آراء

عبد الجبار العبيدي: بين الأسلام والمسلمين.. جدلية

منذ القدم جاءت الاديان دعماً للمعنويات البشرية، فالدين هو الطاعة دعما للقيم الأنسانية، لزوال الخوف من الظواهرالطبيعية والدنيوية لتأمين الحياة الأمنة لهم من كل ما يصادفهم من معوقات الحياة الغابية، وبمرور الزمن تحولت هذه العادات والتقاليد الى عبادات بشرية مستدامة، حتى تحولت بفعل التطور الزمني الى اديان مقدسة تعبد دون خشية.

وحين احترم الانسان حالة الاديان الجديدة بدأت المفاهيم المخترعة عنده تشكل حالة جديدة تتماشى مع المفاهيم القيمية.. الزهد والعبادة المطلقة التي تحولت بالتدريج الى العدالة والعلاقات الانسانية، حتى تحولت الاديان المخترعة عندهم الى عبادة اساسية كعبادة النار التي حمتهم من الحيوانات المفترسة وقت ذاك، والتي لا زالت تشكل حماية لهم في الغابات والادغال الموحشة الى اليوم.

 وبمرور الزمن ظهرت نظرية جديدة تدعو الشعوب الى التحررمن القيود بنفسها دون الاعتماد على الظواهر الطبيعية التي كان انسان النيانتدرال قبل أكثر من ستة آلاف سنة يمارسها بقناعة.. حتى جاءت الاديان السماوية المقدسة فتحول الاعتقاد الى عقيدة لا يجوز اختراقها يرافقها أنبياء ورسل أدعوا انهم جاؤا برسالات سماوية مقدسة حتى قدر عددهم ب24 نبياً ورسولاً.. لكن الدين ظل اسماً بلامسمى حتى في الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلامية لكون اصحابها لم يلتزموا بحقوق الانسان المتكاملة (الحرية والأخاء والمساواة).. بل بالقدسية الفرضية ولا غير.

وهكذا اختلطت الخًرافة بالعقل.. لذا ليس أمامنا سوى العقل.. فالمحافظة عليه محاربة للجهل والتخلف والخرافة.. لذا اعتبر العقل هو اول مخترعات الانسان، وبه بدأ الأنسان له القدرةعلى عقل الاشياء والسيطرة عليها. لكن الصراع بينه وبين الغريزة استمر ولا زال كون ان الغريزة اقوى منه لانها مركبة في الطبع، في حين ان العقل مكتسب. ويقول المؤرخ أرنولد تويمبي.. ان وحي الانسان لنفسه باكتشاف العقل يعتبر تاريخ بداية حضارة الانسان وحين أطمئن بدأ ت تتربى فيه خصال جماعية منها احترام الاخر والشعور بالعدالة واحترام العادة والتقليد الذي تحول الى قوانين ملزمة.. وكلها جاءت من تطور الزمن المستمر.. ولا علاقة للدين به.

من هنا نشات القوانين كقوانين آور نمو السومري وحمورابي البابلي وقوانين الفراعنة والزرادشتية والبوذية في الموت والحياة.. لكل منها رأي في حرية الانسان.. افضلها برأيي البوذية.. رافقها الاستبداد السياسي للحاكم وغياب الحرية وبروز فقهاء الدين في خدمة السلطة، ومطاردة الرأي الحر، وغياب النقد فسادت روح الانتهازية في المجتمعات الانسانية.. واستمرت فترة طويلة يُحكم البشر حكما قسريا بحجة قوانين الدين.

 حان الوقت اليوم للتخلي عن التعصب الديني والمذهبي.. واخراج العرب والمسلمين من العقيدة الجبرية التي أوقفت حركة التقدم المجتمعي عندهم بقوانين "الحلال والحرام، والجنة والنار والاخرة وحور العين " دون ضوابط معينة اخترعتها الحركة الفقهية المذهبية المخترعة من السلطة لدوام سيطرتها على العقل قبل الأنسان. وأخضاعه لها.. هنا كان موت الدين والاسلام معاً.. وستبقى ان لم تتغير عقلية المسلم في الاعتقاد والتثبيت.

يجب علينا اليوم الاعتراف بأن الحقيقة الدينية تتغير وتتطور حسب استمرارية الفهم الزمني لمفردات الحياة الانسانية ، وليست هي مطلقة ومنقوشة فوق حجر.. لذا نرى السلطة تساند الحركة الفقهية المخترعة منها لتبذل المستحيل وبالثروة المفرطة لتطويع الانسان لمفرداتها الدينية التي تدعي القدسية وهي لحد اليوم عاجزة عن شراء الانسان، وقد أثبتت سلطة الدين معاداتها لحرية الانسان والحقوق..

لم يبقِ لنا الفقهاء من شيء في أصول الاسلام واهدافه اليوم الا حرفوها عن معناها الصحيح خدمة للسلطة لا الدين مستندين الى تزوير الاحاديث النبوية. وخاصة فقهاء عهد البويهيين والسلجوقيين بين 334-447 للهجرة كما عند الكليني في كتابه الكافي، وابن تيمية في كتابه قوة الأكراه جوهر الحكم، حتى تحول الاسلام من فقه الدين الى فقه السلطة خدمة للخلفاء العباسيين من جهة.. وللسيطرة على عقول الناس باسم سياسة الدين من جهة اخرى.. وهنا تم تبديل الاسلام من فقه الدين الحقيقي الى فقه السلطة المزيفة وحولت عقيدة النص المقدس الى نص الحديث الموضوع منهم، والتي بموجبه أنهت الدين واركانه بالمطلق وحولته الى تخريف. خاصة بعد المحاولات الجادة الى استبدال الحديث النبوي المنتحل بدلا من النص القرآني المقدس.

نعم بين اركان الايمان واركان الاسلام جدلية.. وكأنهم ما ادركوا ان أركان الايمان هي شهادة ان لا اله الا الله ومحمد رسول الله والصوم والصلاة والحج والزكاة، وهي شعائر اسلامية جاءت ضمن مفهوم العقيدة الفطرية العبادية.. أما أركان الاسلام لتحقيق الحقوق والواجبات للانسان تجاه الله والناس هي: الاستقامة وعدم الاعوجاج في القول والعمل، والعدل المطلق (أعدلوا ولو كان ذا قربى) والاخلاق العالية في التصرف تجاه النفس والاخر، والصدق في القول والعمل تنفيذا للقسم واليمين، وقد جاءت في سور قرآنية حدية لا يجوز بالمطلق تجاوزها.. أنظر سورة الانعام (151-153). وكلهاضربت عرض الحائط ولم تطبق سوى ظاهريا الى اليوم.

مع الاسف نقولها أن هذا التحول الباطل في الفقه الاسلامي حوَل المسلم الى أستمراء النفاق والخيانة والفساد والانتحال، حتى تحول الى ما يشبه الدمية التي يحركها اطفال الملاعب، وها هي داعش والقاعدة وطالبان نسخة من اسلامهم اليوم.. والا لو كان الحاكم يؤمن باركان الاسلام الحقيقية الاستقامة والعدل والقسم واليمين لما خان الامانة والقسم واليمين وباع الوطن للأعداء الذين يعدهم من الكافرين، ولما قتل العلماء والمفكرين وأستمرأ الحرام في أموال الدولة.. لان الوطن في الاسلام قيم وامانة لا يمكن تجاوزها بأي حال من الاحوال.. (أنظر قضية الامام علي وسرقة السيف) ليتبين لك صدق الأعتقاد.. وها تراهم كيف تجاوزوا على كل القيم من اجل السلطة والمال منذ عهد الأمويين والعباسيين بأستثناء عهد عمر بن عبد العزيز(99-101 للهجرة، والى اليوم. فأسلامنا اليوم هو اسلام الفقهاء لا اسلام محمد الأمين.

كفاية تبجحا بالدين بعد ان اصبح الدين وسيلة من وسائل ضعف الامة وتحويلها الى تدمير حين اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.. حتى اصبح الحاكم الظالم أفضل من أنعدامه.. فنشات الكتلة الساكتة عن الحق بعد تفسيرهم الخاطىء للأية الكريمة "وما تشاؤون الا ان يشاء الله" فنشأت نظرية فكر الطاعة المتمثلة في الماوردي (450 للهجرة) والغزالي صاحب نظرية الضرورات تبيح المحظورات، وابن تيمية في نظريته فصل الدين عن الدولة سيعني الفوضى.

و فقهاء الشيعة، من امثال الكليني وابن بابويه والشيخ المفيد والامام الطوسي والمجلسي منتحل الاحاديث في كتابه بحار الانوار وغيرهم كثير.

ومالم يتحول الدين الى قوانين ملزمة التطبيق كما عند الأوربين والبوذيين وغيرهم سنبقى الى الابد خارج التاريخ.. ولا يتم ذلك بالمطلق الا بعد فصل الدين عن الدولة وتكوين دولة العلمانيين.. وبمرور الزمن في التطبيق ستتحول الطبيعة البشرية الى احترام القانون والدين معا.. بعد أنحسار نفوذ مؤسسة الدين ورجالها المفترين على الدولة وانسانية الانسان في التطبيق.

من هنا سيكون الجزاء على قدر المواهب والجهد المبذول ومستوى ذلك الجهد من الدقة وعدمها ونصيب العلم والخبرة والاخلاص في العمل، وان يكون للانسان حق حرية التصرف في اتعابه المبذولة في العمل والامانة الوطنية، وان يكون للفرد في الدولة الحق ان يكون آمناً على نفسه وماله وثمرة اعماله، وان يكون هذا الحق مكفولا بنص القانون والعرف الاخلاقي للجماعة.. وفي النهاية سيكسب الرهان.. لا ان يقوم على اساس الحسب والنسب والانتماء الحزبي والديني الموروث كما هو اليوم عندنا. من هنا سيكون التقدم عظيما. يساندهم المنهج الدراسي الصحيح لتكون لهم فلسفة خاصة بالتقدم، وعلى اساس هذه الفلسفة تقوم نظرية سليمة تصلح ان تكون أساساً جديداً الى التاريخ واحوال البشر.

من هذا التوجه السياسي السليم للسلطة واجهت جماعة التقدم الفكري مقاومة عنيفة من السلطة.. او قل مع ركام تاريخية عسيرة الاختراق بها تمت السيادة العقلية على الناس والتحكم في مصيرها كما هو اليوم. هنا دخل التاريخ ودخل التقدم الحضاري بمعركة شرسة بين المستفيد والمحروم ترتب عليه الغاء حركة التاريخ الدائرية بنكرانهم للحركة الحضارية وان التاريخ لايعيد نفسه، بل الاحداث تاتي متشابهة في زمن مختلف.. وظل السجال بين الاول والثاني حتى استقرت نظرية التقدم بوعي خلقي انشأ قانون جديد للعمل والانتاج في الدول الاوربية بعد ان تخطت افكار مؤسسة الدين بتكوين الدولة المدنية.. حتى اصبح االتفكير الحديث في التحسن والتقدم عقيدة.. بينما ظل اصحاب الاديان واقفين في اماكنهم دون حراك.. لا بل قل الى الوراء در.

موضوع شائك ويحتاج لبحث طويل ومركز مدعوم بالحجة والدليل.

***

د. عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم