قراءات نقدية
فاطمة عبد الله: دراسة نقدية لنص "غرازييلا" للشاعر محمد مجيد حسين

بين فردوس المنفى وطقوس الجمال.. قراءة في شعرية العتمة المضيئة
تمهيد نظري: تهدف هذه الدراسة إلى تحليل نص "غرازييلا.. العتمة المضيئة" للشاعر محمد مجيد حسين من خلال رؤية حداثية تستند إلى مفاهيم التفكيك والرمزية والتخييل الطقسي، مستنيرة بمقولات باشلار وبلانشو وجوليا كريستيفا. تستند الدراسة إلى فرضية رئيسة مفادها أن "غرازييلا" ليست محض تجربة وجدانية أو عاطفية، بل هي تركيب رمزي تتداخل فيه الذات الشاعرة مع الأنوثة والمقدس والمنفى، بما يجعل النص ممارسة شعرية تأويلية ذات طابع طقسي.
ومن خلال هذه الرؤية، تقارب الدراسة النص عبر عدد من المحاور المرتبطة بالبنية الرمزية، وشاعرية المنفى، والأنوثة الطقسية سعياً لاكتناه جمالية العتمة المضيئة.
غرازييلا بوصفها رمزاً أنثوياً خلاصياً
"غرازييلا تُشعل النورَ / في أقفالِ منفايَّ"
"بدون مملكةٍ هي ملكةٌ"
"هي الوعدُ الهاربُ .. / هي النُبل المُعتق"
في هذه التكوينات الشعرية تتجاوز "غرازييلا" كونها صورة أنثوية تقليدية لتتحول إلى بنية رمزية خلاصية تتجسد في تخوم المنفى والانتظار. لا تحضر كموضوع للرغبة، بل كقوة كاشفة تستدعي النور من العتمة وتمنح الذات الشاعرة شرعية الأمل في فضاء عدمي.
هذا التكوين يتقاطع مع تصور جوليا كريستيفا للأنوثة بوصفها: "حضوراً طارئاً يؤسس غياباً جمالياً لا يستقر ويُنتج المعنى لا كمكتمل بل كمعلّق."
تظهر "غرازييلا" هنا كعلامة متجاوزة للزمن والمكان بوصفها وعداً هارباً و"نبلاً معتقاً "، أي أنها لا تؤسس الخلاص في المنظور الواقعي، بل عبر انبثاق رمزي طقسي يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والأنوثة والمقدّس. بهذا المعنى، تغدو "غرازييلا" وسيطاً رمزياً بين العالم السفلي للمنفى والعالم العلوي للمعنى.
المنفى والذات المجروحة: انكسار الهوية وشاعرية الانمحاء
"وأنا شمعةٌ في وطني المنكوب / شمعةٌ الدياجير"
"أنت تعبرُ مُدن النحاس / في الزمن الحظر القاتل"
في هذه الصور، يتجلى المنفى بوصفه تجربة وجودية لا جغرافية تتداخل فيها الهوية بالانمحاء والذات بالحطام. لا يتعامل النص مع المنفى كمسافة مادية، بل كشرخ نفسي حاد تعيشه الذات بوصفها "شمعة" تتآكل في العتمة وسط "مدن النحاس"، حيث يتكثف الشعور بالاغتراب داخل زمن محظور وقاس.
في هذا السياق، تنسجم الرؤية الشعرية مع تصور موريس بلانشو الذي يرى أن:
"الكتابة هي غربة داخل اللغة، حيث يغدو الشاعر شاهداً على ذاته وهي تتلاشى"
إن استخدام مفردات مثل "الدياجير" و"مدن النحاس" لا يقصد به الوصف الجمالي فحسب، بل يمارس كفعل رمزي على مستوى الانمحاء التدريجي للذات في مواجهة عالم قاس ومعدني مغلق. بذلك تتحول الكتابة إلى مرآة لانكسار الهوية وإلى طقس من الحضور عبر الغياب.
الطقس الجمالي واللغة ككائن شعري
"طقوس معارك الجمال / هي الوعد الإلهي / بشرعية نبوءتي"
في هذا المقطع، تتحول اللغة من وسيلة تعبير إلى بنية طقسية تشتغل على إنتاج المعنى لا نقله، بحيث يصبح الشعر ممارسة شبه مقدسة تستدعي الأسطوري والإلهي، لا بوصفه معتقداً دينيًا، بل كقوة جمالية كاشفة. إن حضور "الوعد الإلهي" و"النبوءة" يشير إلى أن اللغة نفسها لم تعد أداة حيادية، بل صارت كائناً جمالياً ذا طابع شعائري.
يتقاطع هذا الطرح مع تصور غاستون باشلار الذي يرى أن:
"الكلمة الشعرية تحول المادة إلى خيال مقدس، وتمنحها كينونة لا تستمد من الواقع بل من طقس الحلم."
هكذا، تتحول "غرازييلا" إلى مركز طقسي داخل النص، ليست فقط بوصفها رمزا أنثوياً، بل كوسيط شعري يفعل البنية التأويلية للقصيدة، حيث تمارس اللغة وظيفة طقسية تعيد تشكيل العالم عبر الخيال، لا عبر المرجع.
