آراء

عبد السلام فاروق: المثقفون في رمضان

تفيض البركة في رمضان، ويحلو فيه السهر والسمر. وهو شهر الفن والأدب والثقافة وتبادل الكلام والحكايات، على مستوي النخبة والعامة كلاهما.. وفيما يحلو للشباب وكبار السن الجلوس على المقاهي بين التراويح والفجر، كذلك يحلو للمثقفين الجلوس للكلام والسهر..

 في الماضي كانت هناك صالونات ثقافية تستوعب نخبة المفكرين من الصحفيين والأدباء والفنانين، أو مقاهي شهيرة كالفيشاوي ومقهى ريش وغيرهما. ثم اللقاءات الإذاعية والتليفزيونية مع مشاهير الأدب والصحافة والفكر. كل هذا موجود الآن لكنه مختلف، بحيث تشعر أنه معدوم أو بلا تأثير! فما السبب؟

إشكاليات الثقافة والمثقفين

 مصطلح "الحركة الثقافية" في جوهره يعني وجود ديناميكية وأجواء مشحونة بالنشاط. والحركة هنا لا تعني كمية الإنتاج الثقافي، وإنما التفاعل صعوداً وهبوطاً أو شداً وجذباً.

 مثلاً خلال الفترة التي تعددت فيها المذاهب الأدبية، وثارت ثائرة المعارك الفكرية بين كبار الأدباء على صفحات الجرائد والمجلات. كانت هناك حركة بل قل موجات هادرة دفعت بالأدب والفن إلى أعلي قمة يمكن الوصول إليها.

 والصالونات الأدبية كصالون العقاد وصالون توفيق الحكيم وصالون مي زيادة، هي مجرد نتائج لتلك الحركة وذلك التفاعل. بينما صالونات اليوم مجرد صورة ممسوخة ليس لها ذات الهدف ولا تصل إلى نفس النتيجة، لأنها صالونات تحدث في أجواء راكدة لا تتفاعل فيما بينها، بل قد تتلاطم وتتصارع. لأن الثقافة اليوم تحولت في ثوبها الرسمي إلى روتين. وفي ثوبها الشعبي أو النخبوي إلى جزر منعزلة وجماعات مصالح. هكذا لا يمكن لمثل هذه الحركة العشوائية أو المتصارعة أن تدفعنا للأمام أو إلى أعلى. بل سنظل كمثقفين نقف محلك سرّ. لأننا لا نتحرك حركة جماعية هادفة، وإنما يدفع بعضنا بعضاً ويهاجم أحدنا الآخر بلا سبب!

 ربما يكون السبب هو غياب الهدف القومي المشترك الذي يجمع النخبة نحو طموح تقدمي راغب في استعادة الريادة الثقافية التي بدأ بساطها في الانسحاب من تحت أقدامنا..

طغيان المادة

 الآن كل شيء له ثمن. ولم يعد من الممكن أن تجد شخصاً أو مؤسسة تعطي وتبذل دون مقابل.

  أتساءل: هل يمكن أن يولد في مصر شخص مثل طلعت حرب يضع نصب عينيه الارتقاء بالحالة الثقافية، ويربط الاقتصاد بالثقافة؟! لا يمكن أن يظل هذا الدور هو دور المؤسسات الحكومية أو المؤسسات الربحية. لابد من وجود رأسماليين يؤمنون بدور الثقافة في رقي الأمم..

  دعك من الرأسماليين ورجال الأعمال، فلا أظن أن بينهم واحداً يهتم الآن بالقيام بمثل هذا الدور. لكن حتى على المستوي الشعبي الإبداعي: هل يمكن أن نجد شخصاً مثل "زكريا الحجاوي" مثلاً يدور ويسافر بين النجوع والكفور والقري في صعيد مصر ودلتاها لاكتشاف المواهب المدفونة بين بسطاء الناس، لإحياء فنون الفلكلور بعمليات الاستكشاف التي قام بها بمفرده مدفوعاً برغبة حقيقية في تحقيق طفرة في مجال من مجالات الفنون.

 قد يقول قائل: إن الفضائيات عامرة بمسابقات غنائية تكتشف المواهب. والحقيقة غير ذلك. أولاً لأن برامج المسابقات تلك تهدف في الأساس لتحقيق أرباح من خلال الدعاية والإعلانات التي تتخللها، ثم أين هي تلك المواهب؟! إن برامج المسابقات لا تضمن لهم مستقبلاً حقيقياً يستوعب مواهبهم. ثم إن تلك المسابقات لا تستهدف إلا فئة اجتماعية وطبقة معينة من المقتدرين، وتهمل الطبقة البسيطة أو المتوسطة.

 وبنظرة عابرة للخلف سوف تكتشف أن أهم مبدعينا وأدباءنا نشأوا في الأصل في بيوت بسيطة أو فقيرة أو متوسطة. إن نخبتنا القديمة في كتلتها الصلبة كانت من ملح الأرض لا من القشدة أو الكريمة الطافية على سطح المجتمع..

تشوهات الحداثة

 كثير من مفكرينا، وعلى رأسهم جمال حمدان، تحدثوا عن الشخصية المصرية أو الهوية القومية. واهتمامهم بمثل هذا الأمر ليس من باب الترف الفكري، بل هو أمر محوري ومصيري.

