصلت الاستخبارات الأمريكية بالسيسي ليقوم بإجراءات الانقلاب ارتكازا على وثيقة قانونية أعدّها مجلس الأمن الدولي تشير إلى أن الرئيس الجديد قد قام بمخالفة قانونية، حيث اعتدى على دولة جارة ذات سيادة، وبموجب ذلك تم تدخل الجيش وقوات الأمن المصرية وقاموا بعزل محمد مرسي كرئيس جديد وإيداعه السجن.

وكخطو ثانية شنت السعودية حربا على اليمن عملا بتقرير أمني أعدّته المخابرات الأمريكية يؤكد أن اليمن يشكل خطرا على الأمن السعودي، وأن المد الشيعي قادم للإطاحة بمملكة آل سعود على أنها غير جديرة بتمثيل الإسلام في العالم، ولم يكن من وراء ذلك سوى إضعاف اليمن كطرف موالِ للمقاومة الفلسطيني، وقوة مهمة لا تروق لها فكرة الشرق الأوسط على أساس أنه تم ترتيبها من طرف الغرب، وأنها تقوم على تهميش وعزل المقاومة الحقيقية في غزّه، إلى جانب ذلك ألهت أمريكا الرأي العام بإثارة موضوع السامية وما يحيط به من كراهية في الشرق، بناء على دفع أوكرانيا إلى استفزاز روسيا بموافقتها على إنشاء قواعد عسكرية هناك، وهي تعرف بأن الروس لن يتقبلوا ذلك وأن الخطوة ستنجر عنها حرب، وأنه أيضا لا هدف من وراء ذلك إلّا تلهية الروسية ودفعها إلى استنزاف قدراتها، فهي تعلم أنها صديقة ومتعاطفة مع الشعوب الإسلامية والعربية منذ الحرب العالمية الأولى، وأنها أيضا صديقة لفلسطين وداعية إلى تحريرها.

اشتعلت الحرب كما قدّرت لها الاستخبارات الأمريكية، وهكذا توفّرت من المنظور الصهيوني الأمريكي الإسرائيلي، وكذلك الأمر للدول العربية والإسلامية من منظورها التطبيعي الإنبطاحي الذي يثق في سياسة الغرب وقناعتها بملائكية تدخلاتها لترتيب شؤون العالم، خصوصا الشأن العربي، وبوجه أكثر خصوصية نظريتها الأمنية في معالجة القضية الفلسطينية.

وعملا بكل هذه المعطيات تقرر باتفاق سري موحّد بدء إجراءات ترسيم الشرق الأوسط الجديد المنشود أصلا من طرف إسرائيل، وذلك بالقضاء على كثير من المصطلحات المرتبطة بالإسلام (المقاومة، الأقصى، القدس، حماس، الجهاد الإسلامي)، وكل ما يعني هذه المصطلحات من تفرع وتجذر يصب في وعاء القضية الفلسطينية بوجه عام، وبعادي من ثانية فكرة الشرق الأوسط، استثناء لحركة فتح التي يتشخّصها محمد عبّاس حيث هرول بدوره إلى هذا المعسكر طمعا في استلام السلطة في إجراءات ما بعد القضاء على حركة حماس، حيث تراهن إسرائيل عليه بضمانات من دول الخليج ومصر على أنه سيتعسكر أكيد بما توفره كل من أمريكا وإسرائيل من قواعد وأدوات أمنية وعسكرية للشّد بقبضة من حديد على المنطقة، كل ذلك تأمينا لإسرائيل وللأنظمة التي انبثقت على إثر انقلاب أو تزوير انتخابات أو وراثة غير شرعية للحكم، اتفاقا حول أن المقاومة سوف لن تكتفي بعد ذلك بتحرير فلسطين، ولن تكتفي أيضا بالقدس كعاصمة، بل ستتعدى ذلك إلى إبادة إسرائيل واكتساح كل الأرضي المنهوبة، والأكيد ستصبح المقاومة قدوة ومصدر إلهام في العالم، ومن يدري فقد تنطلق فتوحات واسعة النطاق ضد كثير من الأنظمة لإعادة الحكم لأصحابه، مع الأسف الأنظمة العربية و(الإسلامية) حبّا في كراسي الحكم، وتشبثا بالنعم التي يتمتع فيها أولادهم وأسرهم وذويهم هضموا الفكرة، واقتنعوا أن الخطر يداهمهم جميعا فصاروا بذلك جنودا للكيان الصهيوني تحت مظلّة مجلس الأمن الدولي وما يقرره وفق ازدواجية معاييره المعهودة التي تضطره إليها مصالحة المختلفة والمتنوعة في العالم.

في النهاية يحتّم علينا الواقع الذهاب إلى مكان تجمّع ما أتي به وادي السياسة من عجائب، فنجد أن القش المتكور حول بعضه، والأشلاء المبعثرة، والأشياء المتراكمة هناك وهناك، نجد كذلك كل ما لم يستطع مسك نفسه من كائنات حيّة وغير حيّة، عاقلة وغير عاقلة الأقوياء منهم والضعفاء، نجد كل شيء في نهاية مسار الوادي السياسي يضطرنا لنسأل: أين الجهاديون الذين فكّكت بهم أمريكا الاتحاد السوفياتي، وبعد ذلك صفّق لهم الخليج ودعّمهم لإتلاف مواعين بيت الأسرة العربية؟ أين الوعود التي وعدت بها الدول الغنية العربية منها والأعجمية الفقراء والبسطاء وذوي الرأي المتواضع ممّن ينشدون الأمن والسلام بألسنة الساحرة أمريكا وحلفائها، الذين يعلمون مآل المواقف إلّا العرب والمطبعين منهم تحديدا؟

فتفاجئنا ألسنة البسطاء الخالية من كولسترول المصالح الاقتصادية بأن الغرب ليس مخيرا أمام إحصاء وجمع ثروات الأرض ما ظهر منها وما بطن سوى بإثارة الفتن والقلاقل والثورات المزيفة، والتشويش على بوادر الخير التي لا مصلحة لديها إلّا العمل على رفاهية الشعوب، والحرص على أمنها واستقرارها، لنصل إلى قناعة خطيرة هي أن الغرب هو الذي يثير كل مصطلحات العنف عبر العالم، وكل موقف عنيف يصدر من دولة أو حزب أو جماعة أو تكتل خارج القانون إنما هو منبثق من النوايا السيئة التي يبني عليها مجلس الأمن الدولي إصدار قراراته، لنجزم بأنه مخترق من طرف جماعة لا تريد الأمن والرخاء للبشرية، همّها الوحيد هو النفوذ والسلطة والمال والثروة.

انطلاقا من هذه القناعة نستطيع القول بأن كل شعوب العالم بمختلف الجنسيات والديانات ضحايا هذه الأنانية المادية المُفرطة، بما فيهم فلسطين وإسرائيل لأنهما سيتآكلان لصالح شرق أوسط جديدة يصب في وعاء هذه التركيبة الغربية التي لا أحد يستطيع أن يتبين أيديولوجيتها السياسية ولا رمزيتها الدينية.

من الذي يستطيع أن يكبح هذه الآلة المادية التي تحص الأرواح بالآلف دون مبالاة؟ ربما بمزيد من الوعي واليقظة من طرف الشعوب جميعا، وقد يتدخل الله لترتيب ملكه من بشر وكائنات وطبيعة بالشكل الذي يقدره في ملكوت كرسيه الأعظم، فيُهلك الظالمين ويموت الصالحون والطيبون على ما ماتوا عليه ثم يُطوى الكتاب على قدمت السياسة الغربية للبشر، فعليهم أن ينتبهوا ويكفوا حتى لا يكونوا هم القوم الأشرار الذين قد يقيم بهم الله القيامة، ويختم بما يفعلون نهاية العالم.

***

عبد الباقي قبوعه / كاتب جزائري

 

في المثقف اليوم