الغرائبية والتخييل: اللغة السريالية كأفق تأويلي
"إشارات المرور تُخاطبني / أنت تعبرُ مُدن النحاس"
"غرازييلا تعبرُ جنون الأضواءِ / في بلاد الجمال"
ينسج النص مشهداً شعرياً تنزاح فيه اللغة عن مرجعها الواقعي لتخلق عالماً سريالياً داخلياً، تتكثف فيه الرموز وتتفكك العلاقات المألوفة بين الأشياء. "إشارات المرور" لم تعد علامات مرورية، بل تحولت إلى كائنات دالة تتفاعل مع الذات وتعيد إنتاج المعنى. أما "مدن النحاس" فتمثل عالماً مغلقاّ وقاسياً يوحي بالجمود والاختناق ويكثف صورة الاغتراب.
يتقاطع هذا الأسلوب مع ما يسميه غاستون باشلار بـ "تخييل المادة"، حيث تتحول العناصر الجامدة إلى رموز نفسية وروحية عبر فعل الكتابة. كما يمكن ربطه بما يعرف بـ"الواقعية التخيلية" التي تتجاوز التفسير العقلاني لصالح خيال تأويلي مفتوح.
في هذا السياق، لا تكتب الغرائبية لأجل الإدهاش، بل لأجل زعزعة يقين الواقع وخلق ممر تأويلي ينقل الذات من المعنى الخارجي إلى بعد باطني متعدد الإمكانات.
شعرية الانخطاف: الغنائية التأملية وتحول الأنا
"هي موسيقا العتمة المُضيئة في روحي"
"صدى صوتها يعزف ليّ على أوتار الوعد الإلهي"
في هذين السطرين، تتجاوز الغنائية حدود الانفعال العاطفي المباشر لتصبح فعل تأمل داخلي يمس الجوهر الوجودي للذات. "موسيقا العتمة" ليست وصفاً شعرياً عابراً، بل صورة مركبة تظهر امتزاج المتناقضات (النور/الظلمة، العزف/الصمت)، مما يخلق حالة انخطاف شعري وهي لحظة عبور الذات من وعيها المباشر إلى فضاء تأويلي أكثر عمقاً .
يماثل هذا ما يسميه موريس بلانشو بـ"الغياب المنتج"، حيث "الكتابة الحقيقية تؤدي بك إلى غيابك أنت فتظل موجوداً فقط بما تُخفيه من ذاتك." هنا، تتحول غرازييلا إلى مرآة للذات في لحظة محوها فتُصبح الغنائية ذات طابع أنطولوجي لا محض وجداني.
من خلال هذا، يتخذ "الوعد الإلهي" بعداً شعرياً لا لاهوتياً ويغدو فعل الكتابة بمثابة طقس خلاص داخلي تمارس فيه الذات استعادتها عبر الآخر ‚ الأنثى/الرمز.
الشعر بوصفه طقساً تأويلياً
ليست "غرازييلا.. العتمة المضيئة" مجرد قصيدة حب أو حنين منفي، بل هي مشروع شعري يؤسس لبنية رمزية طقسية تتجاوز التعبير الانفعالي إلى ممارسة جمالية تأويلية. يتعامل الشاعر مع اللغة لا كوسيلة بل ككائن حي تتولد داخله الصور والاستعارات لتعيد تشكيل العالم من حوله. الأنثى هنا، كما في تصورات كريستيفا، ليست فرداً بل طيفاً وجودياً خلاصياً تحضر بوصفها لحظة انخطاف وكشف.
المنفى، كما قرأناه من خلال بلانشو، ليس جغرافيا بل وعياً جمالياً هشاً، تمارس الذات داخله انمحاءها من أجل قول جديد. كذلك فإن التخييل، كما عند باشلار يعمل على تحويل المادة اليومية إلى خيال ذي طابع مقدس يحول القصيدة إلى تجربة تقف بين الكتابة والطقس.
من هنا، فإن النص لا يقرأ فقط، بل يمارس. فهو لا يقدم المعنى بل يفتحه ولا يغلق التأويل بل يوسعه، بما يجعل "غرازييلا" نصاً لا يستنفد، بل يستدعي القارئ للدخول في طقسه الجمالي بوصفه فعلاً مستمراً من الإنصات والعبور.
***
دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله
.......................
غرازييلآ .. العتمة المُضيئة
غرازييلآ تُشعل النورَ
في أقفالِ منفايَّ
لتنسجَ أنوالاً مُختلفة
غرازييلآ تُعانق نبوءتي
من جهة الغروبِ
هي الوعدُ الهاربُ ..
هي النُبل المُعتق
هي شجرة الأماني الباحثة عني
غرازييلآ تواجهُ قُبح العالمِ
تُناشدُ تذاكر السفرِ
في مطارات الهزائم
بدون مملكة هي ملكةً
صدى صوتها يعزف ليّ
على أوتار الوعد الإلهي
غرازييلآ الدافئةِ
إشارات المرورِ تستثنيكِ
إشارات المرور ..
إشارات المرور تزفُ ليّ
ملامحي القادمة بغرائبية
إشارات المرور تُخاطبني
أنت تعبرُ مُدن النحاس
في الزمن الحظر القاتل
غرازييلآ تعبرُ جنون الأضواءِ
في بلاد الجمال
وأنا شمعةٌ في وطني المنكوب
شمعةٌ الدياجير
الراسخة في روابي الزمن المنفلت
غرازييلآ الروح المُلاحقة
عبر نواب قصر المعاني
وفي منفايَّ المناظر
لأبراج صدى هشاشة الندى
وفي مواسم القحطِ
وعند نهاية الهزائم
أرى غرازييلآ كحوريةٍ
تُعانق ملوحة الدمعِ
هي موسيقا العتمة المُضيئة في روحي
هي طقوس معارك الجمال
هي الوعد الإلهي
بشرعية نبوءتي ..
***
الشاعر محمّد مجيد حسين