  هل بيننا اليوم عالم أو مفكر يستطيع أن يرصد ما حدث للشخصية المصرية من تغير، أو يخبرنا أثر هذا التغيير على مستقبل البلد؟ قطعاً هناك تغيير أصاب هويتنا وشخصيتنا، في ظل العولمة والإعلام البديل والثورة وكورونا وحروب الشرق والغرب. إن العِقدين الأخيرين شهدا أحداثاً هائلة، وأجيالاً جديدة نشأت بأفكار مختلفة ورؤى غامضة لا ندري في أي مجري تصب!

 نحن اليوم أحوج ما يكون لحوارات ثقافية جادة تتطرق لقضايا مصيرية تنبع وتصب في الفكر الجمعي، أي الثقافة القومية. المسألة ليست ترفاً أو زائدة دودية يمكن الاستغناء عنها واستئصالها، بل ضرورة مرحلة بها أخطار محدقة تثير القلق..

 الجيل القادم لو لم يشعر باحتواء وإشباع في ثقافته المحلية، سوف يتأثر بالتأكيد بثقافات أخري غريبة عنا. والفضاء السيبرانى بات منفتحاً على كل شيء: على دعاة الإلحاد والتغريب والانحراف. ثم هناك قوي عالمية تتصارع فيما بينها، وتعبث بأذرعها وقواها الناعمة لاستقطاب الشعوب وتكوين أحلاف ومراكز نفوذ. كتلة شرقية مكونة من روسيا والصين وإيران والهند، وكتلة غربية تقودها أمريكا وفى ظهرها أوروبا. والشرق الأوسط بينهما هو محور هذا الصراع، وفيه تشتعل الأوضاع وتشتبك المصالح وتختلط الأحداث. والنتيجة أن شعوب المنطقة تنصهر في بوتقة تدفعها تيارات فكرية متضادة يميناً ويساراً، دون أن يكون لهذه الشعوب ركيزة أو شخصية قومية قوية تواجه تلك التيارات وتقاومها..

  ستظل تشوهات الحداثة تصيب أجيال قادمة، لا ندري إلى أي مدي سيصل تأثيرها المهلك، حتى ينتهي بنا هذا المسار إلى مصير غامض مجهول..

خارطة الثقافة

 لهذا السبب أري أن الثقافة في حاجة لنوع من التخطيط وإعادة التقييم..

وإذا كان حديثي في بدايته عن الحوار الثقافي بمناسبة رمضان، فإن هذا الحوار لابد له أن يحيا ويستمر ويثار. بحثاً عن شخصية مصرية قد تتشوه بفعل تيارات مغرضة قادمة من الشرق أو الغرب. وحفاظاً على تراث لم نعد نهتم بإحيائه، ظناً منا أن الاتجاه للمستقبل يستلزم طمس الماضي وإهمال الجذور والأصول!

 الخريطة الثقافية قد تتغير لو أن المهتمين بها من قادة الرأي قرروا أن يوحدوا جهودهم للرقي بالثقافة وإحداث حالة من الحركة والديناميكية الفكرية ولو بمجرد إلقاء حجر صغير في بركتها الراكدة. لابد من وجود حالة ثقافية تفاعلية قوامها العودة للجذور، والاستخدام الواعي لتقنيات الذكاء الاصطناعي ووسائل السوشيال الميديا التفاعلية لإحداث حركة ثقافية محلية تستوعب الشباب وتحتويهم وتستقطب إبداعاتهم وتستغلها لصالح تقدم الحالة الثقافية ورقيها في اتجاه استعادة الريادة، واستغلال قوتنا الناعمة الاستغلال الأمثل.

 ثم هناك الاستثمار الثقافي الهادف. قد يقوم به رجل أعمال واحد أو لفيف منهم. كما قد يكون في صورة مشروع يجمع ثلة من المثقفين الأثرياء الهادفين لتحريك الراكد من الحياة الثقافية في مصر، مشروع ثقافي قومي لا يتقيد بالروتين الحكومي ولا ينتمي لمؤسسات هادفة للربح. إنه مشروع هدفه الأوحد الارتقاء بالثقافة المصرية، والبدء في مسار ينتهي باستعادة الريادة الثقافية في المنطقة كما كان حالنا دائماً؛ حينما كنا منبع الإبداع ومنهل الثقافة في الشرق الأوسط في كافة مجالات العلم والفن والأدب والفكر.

 إننا في بحثنا عن مشروع ثقافي قومي إنما نبحث عن شخصية ثقافية جديدة تتشبث بالجذور والأصول وتنتفع بأحدث أدوات التكنولوجيا وآخر صيحات الذكاء الاصطناعي. والجمع بين الاثنين يستلزم تضافر الجهود وتعاون المهتمين بالشأن الثقافي وقادة الفكر، كما يستلزم رأسمال يستثمر في الثقافة مهما كانت عائداتها المادية أقل من غيرها. فالاستثمار في مثل هذا المجال هو استثمار في العقول والمواهب والطاقات البشرية، استثمار في الإنسان المصري وهويته.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم