آراء

رشيد الخيّون: مظفر النَواب.. تحالف يساريّ إسلاميّ

دعا مثقفون، على السَّاحة العِراقيَّة (بعد 2003)، اليسار إلى التّحالف مع الإسلاميين، تيار بعينه داخله ممهدات التّطرف بائنة؛ التَّحالف على مشتركات رخوةٍ. غير أنّ دعوة اليسار ولومه إذا لم يتحالف، لم تكن جديدة، وربَّما كان السَّباق إليها شاعر قدمها بألفاظ لاتُعنى بالمعاني. لا ندري إذا كانت دعوة مظفر النَواب(ت: 2022م)، المولود ببغداد(1934) والمتوفى بالإمارات، إلى هذا التَّحالف قد سمعها مِن اليساريين الفرنسيين والعرب أيضاً، في دعم الثّورة الإيرانيَّة، في بداية الأمر.

تصعد نبرة النَواب بمناشدة جهيمان العتيبيّ (أعدم: 1980) كبطل ثوريّ؛ وليس الظّلاميّ، الذي كانت حركته اعتراضاً على وجود سينما، وظهور المرأة على شاشة التلفزيون، فقال صارخاً: «لم يناصرك هذا اليسار الغبي/ كأن اليمين أشد ذكاءً/ فأشعل أجهزة الرَّوث/ بينما اليسار يُقلب في حيرة مجمعه/ كيف يحتاج دمٌ بهذا الوضوح/ إلى معجم طبقيّ لكي يفهمه/ أي تفووه(إهانة عراقية) بيسار كهذا/ أينكر حتّى دمه»(الأساطيل 1979).

لا نناقش القصيدة على أنها نظرية فكرية، ولا نتعامل معها إلا ضمن فورة الشّاعر غير المؤسسة على منطقٍ، أنّ يتحول عنده الظَّلامي متنوراً، وأقصى اليمين يمسي جوهراً يساريّاً؛ فحينها كان جهيمان وفكره مغطى عن بصر النَواب بصوت التّصفيق والهتاف الصَّاخبين، فلينتصر جهيمان ويبني له دولة العمال والفلاحين، وعلى هذا وصف اليسار بالغبي، وأن الثّورة، سواء أكانت دينيّة أو غيرها، تعبر عن طموحه اليساريّ، المهم تتهدم أنظمة، ولا حاجة ولا رؤية للبناء.

إذا أخذنا دعوة النّواب كنظرية، خارج مزاج الشّعر، «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ»(الشعراء:224-226)، فهل كان جهيمان يرضى باليسار، وهل كان التَّيار الإسلاميّ صريحاً بالتحالف مع اليسار، مثلما دعا البعض إلى التَّحالف معه، وماهي النَّتيجة؟ وقد مارس هذا التّيار في بداية الأمر، بما لا يختلف عن جهيمان، بدأ وجوده بقتل علني وفتوى ضد ديانة عراقيّة، وتشكيل محاكم شرعيّة، وهو عين ما ستفرضه «السّلفيّة المحتسبة»، التي احتل بها جهيمان الحرم المكي (نوفمبر 1979)، ولو تمكنت لزادت على فعلة «داعش» بالموصل.

كان المصفقون لمديح الشّاعر لجهيمان، يسمعون الألفاظ رنين أجراس ثوريّة، لكن بعد حين عاد مظفر إلى العقلانيّة تاركاً المصفقين في «حَيْصَ بَيْصَ» والمعنى «اختلاط من الأمر لا مخرج لهم منه» (ابن قُتيبة، كتاب الجراثيم). كان شعراء الثَّورات يرون رؤساء عصابات صاروا رؤساء أنظمة آمالاً للأمة، ولم يروا الجثث المصلوبة على الأعمدة، باسم الثّورة وفلسطين.

عاد مظفر إلى بغداد، وكان جسده منهكاً، واستقبله صاحب عِمامة ورفاق قدماء، ولم يستقبله «الإسلاميون»، مع ما قاله في إمامهم ووليهم: «مبايع أصالتي بالحجرِ الأساس منزلٌ يُقام/ مبايعٌ طيني وحبٌ كُله/ روح بلا منزلها بلا سَلام/ مبايعٌ أنَّك بين الدُّول الكُبرى الإمام»(تسجيل 1984). شارك مظفر في الانتخاب، الذي وفرته أميركا، لم يسعه الوقت للتفكير بهذه اللحظة، مثلما لم يفكر، بصرخته: «يا جهيمان حدق»، بأنه واليسار كافة كانوا الهدف.

لم يدر مظفر أنَّ جهيمان ليس أرحم مِن «داعش»، في سبي العراقيات، وأنَّ «الإسلاميين» كافة جهيمانهم مخبوء في البطون. كان سيحصل ذلك لو انتصر جهيمان وقتها، ومع ذلك ما زال المصفقون لهدم أنظمة وبلدان، بلا اطلاع على عقيدة «السّلفيّة المحتسبة»، بل لا مظفر، ولا المصفقون، قد سمعوا بها.

أقول: إن ظل مظفر عند الثَّوريين العرب «ياجهيمان حدق»، فهو عند العراقيين مفردة عذبة مغناة، «بريد الهوى» بين المحبين.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم